البعوض الإلكتروني... ماكينة لتخريج اللبنانيين من ثورتهم

22 يونيو 2020
+ الخط -
تم إطلاق لقب الذباب الإلكتروني في الخليج على الحسابات الوهمية التي تغرّد بما لا تفقه. الذباب يهذي فقط ينشر الأقاويل، ويعيد نشر تغريدات بشكل عشوائي أوتوماتيكي من دون وعي أو فهم، تماماً كالذبابة التي لا تدرك ماذا تريد حين تحوم فوق رأسك وتُصدر أزيزيها من دون غاية محددة.

في لبنان لدينا شيء مشابه للذباب إلى حد ما، ولكن لديه هدف واضح وصريح وهو لسع المعارضين، إنه #البعوض_الإلكتروني، نعم البعوض تلك الحشرات التي لا تُصدر صوتاً مسموعاً ولا تشعر بها إلا حين تمتص دمك وتترك أثرها على جلدك. البعوض الإلكتروني ليس وليد اللحظة، ولكن ظهر جلياً في موقع تويتر أثناء ثورة الشعب اللبناني في السابع عشر من أكتوبر/تشرين الأول.

معركة الهاشتاغات التي رافقت الثورة كانت تؤرقني، لا سيما وأن جل عملي الصحفي كان في منصات التواصل الاجتماعي. فقد ظهر البعوض جلياً في حرب الأحرف مع أول هاشتاغ ظهر آنذاك #لبنان_ينتفض، ما لبث أن أصبح #لبنان_ينتفص تارة #لبنان_يتنفض أخرى #لبنان_يفتنض بعدها وهكذا.

ولأن أعداد المغردين في لبنان قليلون نسبياً، فمن السهل أن تعود إلى جذور أي هاشتاغ ولو أخذ منك ذلك بعض الوقت، لتجد أن حسابات شبه وهمية بأسماء وكنيات غالبها مستعار بصور شخصية لزعامات حزبية هي من تبدأ معركة تلغيم الهاشتاغات وتحريفها، في محاولة لتشتيت المغردين ومنع الترند من الوصول إلى العالمية تارة، ومنع الهاشتاغات الثورية من البقاء في الترند اللبناني أساساً.


الجدير بالذكر أن موقع تويتر هو الأهم والأوحد في رصد حركة البعوض الإلكتروني. والهاشتاغ في لبنان يتصدر الترند حين تصل أعداد التغريدات نحو الألف تغريدة. وكلما ارتفعت أعداد المغردين حافظ الهاشتاغ على الصدارة لوقت أطول. ألف تغريدة بالنسبة لتويتر تعتبر لا شيء، ويمكن لعدد ثلاثين شخصاً من البعوض الإلكتروني خلال ساعة واحدة أن يحرزوا ترند جديرا بالصمود ليوم كامل في الصدارة، ثلاثون شخصا لا شك سيلفتون أنظار المتابعين لتويتر لبدء العشرات والمئات تداوله، سواء مع أو ضد.

دائماً الهاشتاغات التي يطلقها الثوار والمحتجون تظهر عفوية بعد أي فعل أو خطاب أو إجراء في أرض لبنان، وتتصدر الترند بشكل سريع، ولكن ما تلبث أن تختفي كلياً حين تستوعب ماكينات #البعوض_الالكتروني الخطر، ليتم توزيع هاشتاغات عبر مجموعات واتساب، وتنطلق بعدها في تويتر بآراء مخالفة أو ملغومة لقلب الطاولة على هاشتاغات الثائرين. أبرز المتصدرين للهاشتاغات المضادة للثورة دائما هم العونيون، أتباع ميشال عون وأنصار حزب الله وحركة أمل، مع اختلاف طريقة التعاطي مع كل حدث ومحتوى التغريدات.

مثال، حين انتشر الحديث عن أن الثورة في لبنان تمولها جهات خارجية، أطلق نشطاء هاشتاغ #انا_ممول_الثورة، تحديداً يوم الخامس والعشرين من تشرين الأول، بعد أسبوع من انطلاق الثورة، وتصدّر الترند بشكل سريع، وغرد الكثير تحته مع صور تبرز ابتكارات ومبادرات لدعم الثورة بأساليب فردية وجماعية. وفي المساء، ظهر هاشتاغ ملغوم #انا_ممولة_الثورة فكسر الترند. والغريب أن أغلب من يغردون تحت الهاشتاغ كانوا من فئة الذكور، ورافق الهاشتاغ هاشتاغ آخر ليتصدر معه في نفس الوقت #نصرالله_اشرف_منن.

خطابات ومقابلات متلفزة كثيرة ظهرت في تلك الآونة لزعماء لبنانيين للحديث حول الأزمة، وقد تمت الملاحظة بشكل واضح حملات إلكترونية من البعوض قبيل وأثناء وبعد كل خطاب لأحد زعمائهم، هاشتاغ واحد مدروس مع صور وتصاميم مجهزة تحوي كلمات وشعارات تصف المرحلة بدقة بالنسبة لهم، والهاشتاغ بدون شك يتصدر بشكل قوي وواضح الترند بتغريدات تصل إلى ثمانية آلاف تغريدة بدون أي منافس. مثال: حين خرج نصر الله زعيم حزب الله لإلقاء خطاب في الثالث والعشرين من أكتوبر، انتشرت صورة معصمه وهاشتاغ #يا_معز_المومنين. وقبيل خطاب الرئيس عون في اليوم التالي برز هاشتاغ #عون_لبنان.

نترك بداية الثورة ونأتي إلى القريب، فقد نشر حساب "ليبانون ديبايت" تغريدة مفادها: كل بوست يطاول مقام الرئيس عون.. سيلاحق! وكرد فعل عفوي، برز هاشتاغ #ميشال_نوم على الترند في تويتر لبنان، أعرب من خلاله المغردون عن استنكارهم لمثل هذه القرارات في ظل الظروف التي تمر بها البلاد، لا سيما أنه بالنسبة للكثير فإن الرئيس لم يعد يمثل لبنان، فالليرة في الهاوية، لا كهرباء، لا أمن، وجائحة كورونا ألقت بظلالها على كل شيء، حتى من كان يفكر في الرحيل عن البلاد، كما دعاهم الرئيس عون سابقاً حين قال "اللي مش عاجبو يهاجر" لا يستطيع، فالمطار مغلق، وسبل الفرار عبر باقي الحدود معدومة. هاشتاغ #ميشال_نوم اختفى بعد سويعات ومكانه ظهر #ميشال_عون طبعا مع تغريدات تمجده من جديد.

ماكينة البعوض الإلكتروني لا شك كانت وما زالت لها دور بالغ في عدم وصول صوت وصورة الثورة بشكل أكبر إلى العالم. ولا شك أن هذا البعوض أنقذ "العهد" في الكثير من المواقف والأزمات التي عصفت به، حيث إن ماكينة العهد هي المكمل للبعوض الإلكتروني، ينحصر دورها في خدش الحياء العام من خلال كيل الشتائم، ولأن الثورة بدأت بـ"هيلا هيلا هو" فقد أخذ العهد اللواء وبات يكملها على كل من انتقد حكمهم أو أحد من زعمائهم أياً كان.

في مقابل البعوض الإلكتروني، لا يوجد توحيد واضح للمغردين الثوريين، فالهاشتاغات غالبها يكون نمطيا عفويا وليد اللحظة يظهر فجأة ويختفي عندما يتم تعميم هاشتاغ ملغوم مباشرة من قبل البعوض. كما أن هاشتاغات التضامن والأفكار تكون مشتتة، مما يسمح للبعوض بالانقضاض بسرعة وسهولة على الهاشتاغ والنيل منه. على سبيل المثال: بعد أن تم اعتقال الناشطة كيندا الخطيب ظهرت الهاشتاغات التالية #كيندا_الخطييب #الحرية_لكيندا_الخطيب #أطلقوا_سراح_كيندا_الخطيب وغيرها كذلك.

التشتت يتضح من كثرة الهاشتاغات، وفي المقابل بعد ساعات قليلة ظهر هاشتاغ تصدّر الترند مباشرة واختفت كل الهاشتاغات التي تتحدث عنها #كيندا_الخطيب_عميلة، طبعا هذه هي التهمة المباشرة التي وجهت لها بسبب إعادة نشر تغريدة لأحد المسؤولين في جيش الاحتلال، والغريب أن من شاركوا هاشتاغ #كيندا_الخطيب_عميلة قد أعادوا نشر تغريدة العدو مع إعادة تغريدة كيندا ولكن من دون أن يحاسبهم أحد. فالكيل واضح والمقصود أكبر بكثير من هذا الأمر. فأي صوت لا يكون لصالح البعوض الإلكتروني هو خارج من حشرة أخرى مختلفة، يجب الدوس عليها، ولا بد أن تتعهد بعدم المساس بالتابوهات التي تضعها هذه الماكينة تحديدا ومن يقف وراءها إذا أرادت أن تحظى بالحياة، وإلا فسيحل بها مصير الذبابة التي كنا نلتقطها من شبابيك منازلنا حين كنا صغاراً، نقطع أجنحتها كي لا تطير وننظر إليها فرحين بإنجازاتنا. البعوض الإلكتروني في لبنان يتحكم في الساحة الرقمية فعلياً وفي ساحات الاعتصام ضمنياً.

تويتر ليس البداية ولا النهاية في معركة الكرامة والحرية، والثورات تعلمنا أن الحرية لا تأتي بدون تضحيات، والتضحيات لا تأتي بدون أن نرفع الصوت ونوحد الكلمات والصفوف. والوقوف وراء أي مطلب لا بد أن يكون عن قناعة تامة بعيدة كل البعد عن قناعات الزعماء والسياسين الذين هم أساس اندلاع الثورة، ولعل أكثر ما يغضب البعوض الإلكتروني هو هاشتاغ #كلن_يعني_كلن، ولكن للأسف هذا الهاشتاغ خرج من أفواه أشخاص لم يقتنعوا به، اطلقوه ووقفوا وراء زعمائهم منتظرين المعونة الغذائية في ظل الأزمة الراهنة وتركوا الهاشتاغ وحده حزينا.
دلالات