وأنت ترى مشهد الخيام المنصوبة أمام وزارة التشغيل بالعاصمة تونس، تظنّ أنّ ساكنيها هم مجموعة من فاقدي السّند الاجتماعي، أو لاجئون من إحدى مناطق التوتّر هربًا من ويلات الحرب، ولكنّ الحقيقة مجانبة لهذا تمامًا، لأنّهم ببساطة، مجموعة من الشباب التونسيين العاطلين عن العمل، تجمعوا منذ تاريخ 12 فبراير/ شبّاط من السنة الجارية أمام وزارة التشغيل، وقد قدموا من محافظة القصرين من الداخل التونسي، وأعلنوا عن دخولهم في اعتصام مفتوح إن لم يعودوا إلى ديارهم، وقد حصلوا على حلول جذريّة لمشكلة عجزت عن حلّها خمس حكومات متتالية في تونس.
وبين طيّات هذا المسلسل الطويل، خرج وزير التشغيل التونسي ليصرّح بأن باب الوظيفة العموميّة قد أغلق لثلاث أو أربع سنوات قادمة، الأمر الذي أصاب المحتجين بالإحباط؛ فالشاب أنيس نصرلّي (32 سنة)، متخرّج منذ سنة 2010 وحاصل على شهادة مساعد صحّي من جامعة علوم الصّحة بتونس ولم يتوظّف حتى الآن، يتساءل الشاب في حديث إلى "جيل"، عن مصير المتخرّجين من الجامعات لأربع سنوات القادمة، ويعلّق: "فليوقفوا التعليم أربع سنوات أخرى ما دامت أبواب الوظائف مغلقة، لماذا درستموني إذن؟".
يرجع أنيس، أسباب البطالة في تونس إلى المحسوبيّة، معتبرًا أن الذين يحصلون على وظائف، يعتمدون على أشخاص نافذين غالبًا، وهو ما كان سائدًا بحسبه قبل الثورة التونسية التي أطاحت ببن علي، ويستطرد قائلًا: "لو يقدّم لنا الوزير ضمانات بأننا سنتوظّف، بعد أربع سنوات فبإمكاني الانتظار، على أن يوفّر لي منحة بطالة تكفيني لأعيش كل هذا الوقت عاطلًا عن العمل".
الحالات المشابهة للشاب أنيس، موجودة بكثرة داخل اعتصام وزارة التشغيل وخارجه، فرفيقه في البطالة رشدي الطرشي (28 سنة)، الحاصل على الأستاذية في الحقوق منذ خمس سنوات، أكد أنّه ليس متشائمًا رغم الأزمة التي تمرّ بها البلاد، وفشل الحكومات المتعاقبة في إيجاد سبل للتخلص من البطالة.
وأضاف المتحدّث، أن الوزير السابق للتشغيل قال له كلامًا لم يفهمه إلى الآن، "قال لي تونس مهمّتها تدريسك لتثقيفك وليس لتشغيلك"، ويردف الطرشي أنه ما زلت متفائلًا ويأمل من حكومة يوسف الشاهد أن توظّفه، رغم أنه لم ير شيئًا ملموسًا إلى الآن، ولا حتّى وعودا صادقة إلى الآن على حدّ تعبيره، ويوضّح أن الحكومة الحالية كسابقاتها؛ ما زالت لم أفهم أن عجلة المشاريع الخاصّة لا تتحرّك بسبب اهتراء البنية التحتية وقلّة الإمكانات، وضمور القدرة الشرائية".
من جهة أخرى، وتزامنًا مع تصريح السيّد عثمان بطّيخ مفتي الجمهوريّة، الذي خرج بفتوى للشباب الذين يعانون من البطالة، مفادها أنّ الخروج في احتجاجات ضدّ الحكومة "منافٍ للشرع"، يعلّق الشاب عبد الله اللطيفي (30 سنة)، والذي ينحدر من منطقة ماجل بن عباس، حاصل على الأستاذية في الرياضيات وعاطل منذ سبع سنوات، قائًلا: "اليوم صرنا نرى أذرعًا إعلاميّة ودينية للعصابة التي تحكم هذا البلد، وصرنا نسمع تصريحًا لمفتي الجمهورية يحرّم الاحتجاجات، وأن مثل هذه الأعمال ليست من شيم المسلمين، أيّ أنه كفّرنا بصفة غير مباشرة، وأتساءل هنا، هل صار مفتي الجمهورية ملحقًا تابعًا لوزارة الداخلية، هل أنهى مهامه في كل ما يخص الزكاة والصوم والحجّ والدواعش ليتفرّغ إلى البطالين؟".
اليوم صارت هناك يد سياسية تتحكّم حتى في دار الإفتاء وهذا أمر خطير بحسب اللطيفي، ويعتبر أن علاقة منطقتهم المهمّشة في تونس بالحكومات صارت علاقة "جنائزية" على حدّ وصفه، مضيفًا أن يتنبأ بثورة قادمة قد تعيد إلى شوارع تونس مشاهد القتل والسحل في الشوارع، لأن تردّي الأوضاع يسير تصاعديًا على حدّ قوله.
كلمات عبد الله كانت مملوءة بالحنق على وضعه الذي يمرّ به، وكانت تعلو وجهه مسحة من الكآبة واليأس والغضب في آن واحد.
عبد الله ورشدي وأكرم، هم اختزال لحالة المخاض العسير الذي تمرّ به "تونس الثورة"، وشعار المرحلة الجديد الذي صار يؤمن به أمثال هؤلاء العاطلين عن العمل، هو أنه "لم يعُد في قوس الصّبر منزع"، ويعزو بعضهم هذا الغضب، إلى نداءاتهم المتوارية عن خمس حكومات متعاقبة، والتي تتحوّل في كلّ مرّة إلى هشيم تذروه الرّياح.