بعد باسم يوسف، تقريباً لاحظنا انهيار عقد طويل من البرامج الكوميدية في العالم العربي. تراجع الضحك عن الشاشات، ولم تعد الأخيرة تنتج سوى الخبر التقليدي، والضحك انحسر ضمن إطار "المسموح". داخل مصر، لا جديد على الأقل يوازي تجربة يوسف، بغض النظر عن الانتقادات التي تطال تلك التجربة. أما خارجها فتبرز تجارب عدة خرجت من عباءة الأنظمة في المضمون وفي الجغرافيا. ولعلّ أبرز هذه التجارب برنامج "جو شو" الذي يقدّمه يوسف حسين على شاشة التلفزيون العربي. لاقى البرنامج نجاحاً كبيراً ومستمراً، تخطّى قاعدة الجمهور المصريّ، نحو العالم العربيّ.
في لبنان اختفى برنامج "شي أن أن" بنسخته المعدّلة. لم يظهر ما يوازيه، بعد "وراثته" لجيل كامل من الكوميديا الملوثة بالحسابات الطائفية. أما في سورية، فتعب السوريون من آلة الموت النظامية، وصار الضحك تجاوزاً متكلفاً للمأساة. لكن تراجع هذه البرامج، من العالم العربي عموماً، ليس مصادفة.
هناك من هو على علاقة "فطرية" بالضحك. هناك الذي يتطفل أيضاً. مثل أي مهنة، التحسر على غيابها، أو البحث عن أسباب هذا الأفول، لا يعني بالضرورة أن الجميع كانوا موهوبين. لكن غياب مساحة الضحك أو تراجعها يبقى أمراً لافتاً. وهناك أصناف من السخرية، وهناك فروع لها، من السياسة إلى المجتمع إلى الفن، وأشياء أخرى كثيراً. ربما يكون باسم يوسف أدخل شكلاً "ليبرالياً" جديداً إلى العالم العربي، وخرج منه لأن الناس استنفدت انبهارها بهذا الشكل، في موازاة تطور الأداة القمعية.
وربما تكون البرامج اللبنانية، الطريفة منها، أو الفاشلة إلى درجة مخيفة، اعتمدت أسلوباً من ضمن النظام والتركيبة اللبنانية، للسخرية من النظام، عبر الغرق في بحيرة النظام نفسها. فبرنامج "شي أن أن" الذي تحول إلى "بي بي شي" لم يجد مكاناً يتحمله في النهاية، رغم أنه حمّل نفسه عبء التوازنات اللبنانية. ورغم نجاحه في إحداث اختراقات والتأثير بفئات اجتماعية كانت مغلقة، التزم فريق سلام الزعتري، صديق باسم يوسف، بالمنحى الليبرالي الذي التزمه صديقه، فكان الفريق في حالته اللبنانية عبارة عن مجموعة أشخاص يتوزعون حسب معايير الصيغة الطائفية اللبنانية. ومع أن الفريق نجح في تقديم هذا التوازن في داخله كمادة دائمة للسخرية من النظام بحد ذاته، إلا أنها كانت مراعاة للنظام الذي طحن السخرية في النهاية. أليس غريباً ألا يرافق انتفاضة اللبنانيين اليوم أي برنامج كوميدي؟
باليد اليمنى الحديدية، خرج "البرنامج" من القاهرة، وباليد اليسرى "الخفيفة" خرج رديفه اللبناني من الصورة أيضاً، بحيث لم يعد ممكناً لأي من المحطات اللبنانية أن تستوعبه. أما الكوميديا السورية في ظل هيمنة النظام، فاسمها فضفاض عليها، إذا استعرنا تعبيراً مهذباً. تغيّرت الأحداث، فتراجعت برامج الكوميديا الحقيقية. وغالباً، ستأتي مادة هذه البرامج من الواقع وليس من الخيال. تأتي من الأحداث، ومن الرغبة بالمشاركة في الحدث، وفي الاعتراض على الجانب المستبد. ومهما كان الحدث قاسياً، كانت البرامج قادرة على الالتفاف حوله.
في الولايات المتحدة الأميركية، اشتغل جزء كبير من هذه البرامج أيام الحرب في فيتنام، وفي لبنان كان الأمر رائجاً في عز الحرب الأهلية، وفي الدول العربية كانت الفكاهة سلاحاً في زمن الربيع ضدّ الاستبداد، إن كان ذلك في مصر، أو في سورية التي وجد أهلها متنفساً للضحك في ثورتهم رغم كل مجازر النظام الدنيئة. لذلك، فإن تراجع حضور السخرية كأداة، أو كمادة، يُفسّر بالدرجة الأولى كتراجع لحضور الحدث نفسه، والاستسلام إلى رتابة العيش تحت السُلطة. لا يعني اختفاء هذه البرامج أن الأفكار تجمّدت وحسب، بل يعني أيضاً أن الوجوه أرهقت، وأنها دخلت مرحلة الخطر مجدداً. الضحك كان إعلاناً لتجاوز الخطر.
لا يلغي ذلك أن اختفاء جزء كبير مما يمرّ في تلك البرامج قد يكون أمراً حسناً. تلك اللقطات الغبية التي تسخر من العمال و العاملات الأجنبيات، وتنمّط المرأة في بازار الإعلانات، أو تضحك لمديح الاستبداد. في كل بلد عربي تقريباً يوجد برامج من هذا النوع، أو كوميديون من هذا النوع الذين لا يفهم أحد من أين تأتي ثقتهم بأنفسهم. وإذا كان الضحك يؤدي إلى نوع من "الاتفاق" بين "الجمهور" على تحطيم محظورات سابقة، فإن السماجة أثناء المعالجة بالضحك قد تزيد المقدّس قدسية، وتنفّر الراغبين بالتخلص من رهبة المحرّمات. وفي أي حال، ليس الحديث هنا عن التزام برامج السخرية العربية بمعايير صارمة (Political correctness)، بل عن تراجع هذه المادة في بلدان مثل لبنان ومصر مثلاً إلى درجة الاختفاء.
النكات حادة أكثر من السيوف، يعتقد باسم يوسف. لكنها ليست مسننة، وليست عمودية. النكات اعتراض أفقي على سلطة الأعمدة. ولد باسم يوسف لأسرة تنسحب عليها معايير "الطبقة الوسطى" التقليدية في مصر. لديه شقيق واحد، مهندس، وهو طبيب. في مقابلة له قال ممازحاً، لو كان لدينا شقيقان بعد، لكان أحدهما محامياً والآخر طبيب أسنان، وكانت العائلة ستكون تقريباً يهودية. وبمعزل عن كون "نكتة" يوسف ستُحْسَب على حافة "المس" بعداء السامية، إلا أن يوسف في الواقع يسخر من نفسه ومن عائلته، أكثر من أي طرف آخر. لكن يوسف ليس مرجعاً في السياسة، فقد أعجب مثلاً بالنائب اللبناني وليد جنبلاط خلال زيارته لبيت الدين، ثم فوجئ لاحقاً بإعجاب جنبلاط نفسه بالرئيس المصري عبد الفتاح السيسي.
السخرية تزعزع السلطة. إنها محاولة لضبط حدودها، وإفهامهما أنها ليست مطلقة. لذلك، ثمة علاقة واضحة، رغم أنها معقدة وتزداد تعقيداً مع الوقت، بين الأحداث والكوميديا. فالبرامج التي نتحدث عنها، لم تكن تعلّق على الهواء، وحضور المجتمع فيها كان ضئيلاً بالقياس إلى حضور الحدث السياسي. لذلك، يمكن الافتراض أيضاً، أنه بتوقف الربيع العربي عن الخفقان، توقف الحدث، فتوقف التعليق عليه أيضاً، أو خفت، حتى لا نقول إنه توقف تماماً.
اقــرأ أيضاً
الكوميديا، كما يقول دان نيمو وجايمس كومبس، وسيلة لكي تلاحظ نفسك. في محاولة اختراع ترجمة "سياسوية" لهذا التحليل السوسيولوجي، بما أن السياق الذي نتحدث عنه هو سياق سياسي، يمكن القول إن الضحك الذي رافق الثورات العربية، كان وسيلة لكي يكتشف الفرد حريته، وتالياً لمراكمة هذا الوعي مع رأي عام تشكل في صعود الربيع، حول الحرية. كان الضحك، نقطة قوة أساسية في التقليل من هيمنة الذين يملكون القوة، وإعلاناً واضحاً على رفض هذه الهيمنة. هناك علاقة ما، يمكن افتراضها، بين الضحك وبين الثورات. بين صعود العاملين، وبين تراجعهما. لا أحد يشبه نفسه، أو تشبه نفسها، إلا عندما يضحكون من قلوبهم، كما نقول بالعربية. ولعل المصطلح يأتي من هنا، أي أن ملامح الضحك ترتسم على الوجه، مثل الثورات تكون ظاهرة للعيان، لكنها تبدأ من مكان عميق في القلب.
عندما يضحك الناس، تكون مقاومتهم للخوف قد سقطت تماماً، وعندما يثورون فهذا يعني حدوث الأمر نفسه. الذي يضحك يواجه احتمالات مفتوحة، والذي يثور كذلك أيضاً. عندما يكون العقل صافياً، يضحك القلب، وتجد الأفكار أرضية مناسبة للولادة، وليس مصادفة أن تعمل الثورات بذات الطريقة، وأن يرتبط نجاح الثورات في النهاية، بالابتسامات الطويلة حد الضحك، بعد التخلص من استبداد ثقيل. توقف الشاشات العربية عن الضحك، لا يعني بالضرورة أننا مجتمعات بائسة، لم تعد قادرة على إنتاج الضحك، وليس منطقياً أن يكون هذا الافتراض موجوداً من أساسه. لكن يحق لنا القول إن تراجع مساحة الضحك، يعني تراجع مساحة الاعتراض، مقابل نمو الخوف. يعني تراجع الأفكار الجديدة، مقابل الاستسلام لما رست عليه التجارب. هذا التراجع ربما يعني التعب، الكثير من التعب.
في لبنان اختفى برنامج "شي أن أن" بنسخته المعدّلة. لم يظهر ما يوازيه، بعد "وراثته" لجيل كامل من الكوميديا الملوثة بالحسابات الطائفية. أما في سورية، فتعب السوريون من آلة الموت النظامية، وصار الضحك تجاوزاً متكلفاً للمأساة. لكن تراجع هذه البرامج، من العالم العربي عموماً، ليس مصادفة.
هناك من هو على علاقة "فطرية" بالضحك. هناك الذي يتطفل أيضاً. مثل أي مهنة، التحسر على غيابها، أو البحث عن أسباب هذا الأفول، لا يعني بالضرورة أن الجميع كانوا موهوبين. لكن غياب مساحة الضحك أو تراجعها يبقى أمراً لافتاً. وهناك أصناف من السخرية، وهناك فروع لها، من السياسة إلى المجتمع إلى الفن، وأشياء أخرى كثيراً. ربما يكون باسم يوسف أدخل شكلاً "ليبرالياً" جديداً إلى العالم العربي، وخرج منه لأن الناس استنفدت انبهارها بهذا الشكل، في موازاة تطور الأداة القمعية.
وربما تكون البرامج اللبنانية، الطريفة منها، أو الفاشلة إلى درجة مخيفة، اعتمدت أسلوباً من ضمن النظام والتركيبة اللبنانية، للسخرية من النظام، عبر الغرق في بحيرة النظام نفسها. فبرنامج "شي أن أن" الذي تحول إلى "بي بي شي" لم يجد مكاناً يتحمله في النهاية، رغم أنه حمّل نفسه عبء التوازنات اللبنانية. ورغم نجاحه في إحداث اختراقات والتأثير بفئات اجتماعية كانت مغلقة، التزم فريق سلام الزعتري، صديق باسم يوسف، بالمنحى الليبرالي الذي التزمه صديقه، فكان الفريق في حالته اللبنانية عبارة عن مجموعة أشخاص يتوزعون حسب معايير الصيغة الطائفية اللبنانية. ومع أن الفريق نجح في تقديم هذا التوازن في داخله كمادة دائمة للسخرية من النظام بحد ذاته، إلا أنها كانت مراعاة للنظام الذي طحن السخرية في النهاية. أليس غريباً ألا يرافق انتفاضة اللبنانيين اليوم أي برنامج كوميدي؟
باليد اليمنى الحديدية، خرج "البرنامج" من القاهرة، وباليد اليسرى "الخفيفة" خرج رديفه اللبناني من الصورة أيضاً، بحيث لم يعد ممكناً لأي من المحطات اللبنانية أن تستوعبه. أما الكوميديا السورية في ظل هيمنة النظام، فاسمها فضفاض عليها، إذا استعرنا تعبيراً مهذباً. تغيّرت الأحداث، فتراجعت برامج الكوميديا الحقيقية. وغالباً، ستأتي مادة هذه البرامج من الواقع وليس من الخيال. تأتي من الأحداث، ومن الرغبة بالمشاركة في الحدث، وفي الاعتراض على الجانب المستبد. ومهما كان الحدث قاسياً، كانت البرامج قادرة على الالتفاف حوله.
لا يلغي ذلك أن اختفاء جزء كبير مما يمرّ في تلك البرامج قد يكون أمراً حسناً. تلك اللقطات الغبية التي تسخر من العمال و العاملات الأجنبيات، وتنمّط المرأة في بازار الإعلانات، أو تضحك لمديح الاستبداد. في كل بلد عربي تقريباً يوجد برامج من هذا النوع، أو كوميديون من هذا النوع الذين لا يفهم أحد من أين تأتي ثقتهم بأنفسهم. وإذا كان الضحك يؤدي إلى نوع من "الاتفاق" بين "الجمهور" على تحطيم محظورات سابقة، فإن السماجة أثناء المعالجة بالضحك قد تزيد المقدّس قدسية، وتنفّر الراغبين بالتخلص من رهبة المحرّمات. وفي أي حال، ليس الحديث هنا عن التزام برامج السخرية العربية بمعايير صارمة (Political correctness)، بل عن تراجع هذه المادة في بلدان مثل لبنان ومصر مثلاً إلى درجة الاختفاء.
النكات حادة أكثر من السيوف، يعتقد باسم يوسف. لكنها ليست مسننة، وليست عمودية. النكات اعتراض أفقي على سلطة الأعمدة. ولد باسم يوسف لأسرة تنسحب عليها معايير "الطبقة الوسطى" التقليدية في مصر. لديه شقيق واحد، مهندس، وهو طبيب. في مقابلة له قال ممازحاً، لو كان لدينا شقيقان بعد، لكان أحدهما محامياً والآخر طبيب أسنان، وكانت العائلة ستكون تقريباً يهودية. وبمعزل عن كون "نكتة" يوسف ستُحْسَب على حافة "المس" بعداء السامية، إلا أن يوسف في الواقع يسخر من نفسه ومن عائلته، أكثر من أي طرف آخر. لكن يوسف ليس مرجعاً في السياسة، فقد أعجب مثلاً بالنائب اللبناني وليد جنبلاط خلال زيارته لبيت الدين، ثم فوجئ لاحقاً بإعجاب جنبلاط نفسه بالرئيس المصري عبد الفتاح السيسي.
الكوميديا، كما يقول دان نيمو وجايمس كومبس، وسيلة لكي تلاحظ نفسك. في محاولة اختراع ترجمة "سياسوية" لهذا التحليل السوسيولوجي، بما أن السياق الذي نتحدث عنه هو سياق سياسي، يمكن القول إن الضحك الذي رافق الثورات العربية، كان وسيلة لكي يكتشف الفرد حريته، وتالياً لمراكمة هذا الوعي مع رأي عام تشكل في صعود الربيع، حول الحرية. كان الضحك، نقطة قوة أساسية في التقليل من هيمنة الذين يملكون القوة، وإعلاناً واضحاً على رفض هذه الهيمنة. هناك علاقة ما، يمكن افتراضها، بين الضحك وبين الثورات. بين صعود العاملين، وبين تراجعهما. لا أحد يشبه نفسه، أو تشبه نفسها، إلا عندما يضحكون من قلوبهم، كما نقول بالعربية. ولعل المصطلح يأتي من هنا، أي أن ملامح الضحك ترتسم على الوجه، مثل الثورات تكون ظاهرة للعيان، لكنها تبدأ من مكان عميق في القلب.
عندما يضحك الناس، تكون مقاومتهم للخوف قد سقطت تماماً، وعندما يثورون فهذا يعني حدوث الأمر نفسه. الذي يضحك يواجه احتمالات مفتوحة، والذي يثور كذلك أيضاً. عندما يكون العقل صافياً، يضحك القلب، وتجد الأفكار أرضية مناسبة للولادة، وليس مصادفة أن تعمل الثورات بذات الطريقة، وأن يرتبط نجاح الثورات في النهاية، بالابتسامات الطويلة حد الضحك، بعد التخلص من استبداد ثقيل. توقف الشاشات العربية عن الضحك، لا يعني بالضرورة أننا مجتمعات بائسة، لم تعد قادرة على إنتاج الضحك، وليس منطقياً أن يكون هذا الافتراض موجوداً من أساسه. لكن يحق لنا القول إن تراجع مساحة الضحك، يعني تراجع مساحة الاعتراض، مقابل نمو الخوف. يعني تراجع الأفكار الجديدة، مقابل الاستسلام لما رست عليه التجارب. هذا التراجع ربما يعني التعب، الكثير من التعب.