البدعة الجديدة: صناعة الترفيه على يوتيوب

23 يناير 2017
(تصوير: أزن كوس/ فرانس برس)
+ الخط -

تُرفَع 300 ساعة من الفيديوهات كل ساعة إلى يوتيوب، ويصل عدد المستخدمين للموقع إلى مليار و325 مليون مستخدمٍ، 70 % منهم خارج الولايات المتّحدة، غالبيتهم الساحقة تستعمل الهواتف المحمولة للدخول إليه. لا شك أن الإحصائيات السابقة تثير حيرةً كبيرة، أشبه بضوضاءٍ ومزيجٍ غير متجانس من الأصوات التي استطاعت فجأةً أن تصرخ أو تغني، أو أن تعطي تحليلًا عن الأسبوع الأخير في الدوري الإنكليزي أو الحرب ضد "داعش".

بعدما أصبح تجدّد هذه الضوضاء مرتبطًا بالدقائق والثواني المعدودات، صار من الأمثل التعامل مع شريحةٍ منها، من زاويةٍ محدّدة، تتعامل معه كرسالةٍ في حدّ ذاتها لا وسيطًا مستحيل الفهم للتدفق دفعةً واحدة، حيث تحاول المادة التصدّي لصناعة الترفيه اليوم على يوتيوب، في حين أن الظاهرة أخذت في التوسّع والتطوّر يوميًا، معتمدة على مجهودٍ شخصي، بعيدٍ عن فكرة الاستوديو وطاقم العمل، وأقرب من حيث الشخصيات والشكل والمضمون إلى المتفرّج ذاته.


بتفصيلٍ أكثر
نقصد بصناعة الترفيه على يوتيوب، بشكله الأضخم والأكثر شيوعًا، مجموع الفيديوهات المكوّنة بالكامل من جهد صانعيها، خلافًا لرفع المواد الجاهزة، كالأغاني وسواها، والتي تأخذ اليوم غالبًا شكلًا دراميًا (Wepisodes)، أوبرامج الحديث المباشر أو الحوار المعتمدة على المقدّم الرئيسي الذي غالبًا ما يكون بعيدًا عن العمل الإعلامي التقليدي و"طبيعيًا" أكثر بما يحقق ارتباط المشاهد به. ويمتاز هذا النوع من المحتوى – والذي بدأ يتّجه نحو تسمية البرنامج - باعتماده على شرطٍ طبيعيٍ للإنتاج، بعيدًا عن أماكن التصوير والمعدّات المتطوّرة، أو أي جهاتٍ إعلامية أو عاملة في الإنتاج، مستمدًا صفةً اعتبارية من اسم المستخدم ببساطة، تأكيدًا على الشرط.

وتطرح هذه البرامج موضوعاتٍ عدة وبسيطة؛ كلعب فيديو شائعة، لتصل إلى التعليق على مواضيع من الحياة اليومية والنقد الاجتماعي، بل إن هذه الأنواع تختلط أحيانًا، ليحصل المشاهد على مزيجٍ فريدٍ من بثٍ لاقتحامٍ عسكري في لعبة فيديو مرفوق بتسجيل صوتيٍ، يبدي فيه صاحبه رأيه حول الحركة النسوية اليوم، أو انتخاب دونالد ترامب رئيسًا للولايات المتحدة الأميركية.


من منظورٍ اقتصادي
لا بدّ لفهم هذا الانتشار من النظر إليه اقتصاديًا، كون الربح في مجالٍ ما أهم أسباب شيوعه، والكسب من نشر المحتوى عبر يوتيوب مرتبطٌ بشكل رئيسيٍ بالإعلانات على الموقع، المدارة من طرف خدمة "Adsense" التي توفرّها غوغل لمستخدميها، ومن بينهم مستخدمو يوتيوب.

ترتكز "Adsense" في عملها على توجيه الإعلانات بدقّةٍ نحو الجمهور الأكثر احتمالًا للتفاعل معها، معتمدةً على ذاكرة التصفّح السابقة والكلمات المفتاحية الأبرز التي يستعملها المستخدم، بالإضافة لنوع الفيديوهات التي يتابعها هذا المستخدم ومعلوماته المتوفّرة على حسابه، والتي من شأنها ربطه من حيث المتغيّرات (السن، الجنس، المكان، اللغة ..) بالإعلانات الأنسب.

وبعد ربط المسؤول عن قناة اليوتيوب حسابه بـ "Adsense "، يبدأ بتقاسم ريع الإعلانات المعروضة على فيديوهاته مع يوتيوب بنسبة 55 في المائة له و45 في المائة ليوتيوب. وبشكلٍ وسطي، فإن كل مشاهدة تُعطي إعلانًا واحدًا، إذا ما استثنينا حالاتٍ كالبلدان التي تُحجب عنها الإعلانات. وكل 1000 مشاهدة تُنتج وسطيًا ربحًا مقداره 7.60 دولارات، مع العلم أن هذه التسعيرة تختلف باختلاف محتوى الفيديو، فالمقاطع التي تثير اهتمام شرائح أوسع من حيث المتغيّرات السابقة ترتفع تسعيرتها الوسطية هذه.

وبالإضافة لما سبق، فإن بعض نجوم الموقع المحبوبين، تتواصل معهم الشركات المُعلنة بشكلٍ مباشر لعرض منتجاتهم أو الترويج لها عبر البرنامج، بشكلٍ إعلانيٍ أكثر جدوى.

وفي عام 2016 وحده، جنى السويدي فيليكسكيلبرغ الذي يُعرَف على يوتيوب بـ "Pewdiepie" مبلغ 15 مليون دولار، وهو رقمٌ يصعب على بعض مشاهير "العالم الواقعي" الوصول إليه، رغم أن غالب محتوى قناته متعلّق بألعاب الفيديو، ما يجعل هذه الصناعة الناشئة، على الأقل من منظورٍ اقتصادي، في حالة مجابهة مع الصناعة التقليدية، متخطيةً مرحلة النشوء أو التجريب.


كوسيلة اتصال
يوفّر الشكل الجديد من صناعة الترفيه أو البرامج هذا قدرةً على جعل المتلقي إيجابيًا، ومشاركًا في صناعة المادة. وفي هذا الصدد لا بدّ من ذكر أن أغلب قنوات يوتيوب الكبيرة، تعتمد في أحيانٍ كثيرة على جمهورها لتحديد فكرة أو موضوع الحلقة القادمة، بالإضافة إلى التفاعل مع هذا الجمهور بشكلٍ مباشر بين الفترة والأخرى للحفاظ على علاقةٍ وثيقة بين الطرفين.

ويعود هذا الحرص، إلى أن الجمهور كما في الوسائل التقليدية، هو متلقي الإعلانات، وبالتالي هو موفّر الربح. الفرق عند يوتيوب يكمن في أن المعلومات والإحصائيات مكشوفة، وأي تداعٍ سيظهر جليًا وقد تتضخّم آثاره، فضلًا عن أن جمهور هذه القنوات يختلف عن ذاك الذي يتابع باقي الوسائل بأنه يملك زرًا لـ "عدم الإعجاب"، ومكانًا فوريًا للنقاش وإدراج التعليق أسفل كل فيديو، يُمكِن داخله أن تنتهي مجموعة من التعليقات ككرة ثلجٍ بنتائج كارثية كإلغاء المتابعة أو تباطؤ النمو على الأقل.

ولا يجب أن ننسى أن أنماط الاتصال الجديدة تُتهم بتقصير فترة الانتباه، وبالتالي توليد شريحة من الجمهور قد يفقد اهتمامه بسرعة، أو يعرف بساطة توفير برامج بديلة بكبسة زر، ما يؤدي بكل الحالات هذه إلى خسارة اهتمام المُعلنين، وهبوط مستوى القناة في بيئة تعمل 24 ساعة متواصلة.

وتشهد إحصائيات يوتيوب على قنواتٍ عانت هذا الأمر، كقناة "Raywilliamjohnson" التي انخفضت مرتّبتها من حيث المتابعين من المرتبة الأولى إلى الرابعة والعشرين في فترةٍ وجيزة.


نشاط اجتماعي
من جهةٍ أخرى، إن ما يجعل هذه الصناعة مميّزة، هو لعبها دورًا مزدوجًا، فهي تقدّم مواد مختلفة، لكنها في الوقت ذاته، توفّر بيئة اجتماعية ذات شروطٍ محدّدة وقواسم مشتركة بين أفرادها، ما يضيف لمتابعتها نشاطًا "اجتماعيًا" بالمعنى الحديث، والأهمّ من هذا كله خلق سياقٍ يحتوي على البرامج وصانعيها ومتابعيها، بحيث تساهم هذه "الأداة" التي كونّاها أو ساهمنا في انتشارها بتغييرنا.

فهذه البرامج، ليست منفصلةً عن بعضها، والعلاقات بينها أكثر وضوحًا مما نجده في أنواعٍ أخرى.

وبغض النظر عن طبيعة العلاقات الاجتماعية فإنها تترك آثارًا ملحوظة، ففي حالة عداوةٍ مثلًا، تبدأ الحرب الافتراضية بمقطعٍ أو سلسلة مقاطع تتبادل فيه قناتان على الأقل الانتقاد أو السخرية، ولا يتوقّف الأمر هنا بل يمتد إلى الجمهور الذي قد يهاجم قناة العدو -إن صحّت التسمية- ويترك رد فعلٍ سلبي على محتواها - سبق وأشرنا إلى الآثار التي يمكن أن يسببها- وحتى ضمن مجتمع القناة الواحدة يحدث التغيير؛ فنرى ظهور مصطلحاتٍ خاصة بكل مجتمع، ومعانٍ اصطلاحية جديدة لكلماتٍ أو إشاراتٍ أو أغانٍ أو صور تختلف عن ذلك الأصلي الذي يرتبط بها.

إن ما سبق ذكره، ابتداءً بالسباق على أموال الإعلانات، وانتهاءً بمميّزات هذه الصناعة يجعلها ندًا قويًا للتلفزيون. ورغم أن يوتيوب اليوم ما زال يلعب دورًا مساعدًا له، من حيث توثيق مواده والترويج لها، بل ومدّه بالأفكار، إلا أن الحال لن يبقى كذلك، فوفقًا لإحصائيات يوتيوب يفضّل كل 6 من أصل 10 أشخاص اليوم منصات الفيديو الإلكترونية على التلفاز، وفي ظل ارتباط يوتيوب بالهاتف الذكي، الذي يبدو أن خطه متجهٌ للأعلى بثبات، وتطور أساليب العرض (بث مباشر 3D, 360) تبدو الكفة مائلةً لجهته، ما لم تفاجئه تقنيةٌ أكثر حداثةً تعيدُ الكرّة.

المساهمون