البحر لا يضحك لصيادي الإسكندرية

19 يونيو 2014
صيادو الإسكندرية يعانون الفقر والإهمال (أبو مازن المصري)
+ الخط -

"حتى الصبر نفد" هذا هو لسان حال الصيادين في الإسكندرية، المحاصرين بين الفقر والعوز ومشاكل مهنة الصيد التي لا تنتهي، وتتسبب في هروب النوم من عيون أكثر من 130 ألف صياد وأسرهم، وتهدد بانقراض حرفة الصيد بالمدينة الساحلية، في ظل أزمة اقتصادية تتزايد حدّتها منذ الانقلاب العسكري.
قائمة طويلة من المشاكل لم تهدد الصيادين فقط، بل انعكست آثارها على جميع العاملين في المهنة التي يتوارثها الأبناء عن الأجداد، بفعل إهمال وفقر مدقع لم يعرفوا غيره خلال سنوات عشرتهم مع الأمواج الهادرة، سواء في قيظ الصيف أو برد الشتاء، بحثاً عن أرزاقهم بين أمواج البحر المتلاطمة والمتقلبة المزاج، لا يعتمدون فيه على سواعدهم وعقولهم قدر اعتمادهم على رحمة ربهم.
رزق عالق ما بين تلوث المياه وتجفيف البحيرات والاتهامات بالصيد غير الشرعي ووقف التراخيص وغلاء المعدات، وعدم وجود رعاية صحية أو تأمينات اجتماعية وغيرها من المشاكل التي يواجهها آلاف الصيادين وأسرهم، الذين يعيشون على شواطئ المدينة الممتدة من أبو قير حتى رأس التين، أو حول بحيرات المياه العذبة كبحيرة مريوط وأحواض الملاحات.
أثّرت كلّ هذه العوامل سلباً على حياتهم البائسة، بعد أن تخلى عنهم الجميع وتركوهم يواجهون غول البطالة وغلاء المعيشة، بالإضافة إلى الصعوبات المهنية التي تتسبب فيها القرارات الحكومية بحظر الصيد في بعض شهور السنة، مما يضطرهم إلى المجازفة وتعريض أنفسهم للخطر.

خير البحر

"بنشتغل يومنا من طلوع الفجر لغاية المغرب، وندعي ربنا يرزقنا خير البحر، علشان نعرف نسد جوع ولادنا في الأيام الصعبة اللي احنا عايشينها، وفي الآخر يا دوب عارفين نعيش نصف حياة"، هكذا يصف العمّ صبري، أحد الصيادين، أوضاع زملائه بمنطقة بحري بغرب الاسكندرية، مؤكداً أن هموم المهنة، فاقت الحد الذي يسمح لهم بالتأقلم معها.

أضاف: "نحن أكثر طبقات المجتمع معاناة، بسبب امتناع الحكومات المتعاقبة عن التدخل لمحاولة إيجاد حلول لتحسين أحوالنا المعيشية، فالبحر أصبح خالياً من السمك بسبب قيام هيئة الثروة السمكية باستخراج الأسماك "الذريعة" من البحر المالح لبيعها للمزارع السمكية الخاصة، مما يقلل من رزق الصيادين"، بحسب تعبيره.
ويلفت كبير صيادي منطقة أبو قير، عرفة محمود (76 سنة)، إلى أن كثرة المشاكل أضاعت صبر الصيادين، وعلى رأسها مشكلة الارتفاع المستمر في أسعار الشباك والغزل، وصعوبة استخراج تصاريح الصيد أو تجديدها بسبب الإجراءات الروتينية المعقدة التي يصر عليها المسؤولون، والتي تسببت في خسائر كبيرة لا تعوضها فروقات أسعار البيع في الأسواق وهو ما يزيد من معاناتهم من "غدر" الحكومة، وغضب البحر الذي لا يرحم توسلات "الغلابة" من أبناء المهنة، بحسب وصفه.

وأوضح محمود أن أسعار الأسماك متقاربة في الأسواق وعند الصيادين، لأن هامش ربحها محدود، مرجعاً السبب في زيادة أسعار المأكولات البحرية في الأسواق إلى ترك الحكومة الأمور في أيدي كبار التجار، الذين يستفيدون ويحققون الأرباح الطائلة وحدهم، ويلقون بالفتات إلى "الغلابة"، في دولة بلا قانون، على حد قوله.

مشاكل الصيادين في المياه العذبة لا تختلف كثيراً عن زملائهم في البحر المالح، كما يقول الصياد قي بحيرة مريوط إبراهيم حامد، بعد أن تسببت في وقف حال الجميع، واستمرار معاناتهم من نقص الرزق في المياه، فضلًا عدم قدرتهم على توفير المعدات وارتفاع أسعارها ونقص الوقود، "الأمر الذي جعلني على استعداد لبيع المركب الوحيد الذي أمتلكه للخلاص من الأزمات التي لا تنتهي"، يقول.

وأشار إلى أن الصيادين في المياه العذبة، ومنها بحيرة مريوط، يقضون أكثر أوقاتهم داخل المياه وليس على سطحها مثل زملائهم في البحار أو الأنهار، بل يسبحون بين كل "تبييتة" وأخرى لمدّ شباكهم، ويعيشون داخل "عشش" تم تأسيسها فوق كومة من الردم وسط البحيرة.

أمراض الصيادين

ترى أم جابر، أمٌّ لتسعة أبناء جميعهم من صيادي مريوط، أن "التلوث الناتج عن تسرب الصرف الصحي والصناعي، وسطو المستثمرين ورجال الأعمال على البحيرة واقتطاع مساحات منها لأنفسهم بعد طرد الصيادين، رغم أنهم وآباءَهم وأجدادهم قضوا سنوات طويلة فيها، هي كل ما يشغل بالهم ويؤرق حياتهم ويهددهم بالطرد في أي وقت".

وأكدت على إصابة غالبية الصيادين، بأمراض الكبد والصدر والسلّ والبلهارسيا وفيروس الكبد الوبائي "سي" والدرن، بسبب حياتهم الدائمة في العراء من دون مأوى. إذ يخرجون من تحت الماء، ليقضوا أوقاتهم في فرز الحصيلة وتوزيعها دونما وجود عشة أو غرفة يأوون إليها لتغيير ملابسهم والاحتماء من البرد القاسي.

واستنكر عضو "رابطة صيادي البحيرات العذبة بالإسكندرية" سليمان عبد الرحمن، غياب دور الجمعيات التعاونية للصيادين في حمايتهم، مما وصفه بامتناع هيئة الثروة السمكية عن القيام بمسؤولياتها القانونية، بإلقاء "الذريعة" والأسماك الصغيرة التي تزيد من الإنتاج السمكي للملاحة، أو حماية البحيرات من التلوث والتجفيف، وإلقاء الأمر برمته على عاتق الصيادين أنفسهم وإمكانياتهم المحدودة.

ودعا إلى ضرورة تدخل الدولة لتنظيم عملية إعاشة الصيادين وتحسين أوضاعهم وحماية حقوقهم في حياة كريمة، لافتاً إلى أن الصياد لا يملك من حطام الدنيا سوى المركب الذي يصطاد به وفى حالة فقده أو ابتلاع البحر له، خاصة في حالة النوات والعواصف، يتحوّل إلى عامل بـ"الأجر" يصطاد يوماً ويتوقف عشرة، أو يضطر إلى تغيير مهنته بالكامل

لتدبير نفقاته اليومية، فلا نقابة ولا معاش يحميه من غدر الزمان والمتاعب التي يواجهها من غلاء المعيشة والأمراض.

ويرى أستاذ الثروة السمكية بجامعة الإسكندرية، الدكتور عبد الله محمود، أن اتخاذ إجراءات حقيقية لحل مشاكل الصيادين وتحسين أوضاعهم، من شأنه التأثير بشكل إيجابي على زيادة إنتاج الثروة السمكية، على أن يكون أولها حل معضلة التلوث وتعدد الجهات المسؤولة عن الصيد بدون التنسيق بينها، واستغلال "مافيا البحيرات" لعلاقاتها بالسيطرة على مجريات المجال وتهديد صغار الصيادين وحرمانهم من الصيد.

وأضاف محمود: "القرارات والقوانين المتعسفة تضع الكثير من الصيادين والعاملين في مأزق حقيقي، خصوصاً أنها تؤدي إلى إلقاء القبض عليهم ومصادرة مراكبهم ومعداتهم، واستقطاع مساحات كبيرة من البحيرات لبيعها وتأجيرها للمزارع السمكية، مما يؤدي إلى تقليل مساحة مياه الصيد الحر للصيادين، وسط تجاهل تام من المؤسسات الحكومية".

بدوره، أكد شيخ الصيادين في الإسكندرية أشرف زريق، أن أعداد العاملين في المهن البحرية

يتعدى 4.5 مليون مصري، إذ تضاف إلى الصيادين أعداد كبيرة من النجارين وصانعي القوارب وقوالب الثلج والتجار والبائعين وعمال النقل والخدمات والسائقين وغيرهم، مما يؤكد ضرورة قيام الدولة بواجبها في تحمل مسؤولية تذليل العقبات التي تواجه هذا القطاع العريض من المواطنين.

وقال زريق إنه "على الرغم من أن الصيد يأتي في الترتيب الثاني بعد اللحوم من حيث توفير الإنتاج الغذائي في مصر، إلا أنه لا توجد وزارة لتحمل أعباءه. وتكتفي الدولة بوجود هيئة للثروة السمكية تابعة لوزارة الزراعة، على خلاف كل دول العالم التي تمتلك شواطئ وسواحل وتعتمد على الأسماك في سد الاحتياجات الغذائية لمواطنيها".

وطالب زريق بتعديل القانون المنظم لعملية الصيد، الذي يعتبر الصيادين عمالة غير منتظمة، ولا ينصّ على توفير التأمين الصحي والاجتماعي، منتقداً ضعف المعاش المصروف للصياد بعد بلوغه السن القانوني، على الرغم من المجهود البدني البالغ والمخاطر التي يتعرض لها العاملون في البحر.