فقدت المقاهي نكهتها في الجزائر، ولم يعد النادل سبباً لقدوم الزبائن. تراه عابساً في معظم الأحيان، ولا يلبي طلبات الزبائن كما يجب
لسنوات عدة، ظلّ إسماعيل يعمل نادلاً في مقاهي بلدته الصغيرة، أحمر العين، في ولاية تيبازة (80 كيلومتراً جنوب العاصمة الجزائرية)، بالتوازي مع نشاطه الثقافي في فرقة الزرنة التي تعزف الأغنيات الشعبية في الأعراس، وكان يتميّز بارتداء زيه التقليدي. يحاول إسماعيل أن يكون ذلك النادل الحريص على خدمة زبائن المقهى، والذين بات يعرفهم كما يعرفونه. بعضهم يحب المقهى لجماله أو هدوئه، فيما يحبه آخرون بسبب وجود إسماعيل المبتسم دائماً.
لم يختر إسماعيل، الذي تجاوز عقده الخامس، أن يكون نادلاً، لكن الحياة جعلته نادلاً، وبقي في هذا العمل يخدم أبناء بلدته. فأن تكون نادلاً في مقهى يعني أنك ستحفظ وجوهاً كثيرة، وربما عليك أيضاً أن تحفظ عادات وطباع بعضهم، بحسب إسماعيل. يضيف أن النادل يجب أن يكون مضيافاً، وبشوش الوجه، وحريصاً على جمال المكان. وإن كان إسماعيل يسعى إلى الحفاظ على صفات عدة، إلا أن الأمر لا ينطبق على آخرين.
اقــرأ أيضاً
سابقاً، كان النادل في مقاهي الجزائر أكثر التزاماً بعمله وحرصاً على ارتداء ما هو مميز. لكن غياب السياحة كدعامة اقتصادية لها بعدها الثقافي والاجتماعي أدى إلى انغلاق المجتمع على نفسه، ما قلّص من فرص الانفتاح لدى الفرد، واقتصر دور النادل على توزيع طلبات الزبائن على طاولات المقهى. في هذا السياق، يقول الناشط في المجتمع المدني، بن يحيى عامر: "ثقافة النادل منعدمة عندنا تماماً، حتى في الدول العربية. فصاحب المقهى في الدول الأوروبية هو من يختار النادل. أما هنا، فالنادل هو من يختار مقهاه". يضيف: "في الجزائر، هناك رفض فطري للأوامر والطلبات، إضافة إلى عقل فردي متخم بالأنا. لذلك، هناك رفض لخدمة الآخر مهما كان".
مثل كثيرين، يتحسّر سليمان جلواح، وهو رسام كاريكاتوري، على الوضع الذي آلت إليه المقاهي في المدن الجزائرية من الناحيتين الاجتماعية والثقافية. يقول لـ"العربي الجديد": "تغيرت الجزائر كثيراً، خصوصاً بعد العشرية السوداء. في الثمانينيات، كنا أفضل من تونس وفرنسا. حين أدخل المقهى، أتساءل: أين هي رائحة العطور التي كانت في مثل هذه الأماكن الاجتماعية. في الثمانينيات، كانت ثياب النادل أنيقة، وكانت للمقاهي ثقافتها. للأسف تغير كل شيء اليوم، ومقاهي العاصمة تعطي صورة عن مجمل الوضع. تغيب البسمة عن وجه النادل حاله حال الناس".
اقــرأ أيضاً
قبل أيام زار سليمان تونس القريبة، وعاد منها سعيداً بسبب الخدمة الجيدة في المقاهي والنزل الذي أقام فيه. ويقارن بين نادل المقهى في تونس ونظيره في الجزائر، قائلاً: "هناك اختلاف كبير. في تونس، المقهى ثقافة واستقبال جيد ونظافة وتنظيم وخدمات. تجد النادل مبتسماً يرتدي ثياب العمل، وهي عبارة عن قميص أبيض وربطة عنق. ويمكن أن ترى جميع عمال المقهى يرتدون قميصاً موحداً. أما في الجزائر، فيمكن أن تجد نادلاً يرتدي ثياباً غير لائقة. هذا على مستوى المظهر، أما الخدمة، فتتباين بحسب المكان. لكن في الغالب، يعمل النادل في الجزائر كموزع طلبات".
يضيف: "على سبيل المثال، لا يقبل النادل في مقاهي الجزائر التصفيق بهدف استدعائه ليكتب طلبات الزبون أو يغير فنجان القهوة أو يجلب كأساً من المياه"، مشيراً إلى أن "عمل النادل في بعض الدول يحتاج الى دورات تكوينية".
على الرغم من التراجع، تبقى هناك مقاه حريصة على تقديم خدمة جيدة للزبائن، وندل يحبون عملهم، كفرحات، الذي افتتح خيمة صغيرة في بلدته أحمر العين، يقدم فيها الشاي للناس. إلا أن صورة النادل ما زالت مشوشة لدى الجزائريين. وأحياناً، يكون النادل نفسه ضحية لتصورات اجتماعية. صحيح أنها مهنة شريفة ويصح عليها المثل الشعبي: "خادم الناس سيدهم"، إلا أنها ما زالت لا تحظى بالتقدير الكافي. ويقول فرحات إن بعض الناس يحتقرون الندل بسبب مهنتهم، مضيفاً أن "النادل في أي مقهى يقضي وقته بين الطاولات، ويستجيب لطلبات الزبائن، وينظف الطاولات". إلا أن عمله هذا قد يجعله يشعر بقهر اجتماعي بسبب سلوك بعض الزبائن. ويكفي أن يصادف النادل زبوناً واحداً من هذا النوع حتى يفسد عليه يومه.
من جهة أخرى، يبرر بعض العاملين في المقاهي سوء الخدمة بكون صاحب المقهى غير مهتم أصلاً بنوع الخدمة، بقدر ما هو مهتم بدخله اليومي. وفي بعض الأحيان، لا يحصل النادل على تأمين صحي، على الرغم من أن القانون بات يفرض ذلك على أصحاب المقاهي.
نادل المقهى هو ابن بيئته، وما دامت البيئة المجتمعية في الجزائر لم تستعد نفسها الخدمي الذي يشجع السياح، لن يتغير شيء، وسيشتاق كثر إلى مقاهي ما قبل فوضى التسعينيات.
لسنوات عدة، ظلّ إسماعيل يعمل نادلاً في مقاهي بلدته الصغيرة، أحمر العين، في ولاية تيبازة (80 كيلومتراً جنوب العاصمة الجزائرية)، بالتوازي مع نشاطه الثقافي في فرقة الزرنة التي تعزف الأغنيات الشعبية في الأعراس، وكان يتميّز بارتداء زيه التقليدي. يحاول إسماعيل أن يكون ذلك النادل الحريص على خدمة زبائن المقهى، والذين بات يعرفهم كما يعرفونه. بعضهم يحب المقهى لجماله أو هدوئه، فيما يحبه آخرون بسبب وجود إسماعيل المبتسم دائماً.
لم يختر إسماعيل، الذي تجاوز عقده الخامس، أن يكون نادلاً، لكن الحياة جعلته نادلاً، وبقي في هذا العمل يخدم أبناء بلدته. فأن تكون نادلاً في مقهى يعني أنك ستحفظ وجوهاً كثيرة، وربما عليك أيضاً أن تحفظ عادات وطباع بعضهم، بحسب إسماعيل. يضيف أن النادل يجب أن يكون مضيافاً، وبشوش الوجه، وحريصاً على جمال المكان. وإن كان إسماعيل يسعى إلى الحفاظ على صفات عدة، إلا أن الأمر لا ينطبق على آخرين.
سابقاً، كان النادل في مقاهي الجزائر أكثر التزاماً بعمله وحرصاً على ارتداء ما هو مميز. لكن غياب السياحة كدعامة اقتصادية لها بعدها الثقافي والاجتماعي أدى إلى انغلاق المجتمع على نفسه، ما قلّص من فرص الانفتاح لدى الفرد، واقتصر دور النادل على توزيع طلبات الزبائن على طاولات المقهى. في هذا السياق، يقول الناشط في المجتمع المدني، بن يحيى عامر: "ثقافة النادل منعدمة عندنا تماماً، حتى في الدول العربية. فصاحب المقهى في الدول الأوروبية هو من يختار النادل. أما هنا، فالنادل هو من يختار مقهاه". يضيف: "في الجزائر، هناك رفض فطري للأوامر والطلبات، إضافة إلى عقل فردي متخم بالأنا. لذلك، هناك رفض لخدمة الآخر مهما كان".
مثل كثيرين، يتحسّر سليمان جلواح، وهو رسام كاريكاتوري، على الوضع الذي آلت إليه المقاهي في المدن الجزائرية من الناحيتين الاجتماعية والثقافية. يقول لـ"العربي الجديد": "تغيرت الجزائر كثيراً، خصوصاً بعد العشرية السوداء. في الثمانينيات، كنا أفضل من تونس وفرنسا. حين أدخل المقهى، أتساءل: أين هي رائحة العطور التي كانت في مثل هذه الأماكن الاجتماعية. في الثمانينيات، كانت ثياب النادل أنيقة، وكانت للمقاهي ثقافتها. للأسف تغير كل شيء اليوم، ومقاهي العاصمة تعطي صورة عن مجمل الوضع. تغيب البسمة عن وجه النادل حاله حال الناس".
قبل أيام زار سليمان تونس القريبة، وعاد منها سعيداً بسبب الخدمة الجيدة في المقاهي والنزل الذي أقام فيه. ويقارن بين نادل المقهى في تونس ونظيره في الجزائر، قائلاً: "هناك اختلاف كبير. في تونس، المقهى ثقافة واستقبال جيد ونظافة وتنظيم وخدمات. تجد النادل مبتسماً يرتدي ثياب العمل، وهي عبارة عن قميص أبيض وربطة عنق. ويمكن أن ترى جميع عمال المقهى يرتدون قميصاً موحداً. أما في الجزائر، فيمكن أن تجد نادلاً يرتدي ثياباً غير لائقة. هذا على مستوى المظهر، أما الخدمة، فتتباين بحسب المكان. لكن في الغالب، يعمل النادل في الجزائر كموزع طلبات".
يضيف: "على سبيل المثال، لا يقبل النادل في مقاهي الجزائر التصفيق بهدف استدعائه ليكتب طلبات الزبون أو يغير فنجان القهوة أو يجلب كأساً من المياه"، مشيراً إلى أن "عمل النادل في بعض الدول يحتاج الى دورات تكوينية".
على الرغم من التراجع، تبقى هناك مقاه حريصة على تقديم خدمة جيدة للزبائن، وندل يحبون عملهم، كفرحات، الذي افتتح خيمة صغيرة في بلدته أحمر العين، يقدم فيها الشاي للناس. إلا أن صورة النادل ما زالت مشوشة لدى الجزائريين. وأحياناً، يكون النادل نفسه ضحية لتصورات اجتماعية. صحيح أنها مهنة شريفة ويصح عليها المثل الشعبي: "خادم الناس سيدهم"، إلا أنها ما زالت لا تحظى بالتقدير الكافي. ويقول فرحات إن بعض الناس يحتقرون الندل بسبب مهنتهم، مضيفاً أن "النادل في أي مقهى يقضي وقته بين الطاولات، ويستجيب لطلبات الزبائن، وينظف الطاولات". إلا أن عمله هذا قد يجعله يشعر بقهر اجتماعي بسبب سلوك بعض الزبائن. ويكفي أن يصادف النادل زبوناً واحداً من هذا النوع حتى يفسد عليه يومه.
من جهة أخرى، يبرر بعض العاملين في المقاهي سوء الخدمة بكون صاحب المقهى غير مهتم أصلاً بنوع الخدمة، بقدر ما هو مهتم بدخله اليومي. وفي بعض الأحيان، لا يحصل النادل على تأمين صحي، على الرغم من أن القانون بات يفرض ذلك على أصحاب المقاهي.
نادل المقهى هو ابن بيئته، وما دامت البيئة المجتمعية في الجزائر لم تستعد نفسها الخدمي الذي يشجع السياح، لن يتغير شيء، وسيشتاق كثر إلى مقاهي ما قبل فوضى التسعينيات.