الجميع بات يتفرج على لبنان وهو ينحدر سريعاً نحو الانهيار المالي والاقتصادي والمعيشي بعد أن أعلن إفلاسه قبل أشهر قليلة، وما أعقب تلك الخطوة الخطيرة من انهيار في سعر الليرة مقابل الدولار، وزيادة كل أسعار السلع، بما فيها الخبز والأغذية والأساسية، وتدهور الأحوال المعيشية للمواطن، وانقطاع الكهرباء، واختفاء الوقود من حين لآخر.
بل باتت الأزمة الاقتصادية والمالية تخرج سريعاً عن نطاق السيطرة مع التلكؤ في معالجتها من قبل النظام الحاكم وانسداد كل الحلول المطروحة بشأنها.
المتفرجون على المشهد اللبناني المعقد كثر، المجتمع الدولي، الولايات المتحدة، أوروبا ومنها فرنسا، دول الخليج وفي المقدمة السعودية، إيران، الصين وغيرها من دول العالم التي لديها مصالح مباشرة أو غير مباشرة في لبنان، لا أحد يحاول حتى أن يوقف الانهيار الحاصل في البلاد على جميع المستويات وفي كل القطاعات.
حتى المؤسسات المالية الدولية، وعلى رأسها صندوق النقد والبنك الدوليان، باتت تتفرج على أكبر مأساة اقتصادية عربية من دون أن تمد يد العون لانتشال لبنان من وحل الإفلاس والغرق والخراب الاقتصادي أو الحيلولة دون دخولها في مستنقع الفقر الكدقع والبطالة المتفشية وانهيار الخدمات والبنية التحتية والعملة وانفلات الاسعار وهجرة شبابها إلى الخارج.
الكل يرغب في "تعويم" لبنان مالياً وانقاذه اقتصادياً حسب شروطه وأجندته وإملاءاته التي قد تتعارض مع الأجندة الوطنية اللبنانية ومصالح الدولة وأمنها القومي.
خذ مثلا المؤسسات المالية الدولية التي لديها قدرة على حسم أزمة لبنان المالية وسد الفجوة التمويلية الضخمة للبلاد والبالغة قيمتها 56 مليار دولار مرة واحدة أو حتى على سنوات قليلة، ولنا في تجربة الأرجنتين أسوة، فعندما أعلنت بوينس آيرس إفلاسها سارع صندوق النقد الدولي في شهر يونيو/حزيران 2018 إلى منحها أكبر قرض في تاريخه بقيمة 50 مليار دولار، منها 15 مليار دولار تم صرفها على الفور، وهو ما أعاد إلى البلاد توازنها المالي والنقدي، وأعاد إليها الاستثمارات الأجنبية الهاربة، وقبلها أعاد لعملتها البيزو جاذبيتها وأوقف تدهورها السريع.
لكن لصندوق النقد شروطه المعلنة وغير المعلنة قبل إبرام أي اتفاق مع لبنان يتم بموجبه منحها قرضاً، شروط معلنة تتعلق بخريطة الإصلاح المالي وتقدير خسائر الدولة المالية بدقة، ومن يتحمل كلفة ذلك الإصلاح وتغطية الخسائر، خزانة الدولة الفارغة أصلا، النخب السياسية الفاسدة، أصحاب البنوك وكبار المساهمين بها، أم المودعون، أم آخرين، ومن هم؟
لا تزال هناك خلافات حول هذه النقاط بين حكومة حسان دياب والصندوق، وربما تمتد الخلافات في وقت لاحق إلى أمور أخرى منها موعد تعويم الليرة مقابل الدولار، رفع الدعم الحكومي كلية عن السلع الرئيسية بما فيه دعم الخبز والوقود، أولوية إصلاح قطاع الكهرباء البالغة تكلفته بين 1.8 مليار ومليارين دولار سنويا، مكافحة الفساد في المؤسسات الحكومية والوزارات خاصة في قطاعات حيوية مثل الكهرباء والقطاع المالي والمصرفي.
أما الشروط غير المعلنة فقد تتعلق بملف حزب الله والموقف من نزع سلاحه، وعلاقة الدولة اللبنانية مع الكيان الصهيوني مستقبلا، ومدى استجابة لبنان بضغوط إغلاق الحدود السورية اللبنانية، وبالتالي مساهمة لبنان في خنق نظام بشار وإسقاط نظامه عبر العقوبات الاقتصادية ومنها قانون قيصر الأميركي.
وربما تكون هناك شروط أخرى غير معلنة للصندوق تتعلق بملف ترسيم الحدود البحرية والبرية بين لبنان وإسرائيل، وتسوية الخلافات الطويلة والعميقة في هذا الشأن، ومدى تنازل لبنان عن مساحات بحرية للكيان الصهيوني للاستيلاء عليها والتنقيب عن النفط والغاز بها، أو تنازله عن حقول سطت عليها دولة الاحتلال في سنوات سابقة ومنها حقل تمار للغاز الواقع في مياه البحر المتوسط على بعد 50 ميلاً غرب حيفا، وكذا حقل كاريش الذي يبعد عن المياه الإقليمية للبنان بنحو 4 كيلومترات فقط.
دول الخليج هي الأخرى يمكن أن تنقذ الوضع الاقتصادي المتأزم في لبنان وتقدم يد المساعدة للدولة اللبنانية، لكن هذه الدول لديها مصالحها وشروطها وأجندتها خاصة المتعلقة بحزب الله وعلاقته بإيران، العدو التقليدي للسعودية أكبر داعم لبيروت لسنوات، كما أن مرور دول الخليج بأزمة مالية طاحنة قد يحول دون تقديم يد العون حاليا للبنان، خاصة أن الأزمة مستمرة بعض الوقت بسبب استمرار أزمتي تراجع الإيرادات النفطية والخسائر الناتجة عن تفشي كورونا.
الوضع في لبنان حرج جدا، وصانع القرار اللبناني لا يتحرك إلا في نطاقات ضيقة قد تناسب مصالح النخب الفاسدة، واعتماد البلاد على الذات في حلحلة الأزمة الراهنة بات مستبعداً في ظل ضخامة العجز المالي، وفقدان ثقة المدخرين في عملتهم وقطاعهم المصرفي، بل وفي نظامهم السياسي، وعدم تحمس النخب الفاسدة لتحمل جزء من كلفة الإصلاح، وكذا في ظل ضخامة فاتورة الواردات حيث يستورد لبنان كل شيء في ظل ضعف القاعدة الصناعية فيه.
وبالتالي فإن الأزمة لن تراوح مكانها في المستقبل المنظور، وإذا انهار لبنان فإنه سيأخذ معه دولاً عدة في المنطقة، وسيسبب صداعا عنيفا لأوروبا ولدول عربية أخرى.