الانسحاب الأميركي من سورية... الأسباب والدوافع

14 يناير 2019
+ الخط -
لا يخفى على أحد أن الرئيس الأميركي دونالد ترامب معروف بقراراته الفجائية التي يتخذها بمعزل عن إدارته أو مشاورة أهل الاختصاص من مجالس التفكير والتخطيط والدراسات، بعكس جيمس ماتيس، وزير الدفاع المستقيل المعروف بتأنيه وبصبره ودراسته لكل زوايا القضية قبل اتخاذ قرار ما.

ولعل السبب الأساسي الذي يجعل ترامب يتخذ قراراته بهذه الطريقة عائد لطبيعة الرجل الذي لم يكن يوماً ابن مؤسسة، أو مرؤوسا، وإنما اعتاد أن يكون رئيسا ومديرا دوما، وهو الذي يتخذ القرارات، ولهذا فهو لا يكترث لآليات وتسلسلات اتخاذ القرارات في الإدارة الأميركية التي تمتاز بالتراتبية والبيروقراطية في اتخاذ أي قرار، فكيف لو كان الأمر متعلقا بالهيبة الأميركية في الخارج.

وترامب الذي دائما ما يتخذ قراراته ويشرع بتنفيذها ويقيل من يعترضه، ويظهر في ذلك كأنه ديكتاتوري، وكأن العسكر هم الذين يمارسون الشورى والديمقراطية في إدارته، بينما يفترض أن يكون العكس هو الصحيح.. فما الذي يدفعه إلى اتخاذ قرار كهذا الآن؟!

من المعروف أن فكرة التراجع إلى الداخل فكرة قديمة وتبرز بين فترة وأخرى مع الجمهوريين الذين عادة ما يندفعون إلى حروب خارجية مجنونة لنشر الثقافة الأميركية والحلم الأميركي في الخارج، إذ إن معظم الحروب الخارجية كانت في معظمها تحت قيادة الجمهوريين.

فبعد ما فعله جورج بوش الابن في العراق، برز اتجاه داخل الإدارة الأميركية لتقليص التدخل الأميركي في الخارج، وكانت هنالك دوافع عدة وراء المناداة بهذا التوجه، وخصوصاً بعد حرب الخليج، والحادي عشر من سبتمبر/ أيلول؛ إذ برز اتجاه يدعو إلى شراء "بترول أخلاقي"، وتساءل هؤلاء عن ثمن البترول الخليجي الذي يدفع ثمنه الأميركيون من دم أبنائهم، فهذا بترول مغمس بدماء الجنود الأميركيين.


قام أوباما بتخفيض القوات في العراق وأفغانستان وعارض التدخل في سورية، ولكن الدولة العميقة التي كانت ترى أن هناك مصالح أميركية يجب مراعاتها في الخارج رفضت ذلك، وبقي الانسحاب من أفغانستان والعراق جزئياً أو اسمياً حتى، وتدخلت أميركا في شمال سورية سراً وبدون إحاطة الكونغرس علماً بذلك حتى.

مع دخول هيلاري كلينتون إلى الكونغرس كان الصوت يعلو للانسحاب من الخليج، ولكن كان الصوت الإسرائيلي واليهودي الداعم للتدخل الأميركي الحامي لإسرائيل في الشرق الأوسط هو الذي ينتصر دائماً.

وحين قدم ترامب إلى الإدارة كان هذا الرأي يتعزز، وذلك لعدة عوامل: أهمها أن أميركا انتقلت من كونها بلداً مستورداً للنفط إلى بلد مصدر له. فاكتشافات الغاز الصخري والنفط في الوسط الأميركي كانت مذهلة وبكميات كبيرة جداً وستفيض عن الحاجة الأميركية وتغنيها عن الاستيراد لعقود قادمة، لا بل تجعلها مصدراً للنفط لو أرادت.

أضف إلى ذلك أن النفط الكندي يتدفق إلى أميركا بعشرين دولاراً للبرميل الواحد من مقاطعة البرتا الغنية بالنفط والتي تفتقر إلى المخرج البحري، وسبيلها شبه الوحيد هو القطار الذاهب جنوبا نحو الولايات المتحدة، ما يعطي الأميركيين الفرصة للتحكم بالسعر.

فلماذا تبذل أميركا الغالي والنفيس في سبيل الحفاظ على مصالح تبدلت حاجتها لها من أولويات إلى ثانويات، إن لم نقل أن الحاجة انتفت إليها؟!

أما عن موضوع الدفاع عن الحلفاء والشركاء، فلأميركا رأي آخر به، ولطالما تخلت أميركا عن حلفائها ورفضت التدخل إلا بعدما أجبرت، وهو ما حدث خلال الحرب العالمية الأولى، فقد رفض الأميركيون التدخل في الحرب حتى وقعت حادثة بيرل هاربور التي يزعم البعض أن تشرشل أوصل رسالة سرية لليابانيين من خلال جواسيس بأن أميركا على وشك ضربهم، فقام اليابانيون بضربة استباقية عجلت في دخول أميركا الحرب.

وهكذا دائماً ما ينظر العم سام إلى مصالحه بالدرجة الأولى، ولكن ترامب يعبر عن ذلك بصفاقة لم يسبقه إليها أحد!

وبغض النظر عن تحالفه مع بوتين أو ترك المسرح الأوروبي له كما في المسألة الأوكرانية أو ترك المسرح السوري له، فإن الأميركيين ينظرون إلى حلفائهم دائماً على أنهم عبء عليهم، فلولا مشروع مارشال الأميركي لما تمكنت أوروبا من النهوض بعد الحرب، ولولا القوات الأميركية لكانت السعودية تتحدث الفارسية الآن (هذا ما يزعمه الأميركيون)، ولهذا فهم يريدون أن يستمروا بمهماتهم في حماية بعض مناطق النفوذ، ولكن ليس بدون ثمن.

فترامب الذي قدم من قطاع الأعمال إلى الرئاسة يؤمن دوماً بأنه لكي تنجح يجب أن تكون أنانيا وتضع مصالحك أولا أمامك بالدرجة الأولى، وهذا ما يفعله في كل خطوة يقوم بها. فلا خدمات مجانية عنده لأحد.

السؤال الذي يطرح نفسه هل سيتمكن ترامب من تحقيق انسحاب كامل من سورية وجزئي من أفغانستان؟

عند صدور قراره الفردي تعالت الأصوات داخل الإدارة عن النفوذ الأميركي الضائع وترك الساحة لروسيا والقاعدة وطالبان، حتى أن ماتيس، وزير الدفاع، قدم استقالته احتجاجا، وكان ماتيس تقريباً آخر خط عقلاني في إدارة الرئيس المتهور.

من المعلوم أن الرئيس لا يحكم وحده في أميركا، وإن كان هذا ما يبدو ظاهريا. ورغم أنه يبدو مطلق الصلاحيات في أمور كثيرة، إلا أن يديه مقيدتان في كثير من الأمور بشكل لا يصدق، ومع دخول دورة كونغرس ديمقراطي غير متعاون لا يبدو أن ترامب سينعم بنصف ثان هادئ من ولايته الأولى.

ولعلنا نذكر ماذا حدث حين حاول ترامب أن يعاقب الأسد، إذ تدخلت المؤسسات العميقة واللوبي الصهيوني وخفضت فاعلية الضربة إلى ضربة محدودة، فلقد كان ترامب عازما فعلا على ضرب الأسد والإطاحة به ليقوم بإشغال الرأي العام عما كان يجري في الداخل من فضائح شخصية، لكن المؤسسات التي ترعى المصالح الأميركية الكبرى ومراكز التفكير استنفرت لتبين له أن هذا مضر بمصالح إسرائيل، وأن الأسد حاجة ملحة لأميركا ولإسرائيل رغم سوئه.

وهكذا ربما تستمر قصة الانسحاب لسنوات، والشيء بالشيء يذكر، فهي المرة الثالثة تقريباً التي يعلن فيها الروس انسحابهم من سورية ولكن هل انسحبوا فعلا.

وقد يقوم ترامب بإعادة تموضع قواته في سورية، وكأنه يقوم بإخلاء مسؤوليته من مواجهة الأتراك في حربهم ضد الأكراد بالتخلي عن الأكراد بدعوى أن دخول الجيش الأميركي حقق الهدف المرجو وهو محاربة داعش وهكذا يتجنب التصادم مع الحليف التركي.

فمن سيربح في النهاية.. ترامب أم الإدارة العميقة؟.. هذا سؤال ستجيب عنه الأيام القادمة.
7F7C2416-B720-4906-ACFE-73D4127D7B5F
حسن علي مرعي

درست الشريعة في "أزهر لبنان"، فرع البقاع، ثم درست الحقوق في الجامعة اللبنانية، وأتابع دراسة الاقتصاد والعلوم السياسية في معهد ماستشوسش التقني وجامعة وست فرجينيا..أهتم بالأدب، شعره ونثره بالإضافة إلى العلوم السياسية والتاريخية، ولا يقلل هذا من اهتماماتي بالتاريخ أو بالاقتصاد وسائر العلوم الإنسانية الأخرى.