لم يكن أكثر الأردنيين تفاؤلاً يتوقع تحرير الطيار، الملازم أول معاذ الكساسبة، من قبضة تنظيم الدولة الإسلامية (داعش)، لكن أكثرهم تشاؤماً لم يعتقد أن تكون طريقة إعدامه حرقاً بالصورة البشعة التي ظهرت في التسجيل المصور الذي بثّه التنظيم، مساء الثلاثاء الماضي، بعد ساعات من الترويج طمعاً في تحقيق أعلى مشاهدات. وهو ما حققه التنظيم، عندما جلس الملايين ينتظرون من دون أن يحتمل غالبيتهم مواصلة مشاهدة عملية الإعدام.
"أما الثأر" السريع الذي لجأت إليه السلطات الأردنية، بعد أن نفذت، فجر أمس الأربعاء، حكم الإعدام شنقاً في ساجدة الريشاوي وزياد الكربولي، المسحوبين على تنظيم "داعش"، لن يكون النهاية ولن يشفي غليل المؤسسة العسكرية، التي دقت "طبول الحرب".
ويرجح مسؤول أردني أن يكون الثأر العسكري عبر عملية نوعية تطيح رؤوساً في تنظيم "داعش"، مذكراً برد الدولة على تفجيرات عمّان عام 2005، عندما كان الأردن اللاعب الأساسي في عملية اغتيال زعيم تنظيم القاعدة في بلاد الرافدين أبو مصعب الزرقاوي، الذي أعلن مسؤوليته عن التفجيرات. يومها قادت المعلومات الاستخبارية التي وفرها الأردن إلى قتل الزرقاوي في 6 يونيو/حزيران 2006، أي بعد أقل من سبعة أشهر على تفجيرات عمّان.
كذلك توقع المسؤول الأمني أن تشدد الدولة قبضتها على الأردنيين المؤيدين لـ"داعش" وجميع مؤيدي التنظيمات الإرهابية، وهو ما ستقوم به الدولة متحصنة بـ"دم معاذ".
وكانت الدولة لبّت رغبتها ورغبة الأردنيين بثأر سريع عبر إعدام الريشاوي والكربولي، في حين غابت أصوات المناهضين لعقوبة الإعدام، وهي التي ارتفعت عندما أعادت الحكومة تفعيل العقوبة في 21 ديسمبر/كانون الأول الماضي، بعد تسع سنوات من تعليقها، في ما يبدو موافقة ضمنية على إعدامهما، أو رغبة في عدم معاندة التيار الشعبي العارم المؤيد للثأر الذي نفذته الدولة.
وكان اسم الريشاوي، التي صدر قرار بإعدامها من محكمة أمن الدولة عام 2006 على خلفية مشاركتها الفاشلة في تفجيرات عمّان في 9 نوفمبر/تشرين الثاني 2005، قد برز الأسبوع الماضي بعد مطالبات "داعش" بإطلاق سراحها مقابل الإفراج عن الرهينة الياباني، كينجي غوتو، وحفظ حياة الطيار الكساسبة، لتصبح حياتها مربوطة بحياة الطيار، كما أعلن الأردن، وليصبح تنفيذ حكم الإعدام في حقها مطلباً شعبيّاً والتزاماً رسميّاً. أما اسم الكربولي، الذي صدر قرار إعدامه منذ عام 2007 لتورطه في قتل سائق أردني، فقد برز كثمن مفترض لصفقة وهو ما لم يطلبه التنظيم.
وكان صافي الكساسبة، والد الطيار، حثّ في أول تصريح بعد مقتل ابنه، الدولة الأردنية والتحالف الدولي على الثأر لدم معاذ، معبراً عن تأييده قيام الدولة بإعدام الريشاوي والكربولي. وقال صافي الكساسبة "تلقيت الخبر بصدمة وفاجعة. لكن لا أقول سوى حسبي الله ونعم الوكيل".
وبينما علت مطالبات "الثأر الثأر" على جميع الأصوات، صمتت أصوات كانت تعارض المشاركة الأردنية في التحالف الدولي على تنظيم "داعش" تحت شعار "ليست حربنا". حتى أن رموزاً في الحملة خرجوا على شاشة التلفزيون الأردني يعلنون البراءة من موقفهم السابق ويؤكدون "هي حربنا". ومن لا يزال متمسكاً بموقفه من رفض المشاركة الأردنية، على غرار جماعة الإخوان المسلمين وذراعها السياسية، حزب جبهة العمل الإسلامية، تحاشى في بيانات التنديد والاستنكار للطريقة البشعة التي أعدم بها الطيار، الإشارة إلى التحالف الدولي الذي تم إشباعه منذ إعلانه نقداً ورفضاً.
من جهته، قال منظر التيار السلفي الجهادي، عمر محمود عثمان، الملقب بـ أبو قتادة"، لـ"العربي الجديد" إن "غالبية أعضاء تنظيم "داعش" على مستوى القيادة من حديثي العهد بالإسلام، على غرار أهالي الشيشان والقوقاز، وبعض الدول المغاربية، وهو ما يجعل التنظيم غارقاً في الجهل والضلالة". وأكد "أبو قتادة" أن مصير "داعش" إلى الزوال، إن عاجلاً أم آجلاً.
ويتوقع أن تدخل المشاركة الأردنية في التحالف الدولي للحرب على "داعش، بعد إعدام الكساسبة مرحلة "القدسية" وتصبح فوق النقد والجدل وحتى اختلاف وجهات النظر.
ومنذ وقع الكساسبة في أسر (داعش) في 24 ديسمبر/كانون الأول الماضي، بعد إسقاط طائرته الحربية التي حلق بها مشاركاً في غارة على معاقل التنظيم في منطقة الرقة السورية ضمن صفوف التحالف الدولي، كان الأردن بشقيه الرسمي والشعبي، يستعد للأسوأ الذي حدث، بعد أن فشلت محاولات الإفراج عن الطيار بالطرق العسكرية والتفاوضية. لكن أحداً لم يشاهد، في أكثر الكوابيس فزعاً، شكل الأسوأ الذي شاهده في الشريط المصور الذي حمل عنوان "شفاء الصدور".
أصرّ التنظيم حتى اللحظة الأخيرة، على أن ينغص على الدولة الأردنية الجهود التي بذلتها لتهيئة الرأي العام للتطورات. فخلال أسبوع من المفاوضات العلنية كان يصرّ الأردن على توفير دليل يثبت أن طياره على قيد الحياة، وهو الطلب الذي تكرر متبوعاً بعبارة "لم نستلم الدليل حتى الآن"، وكأن لسان الدولة يقول للشعب إن "الطيار مات"، وهي الرسالة التي فهمت. ووقتها أخبر مسؤول "العربي الجديد" أنهم في الدولة "ينتظرون أن يعلن التنظيم النهاية"، مشيراً إلى أن قيامهم هم بتلك المهمة سيؤدي إلى تأجيج الرأي العام ويضع الدولة بأجهزتها الحكومية والعسكرية في موضع المفرط بحياة "الطيار الميت".
وتكفل الشريط المصور الذي بثّه "داعش" ببعثرة التهيئة النفسية لتندلع ثورة غضب لم يشهدها الأردن منذ زمن، فخرج المواطنون يصرخون "الثأر الثأر، القصاص القصاص"، ويسير على خطاهم الرسميون عسكريون وحكوميون، عندما أعلنت القوات المسلحة الأردنية (الجيش العربي) على لسان المتحدث باسمها، العقيد ممدوح العامري، أن "القصاص سيكون انتقاماً بحجم مصيبة الأردنيين جميعاً". أما الحكومة، فأكد المتحدث باسمها، محمد المومني، أن "الرد سيكون مزلزلاً". وشدد على أن "من كان يشكك في أن رد الأردن لن يكون حازماً، سيأتيه البرهان".
أكثر ما كان لافتاً في التصريحات الأردنية التي أعقبت الشريط المصور لـ"داعش"، إعلان التنظيم موعداً محدداً لتنفيذ عملية إعدام الكساسبة حرقاً، محدداً التاريخ بـ3 يناير/كانون الثاني الماضي. وهو التحديد الذي يسند بالوثائق والبراهين. وقالت مصادر أردنية لـ"العربي الجديد" إن حركة التنظيم كان يتم رصدها خلال الفترة الماضية بالأقمار الصناعية لتتبع عملية نقل الطيار من مكان إلى آخر، وهو ما يبرر إصرار الأردن خلال الأيام الماضية على دليل يثبت حياة الكساسبة، لقناعتها المطلقة بأنه ليس كذلك.