الانتخابات الفرنسية: ميلانشون يلعب بورقة الغموض في الدورة الثانية

27 ابريل 2017
سيكون للكتلة الناخبة لميلانشون أهمية في الدورة الثانية(كزافييه لاين/Getty)
+ الخط -

يثير مرشَّح اليسار الراديكالي، جان لوك ميلانشون، الكثير من الجدل في الساحة السياسية الفرنسية، بسبب امتناعه عن توجيه أي توصية إلى ناخبيه، للتصويت في الدورة الثانية من الرئاسيات، في السابع من مايو/أيار المقبل، والاختيار ما بين مرشح "إلى الأمام"، إيمانويل ماكرون، ومرشحة حزب الجبهة الوطنية اليميني المتطرف، مارين لوبان. وبخلاف المرشحَيْن الاشتراكي، بونوا هامون، ومرشح اليمين المحافظ، فرانسوا فيون، امتنع ميلانشون عن الدعوة إلى التصويت لصالح ماكرون أو ضد لوبان. وفضل كما قال، في خطابه ليل الأحد الماضي، بعد الإعلان عن النتائج "الاحتكام إلى مناضلي ومناصري حركته "فرنسا غير الخاضعة"، لبلورة موقف جماعي من التصويت في الدورة الثانية، عبر منصة تفاعلية على موقع الحركة على الإنترنت.

وكان الأمين العام للحزب الاشتراكي، جان كريستوف كامباديليس، أول المنتقدين لموقف ميلانشون، الذي هاجم خروج مرشح اليسار الراديكالي عن قاعدة "التصدي للجبهة الوطنية"، وهي قاعدة انتخابية متوافق عليها منذ عقود في صفوف اليسار الفرنسي، على اختلاف توجهاته. وقال كامباديليس إن "عدم الدعوة إلى هزم لوبان غلطة سياسية لا تُحتمل بالنسبة إلى اليساريين"، في حين اعتبر الأمين العام لحركة "إلى الأمام"، ريشار فيرون، أن ميلانشون "أضاع فرصة تاريخية، وعندما يكون لدينا الخيار بين ماكرون ولوبان لا أفهم كيف يستطيع ميلانشون أن يتردد، ولو نصف ثانية من الوقت". غير أن معسكر ميلانشون يعتبر في غالبيته أن احتكام مرشحه إلى التشاور مع قاعدته الشعبية ومناضلي الحركة قرار منطقي وصائب، وينسجم مع روح الحملة الانتخابية التي قادها مرشح "فرنسا غير الخاضعة". وحذر المنسق العام للحركة اليسارية الراديكالية من أن الورشة التشاورية لن تتمخض عنها "توصية رسمية توجه تصويت الناخبين في الدورة الثانية، وإنما توضيح للمواقف".

والواقع أن التساؤلات حول ميلانشون، وعدم دعوته إلى التصويت ضد لوبان تعود إلى كون هذا الأخير تميز بدعوة حازمة وصريحة في انتخابات عام 2002 إلى التصويت لرئيس اليميني الأسبق، جاك شيراك، لقطع الطريق على مرشح الجبهة الوطنية، جان ماري لوبان، الذي تأهل بعد دورة أولى حملت مفاجأة مدوية، وشهدت إقصاء المرشح الاشتراكي آنذاك، ليونيل جوسبان. وحينها، قال ميلانشون جملته الشهيرة "لا يجب عليكم أن تترددوا. ارتدوا قفازات إن أردتم أو ملاقط وصوتوا لشيراك. المهم هو التصويت لكي يحصل لوبان على أقل نسبة ممكنة". غير أن مياهاً كثيرة مرت تحت الجسر منذ تلك الدعوة الحماسية لقطع الطريق على الجبهة الوطنية. ففي الانتخابات التشريعية في العام 2012، عندما انهزم أمام مارين لوبان في الدائرة 11 في إقليم "با دو كالي" لم يدع ميلانشون إلى التصويت لصالح المرشح الاشتراكي، فيليب كيميل، ولم يذكر حتى اسمه في الخطاب الذي أقر خلاله بهزيمته، وترك الخيار مفتوحاً لناخبيه. كما أن ميلانشون لم يدعُ للتصويت لصالح اليمين المحافظ خلال الدورة الثانية من انتخابات المجالس الإقليمية في 2015، واكتفى بالقول، في تصريح لصحيفة "لوموند"، آنذاك "يجب العمل على صد اليمين المتطرف، لكن من دون فرض أي خيار أو القيام بالضغط على الناخبين ليدوسوا على مبادئهم".

وبدا واضحاً أن التشنج حول موقف ميلانشون وناخبيه من الدورة الثانية، يعود بالأساس إلى كون الكتلة الانتخابية التي يمثلها اليسار الراديكالي، والتي حققت نسبة 19.6 في المائة من الأصوات في الدورة الأولى، ذات أهمية قصوى في حسم معركة الدورة الثانية، لكونها كتلة منسجمة إيديولوجياً، وإذا اختارت التصويت لصالح ماكرون فسيكون لها وقع حاسم. وهي لا سبيل لمقارنتها مثلاً بالكتلة الانتخابية التي صوتت لمرشح اليمين المحافظ، فرانسوا فيون. لأن الأخير، ولو أنه دعا للتصويت لصالح ماكرون، فليس هناك مؤشر واضح بأن ناخبيه سيلبون هذا النداء. ذلك أن الناخبين اليمينيين، الذين صوتوا لصالح فيون، هم أقرب إلى أفكار لوبان في قضايا ذات أهمية كبرى للقاعدة اليمينية المحافظة، مثل مسألة المهاجرين والموقف من الإسلام والهوية الثقافية المسيحية.

وانطلقت أول من أمس عملية التشاور، بعد أن وصل عدد المسجلين في منصة الحركة إلى 450 ألف ناخب. ومن المتوقع أن تعلن نتائجها نهاية الأسبوع الحالي. وسيحسم الناخبون في ثلاثة اختيارات: إما التصويت لصالح ماكرون، أو المقاطعة، أو التصويت ببطاقة بيضاء. والبطاقة البيضاء مسموح بها في صناديق الاقتراع، وهي لا تحتسب لصالح أي مرشح لكنها تحتسب في قياس درجة المشاركة. وتم استبعاد اختيار فرضية التصويت لصالح لوبان بالمطلق، نظراً للجفاء المطلق الذي يكنُّه ميلانشون ومناصروه لمرشحة اليمين المتطرف وأفكارها العنصرية. ولجس نبض ناخبي ميلانشون بخصوص المشاورات حول الموقف من التصويت في الدورة الثانية، اتصلت "العربي الجديد" بمجموعة من الناشطين والناشطات، الذين التقيناهم خلال التحقيق الذي أنجزته الصحيفة في مقر الحملة الانتخابية قبل إجراء الدورة الأولى. يقول ماكسيم، وهو ناشط في الثلاثينات من العمر ويناضل إلى جانب ميلانشون منذ انتخابات 2012، لـ"العربي الجديد"، "أنا لا أفهم لماذا ينتقدون موقف ميلانشون باحترام آراء الناخبين الذين صوتوا له، وأوصلوه إلى تحقيق نسبة 19.6 في المائة. هل كان عليه أن يفعل مثل فيون الذي دعا إلى التصويت لماكرون من دون استشارة أحد؟". وعندما سألناه عن موقفه الشخصي وطبيعة اختياره الانتخابي في الدورة الثانية، يقول "بالنسبة لي حتى ولو قررت الحركة مثلاً توصية بالامتناع عن التصويت أو الإدلاء بورقة بيضاء فإنني عازم على التصويت ضد لوبان، وهذا يعني أنني سأصوت عملياً لصالح ماكرون، ولو أنني لا أميل إلى أفكاره".

أما صوفي، التي شاركت في الحملة الانتخابية لميلانشون ضمن فريق التكنولوجيا الرقمية، فقد عبرت، لـ"العربي الجديد"، عن حيرتها المتواصلة. وقالت "لقد وقعنا في الفخ الذي كنا نتمنى من كل قلوبنا تفاديه. أنا لا أحب أبداً لوبان، وأناضل منذ سنوات الجامعة ضد أفكارها العنصرية والفاشية، لكنني أيضاً غير مقتنعة نهائياً بأفكار ماكرون، وهو في نظري يمثل كل ما أكرهه في السياسة، أي التيار الليبرالي الذي يخدم مصالح المصارف والشركات الكبرى. أنا في حيرة من أمري، والاختيار بين ماكرون أو لوبان ليس بالنسبة لي الخيار المستحيل. ما يزال هناك متسع من الوقت، وربما أقرر في اللحظات الأخيرة قبل الذهاب إلى مكتب الاقتراع". أما ليونيل، وهو مناضل سابق في صفوف الحزب الاشتراكي وعمل في قسم "اللوجيستيك" في حملة ميلانشون، فقد كان حاسماً في اختياره، ويبدو أنه فكر ملياً بالأمر. وقال، لـ "العربي الجديد"، "أنا لن أشارك في مهزلة الدور الثاني وسأمتنع عن التصويت. أنا ضد لوبان وضد ماكرون، وانسجاماً مع نفسي، وحتى لا أخون المبادئ التي أناضل من أجلها سأختار المقاطعة". وعندما قلنا له إن المقاطعة ستصب حتماً لصالح مرشحة اليمين المتطرف، قال "هذا أمر لا يهمني الآن. لقد صوَّتُّ في العام 2002 لصالح جاك شيراك وضد جان ماري لوبان. ماذا جنينا من التصويت لصالح شيراك بعد أن هزم المرشح الاشتراكي في الدورة الأولى؟".


والواقع أن مرشحة اليمين المتطرف واعية بإمكانية وجود هامش للربح والمناورة في الدورة الثانية، وهي تراهن على ناخبين مثل ليونيل يقررون مقاطعة الانتخابات بكثافة، وهذا قد يصب في مصلحتها، وخصوصاً إن استطاعت جذب كتلة ناخبي اليمين المحافظ، الذين يتفقون مع بعض أفكارها السياسية وإضافتهم إلى خزانها الانتخابي التقليدي. ويكمن الخطر الكبير بالنسبة إلى المعسكر الجمهوري، الذي يدعو إلى الوقوف في وجه اليمين المتطرف، في محاولة لوبان أيضاً استمالة قسم من ناخبي ميلانشون. فإذا كانت هناك تناقضات كبيرة بينهما على مستوى القضايا المجتمعية، فهناك أيضاً جملة من القواسم المشتركة بينها وبين مرشح اليسار الراديكالي بما يخص الاقتصاد والاتحاد الأوروبي. ذلك أن ميلانشون، مثل لوبان، يدعو إلى سياسة حمائية من أجل دعم الاقتصاد الفرنسي وإعادة النظر في المعاهدات الاقتصادية والتجارية الموقعة مع مؤسساته، وإلغاء قانون العمل الذي أقرته الحكومة الاشتراكية أخيراً. وستحاول لوبان استخدام هذه القضايا المشتركة في حملتها لاجتذاب ناخبي اليسار الراديكالي الذين لا يتفقون مع برنامج منافسها ماكرون الليبرالي والمساند للاتحاد الأوروبي. وبدأت لوبان سلفاً تذهب في هذا الاتجاه، بإعلانها غداة إعلان نتائج الدورة الأولى بأن الدورة الثانية ضد ماكرون ستكون بمثابة "استفتاء للتصويت مع أو ضد العولمة المتوحشة". وهذه الجملة لها رنين خاص وإيجابي في آذان ناخبي جان لوك ميلانشون. "أنا لا أستطيع أن أتخيل بالمرة ناخباً من المتعاطفين مع ميلانشون وفرنسا غير الخاضعة قد يصوت إلى مرشحة الكراهية والعنصرية مارين لوبان" تقول لنا مورييل، وهي شيوعية سابقة انضمت إلى معسكر ميلانشون في الحملة الانتخابية. وتضيف "هناك حديث عن بعض النقاط المشتركة بين ميلانشون ولوبان بخصوص انتقاد النخبة السياسية ومواجهة الاتحاد الأوروبي، لكن الفرق يظل كبيراً بيننا، ولوبان بالنسبة لنا جميعاً هي خط أحمر لا أحد يستطيع تجاوزه".