11 نوفمبر 2024
الانتخابات التركية.. مفاجآتها وحسابات الربح والخسارة
تمكّن حزب العدالة والتنمية الحاكم في تركيا، وحليفه حزب الحركة القومية، من انتزاع نصر انتخابي مهم، بعد حصولهما مجتمعيْن على أكثر من نصف أصوات المقترعين في الانتخابات الرئاسية والبرلمانية التي جرت في 24 حزيران/ يونيو 2018؛ ما يعني أن الرئيس رجب طيب أردوغان وحزبه، العدالة والتنمية، سيقودان البلاد إلى المئوية الأولى لإعلان الجمهورية التركية الحديثة في عام 2023.
وقد جاءت هذه النتائج مخالفةً لأغلب استطلاعات الرأي التي توقعت فشل أردوغان في حسم المعركة الانتخابية على الرئاسة من الجولة الأولى، وكذلك عدم حصول الائتلاف الذي يقوده "العدالة والتنمية" على أغلبية كافية من مقاعد البرلمان، تمكّنه من تشكيل حكومة، بعد أن بالغت هذه الاستطلاعات في تقدير عدد الأصوات التي يمكن أن يحصل عليها حزب الخير "ايي بارتي"، المنشق عن الحركة القومية، والتقليل من احتمالات حصول "العدالة والتنمية" على أصوات جزء مهم من المقترعين الأكراد في مدن جنوب شرق تركيا، خصوصا في ماردين وأورفا وباطمان وأغري وغيرها، بل ذهبت استطلاعات إلى طرح سيناريو فوز مرشح تحالف المعارضة (ائتلاف الأمّة)، محرم إينجة، في الانتخابات الرئاسية، إذا آلت الأمور إلى جولة ثانية حاسمة.
أسباب فشل المعارضة
يعود فشل تحالف المعارضة التي يقودها حزب الشعب الجمهوري في منع حزب العدالة والتنمية من الاستمرار في حكم البلاد عقدين متتاليين إلى عدة أسباب رئيسة: أهمها عجزه عن تقديم برنامج اقتصادي وسياسي بديل، قادر على مواجهة برنامج الحزب الحاكم، وإقناع الناخب التركي بتغيير رأيه، والرهان على مشروع التغيير الذي بدا له مغامرةً في المجهول، خصوصا في مرحلة تحديات صعبة تواجهها تركيا. كما صب تشرذم المعارضة، وعدم قدرتها على الاتفاق وتقديم مرشح رئاسي واحد في مصلحة الرئيس أردوغان؛ إذ أصرّت زعيمة حزب الخير، ميرال أكشنار، على الترشح، رافضةً دعم ترشح الرئيس التركي السابق عبد الله غول للانتخابات الرئاسية في مواجهة الرئيس أردوغان. كما رفضت المعارضة فكرة انضمام حزب الشعوب الديمقراطي، القريب من الأكراد، إلى تحالف الأمّة المعارض، فخسرت بذلك كتلة أصواتٍ مهمة، كان يمكن أن تساعدها على البقاء في السباق الرئاسي لجولة ثانية، ومن ثم منع حزب العدالة والتنمية من حسم المعركة منذ الجولة الأولى. وقد أثّر تشرذم المعارضة هذا في فرصها في إقناع الناخب التركي بقدرتها على تحقيق النصر في الانتخابات.
ويبدو أن حزب العدالة والتنمية تمكّن، في الأسابيع الأخيرة، من استرداد بعض الكتل والشرائح الانتخابية التي كانت لها ملاحظات على سياساته الاقتصادية، أو تلك المتصلة بالتضييق على الحريات العامة، واستغلال المحاولة الانقلابية الفاشلة في صيف عام 2016 للتخلص من
الخصوم السياسيين، وقمع الأصوات المعارضة؛ إذ وعد الرئيس أردوغان، في حال فوزه، بإنهاء حالة الطوارئ، وزيادة الرواتب، وتوفير آلاف من فرص العمل الجديدة في القطاع العام. أضف إلى ذلك أن إستراتيجية المعارضة في التركيز على شخص الرئيس أردوغان، وجعل المعركة كأنها موجهة ضده شخصيًا، بدلًا من التركيز على برامج حزبه وسياساته، جاءت بنتائج عكسية، كما دلت هذه الإستراتيجية على عجز المعارضة عن اجتراح خطط وبرامج ومشاريع بديلة مما يعد به حزب العدالة والتنمية.
وحال بروز مرشح ائتلاف المعارضة، محرم إينجة، متأخرًا من دون تمكّنه من الذهاب بالانتخابات الرئاسية إلى جولة ثانية، على الرغم من أنه حصل على نسبة عالية من الأصوات (30%)، علمًا أنه لم يكن معروفًا لدى الناخب التركي على نطاق واسع؛ إذ لم يتمكّن إينجة من القيام بحملة دعائية واسعة، ولم يحصل على الدعم المطلوب من حزبه، أو من أحزاب المعارضة الأخرى، خلال الحملة الانتخابية، وكانت النتيجة حصوله منفردًا على أصوات أكثر من حزبه، فكان هو من رفع حزبه، بدلًا من أن يحدث العكس.
مفاجآت الانتخابات
حملت الانتخابات عددًا من المفاجآت:
• الأولى: وهي الأهم، تمثلت في تمكّن حزب الحركة القومية اليميني، بزعامة دولت بهتشلي، من الحصول بمفرده على نحو 11% من مجموع الأصوات في الانتخابات البرلمانية، بعد أن أكدت استطلاعات الرأي تراجع حصة الحزب إلى النصف، بعد انشقاق مجموعة ميرال أكشنار عنه، وتشكيلها حزبًا جديدًا تمكّن من تجاوز عتبة 10% الانتخابية اللازمة لدخول البرلمان. وبذلك يكون اليمين القومي المتشدد في تركيا قد حصد مجتمعًا نحو 21% من مجموع الأصوات، وهي كتلة كبيرة بكل المعايير، وستكون مبعث قلق لجميع القوى السياسية التركية، بما فيها حزب العدالة والتنمية. إذ وعلى الرغم من الحدّة التي تطبع الخلاف بين زعيمي الجناحين، بهتشلي وأكشنار، فإن الاحتمال يبقى قائمًا بحصول مصالحةٍ بين الحزبين القوميين اللذين يتشاركان أكثر الأفكار والمبادئ السياسية، والذهاب في اتجاه تشكيل كتلةٍ نيابيةٍ موحدة ومؤثرة في البرلمان، تقلب المعادلات الحزبية رأسًا على عقب.
• الثانية: ظهرت في تمكن حزب الشعوب الديمقراطي (القومي الكردي) من الحصول على نحو 12% أيضًا من الأصوات في الانتخابات البرلمانية، مع أن رئيسه، صلاح الدين دميرتاش، الموجود في السجن لم يتمكّن من الحصول إلا على نحو 8% من أصوات الناخبين؛ ما يعني أن نحو 4% من الناخبين الأتراك ممن يدعمون أحزابًا أخرى قد صوّتوا لصالح الحزب الكردي في الانتخابات البرلمانية، في حين استنكفوا عن التصويت له في انتخابات الرئاسة. وقد حصل الشيء نفسه في انتخابات حزيران/ يونيو 2015 البرلمانية؛ إذ حاز الحزب الكردي دعم ناخبين لا يلتزمون خطه بالضرورة، وهو ما يسمى في تركيا "أصوات الأمانة"، إذ يصوّت أنصار حزبٍ ما لمصلحة حزبٍ آخر من أجل منع حصول حزبٍ ثالثٍ على أصوات الحزب الأول؛ مثل تصويت حزب الشعب الجمهوري لمصلحة حزب الشعوب الديمقراطي في المناطق الكردية لمنع حزب العدالة والتنمية من زيادة حصته من المقاعد فيها، الأمر الذي مكّن حزب الشعوب الديمقراطي من تجاوز العتبة الانتخابية ودخول البرلمان، وتعد هذه خطوةً ديمقراطيةً مهمةً لناحية حضور هذا الحزب تحت سقف مجلس النواب التركي، وعدم إهدار أصوات ملايين الأكراد الأتراك الذين دعموه، وتركها خارج اللعبة السياسية في البلاد. لكن، لا يُعرف كيف سيستغل حزب الشعوب الديمقراطي هذه الفرصة الجديدة، للمشاركة في الحياة السياسية التركية من داخل قبة البرلمان، علمًا أنه انتهج خطًا متشددًا في مشاركته البرلمانية السابقة، بدعوته إلى العصيان المدني، ودعمه خيارات حزب العمال الكردستاني.
• الثالثة: تمثلت في نجاح الرئيس التركي رجب طيب أردوغان في تحقيق أكثر من 52% من أصوات المقترعين في الانتخابات الرئاسية، بينما حصل حزبه في الانتخابات البرلمانية على نحو 42% فقط من مجموع الأصوات. وهكذا خسر الرهان على إمكانية الحصول على أغلبية مقاعد البرلمان (301 صوتًا من أصل 600) لتشكيل الحكومة منفردًا، وسيصبح الآن تحت رحمة شريكه الصغير في الائتلاف (حزب الحركة القومية) بشأن السياسات والبرامج والحصص من المناصب، الحكومية ومناصب الدرجة الأولى الحساسة في البيروقراطية التركية.
• الرابعة: تمثلت في حصول مرشح حزب الشعب الجمهوري، محرم إينجة، على نحو 30% من مجموع الأصوات في الانتخابات الرئاسية، بينما لم يحصل حزبه سوى على نحو 22% من مجموع الأصوات في الانتخابات البرلمانية. زادت أصوات إينجة بفارق كبير على أصوات حزبه التي تراجعت مقارنةً بآخر انتخابات برلمانية، وبما لا يقل عن ثلاث نقاط؛ وهو مؤشر على أننا بصدد مواجهة حزبية حادة في صفوف الحزب اليساري، كما جرت العادة بعد كل فشل انتخابي. ويعني ذلك أن زعيم الحزب الحالي، كمال كيليشدار أوغلو، قد يجد نفسه مضطرًا إلى ترك مقعده لمنافسه الدائم إينجة بعد هذه الخسارة؛ وذلك لكي يجنب الحزب موجةً جديدةً من الانشقاقات والانفصالات، ربما تضعفه أكثر.
رهانات المستقبل
يبدو أن رهان الرئيس التركي على إجراء انتخابات مبكّرة، تضمن له البقاء في الحكم خمس سنوات أخرى رئيسًا بصلاحيات شبه مطلقة وفق الدستور الجديد، قد آتت أكلها. كما أن الانتخابات، بنتائجها التي جاءت حاسمةً، تدفع في اتجاه استمرار حالة الاستقرار السياسي في تركيا، بعد أن كانت استطلاعات الرأي تذهب في اتجاه أن تكون النتائج متقاربةً وغير حاسمة؛ ما يسهم في مزيد من تعقيد المشهد السياسي المعقد أصلًا.
أمّا خريطة البرلمان المقبل فستكون مختلفة كليًا عن الحالية؛ إذ سيتكوّن من خمسة أحزاب في مقابل أربعة حاليًا، وستكون المعارضة تحت قبته أقوى بكثير مما هي عليه الآن، مع الأخذ في الاعتبار أن التحالفات القائمة اليوم بالنسبة إلى الحكم والمعارضة على السواء قد لا تستمر
طويلًا؛ فهي تحالفاتٌ انتخابيةٌ مؤقتةٌ أكثر من كونها توافقًا على أجندات سياسية متقاربة، وقد تشهد لذلك تقلبات كثيرة خلال المرحلة المقبلة. وسيجد حزب العدالة والتنمية نفسه قريبًا أمام معضلة التعامل مع حليفه وشريكه الانتخابي، حزب الحركة القومية الذي يتبنى مطالبَ وأفكارًا متعارضة مع ما يطرحه حزب الرئيس أردوغان. لكن العلاقة بهذا الحزب لن تكون أكبر هموم حزب العدالة والتنمية في المرحلة المقبلة، مع وجود عدد غير قليل من التحدّيات الداخلية والخارجية الكبرى التي تحتاج إلى قراراتٍ وحلولٍ سريعة لمواجهتها؛ مثل الأزمة الاقتصادية والمالية التي تعصف بالبلاد منذ شهور، والتحديات الإقليمية المعقدة في دول الجوار السوري والعراقي والقبرصي، والجمود في مسار العلاقات التركية – الأوروبية، والتأزم الذي لا ينتهي مع واشنطن.
النتائج والأرقام التي تمنح أردوغان وحزبه حق مطالبة عواصم ودول عديدة باحترام إرادة الناخب التركي وقراره لا بد من أن تُقرأ معكوسة أيضًا؛ إذ تحتاج قيادات حزب العدالة والتنمية في المرحلة المقبلة أيضًا إلى إجراء تقييم شامل للنتائج الانتخابية ودلالاتها، بالترافق مع عملية نقد ذاتي؛ للوقوف على أسباب التأزم والانسداد في التعامل مع ملفات وقضايا عديدة، في مقدمتها المعايير الحقوقية والسياسية والاجتماعية التي جرى تبنيها على مستوى الاتحاد الأوروبي، ومن المجلس الأوروبي، واعتمدها حزب العدالة والتنمية مع انطلاقته في عام 2001، وكانت سببًا رئيسًا في إيصاله إلى الحكم، وبقائه على رأس السلطة طوال هذه المدة.
لا يملك حزب العدالة والتنمية، بعد الآن، سوى خيار المراجعة الواسعة للمواقف والقرارات والسياسات التي أسهمت في انقسام المجتمع التركي على نفسه، بعد أن تم تقسيمه قسمين، وفق معيار الولاء، الموالي والمعارض. وسيترقب كثيرون وعد الرئيس أردوغان بأن انتصاره سيمثل "بداية لمرحلة جديدة من الاستقرار" والإصلاح والتغيير والانفتاح على الداخل والخارج.
وقد جاءت هذه النتائج مخالفةً لأغلب استطلاعات الرأي التي توقعت فشل أردوغان في حسم المعركة الانتخابية على الرئاسة من الجولة الأولى، وكذلك عدم حصول الائتلاف الذي يقوده "العدالة والتنمية" على أغلبية كافية من مقاعد البرلمان، تمكّنه من تشكيل حكومة، بعد أن بالغت هذه الاستطلاعات في تقدير عدد الأصوات التي يمكن أن يحصل عليها حزب الخير "ايي بارتي"، المنشق عن الحركة القومية، والتقليل من احتمالات حصول "العدالة والتنمية" على أصوات جزء مهم من المقترعين الأكراد في مدن جنوب شرق تركيا، خصوصا في ماردين وأورفا وباطمان وأغري وغيرها، بل ذهبت استطلاعات إلى طرح سيناريو فوز مرشح تحالف المعارضة (ائتلاف الأمّة)، محرم إينجة، في الانتخابات الرئاسية، إذا آلت الأمور إلى جولة ثانية حاسمة.
أسباب فشل المعارضة
يعود فشل تحالف المعارضة التي يقودها حزب الشعب الجمهوري في منع حزب العدالة والتنمية من الاستمرار في حكم البلاد عقدين متتاليين إلى عدة أسباب رئيسة: أهمها عجزه عن تقديم برنامج اقتصادي وسياسي بديل، قادر على مواجهة برنامج الحزب الحاكم، وإقناع الناخب التركي بتغيير رأيه، والرهان على مشروع التغيير الذي بدا له مغامرةً في المجهول، خصوصا في مرحلة تحديات صعبة تواجهها تركيا. كما صب تشرذم المعارضة، وعدم قدرتها على الاتفاق وتقديم مرشح رئاسي واحد في مصلحة الرئيس أردوغان؛ إذ أصرّت زعيمة حزب الخير، ميرال أكشنار، على الترشح، رافضةً دعم ترشح الرئيس التركي السابق عبد الله غول للانتخابات الرئاسية في مواجهة الرئيس أردوغان. كما رفضت المعارضة فكرة انضمام حزب الشعوب الديمقراطي، القريب من الأكراد، إلى تحالف الأمّة المعارض، فخسرت بذلك كتلة أصواتٍ مهمة، كان يمكن أن تساعدها على البقاء في السباق الرئاسي لجولة ثانية، ومن ثم منع حزب العدالة والتنمية من حسم المعركة منذ الجولة الأولى. وقد أثّر تشرذم المعارضة هذا في فرصها في إقناع الناخب التركي بقدرتها على تحقيق النصر في الانتخابات.
ويبدو أن حزب العدالة والتنمية تمكّن، في الأسابيع الأخيرة، من استرداد بعض الكتل والشرائح الانتخابية التي كانت لها ملاحظات على سياساته الاقتصادية، أو تلك المتصلة بالتضييق على الحريات العامة، واستغلال المحاولة الانقلابية الفاشلة في صيف عام 2016 للتخلص من
وحال بروز مرشح ائتلاف المعارضة، محرم إينجة، متأخرًا من دون تمكّنه من الذهاب بالانتخابات الرئاسية إلى جولة ثانية، على الرغم من أنه حصل على نسبة عالية من الأصوات (30%)، علمًا أنه لم يكن معروفًا لدى الناخب التركي على نطاق واسع؛ إذ لم يتمكّن إينجة من القيام بحملة دعائية واسعة، ولم يحصل على الدعم المطلوب من حزبه، أو من أحزاب المعارضة الأخرى، خلال الحملة الانتخابية، وكانت النتيجة حصوله منفردًا على أصوات أكثر من حزبه، فكان هو من رفع حزبه، بدلًا من أن يحدث العكس.
مفاجآت الانتخابات
حملت الانتخابات عددًا من المفاجآت:
• الأولى: وهي الأهم، تمثلت في تمكّن حزب الحركة القومية اليميني، بزعامة دولت بهتشلي، من الحصول بمفرده على نحو 11% من مجموع الأصوات في الانتخابات البرلمانية، بعد أن أكدت استطلاعات الرأي تراجع حصة الحزب إلى النصف، بعد انشقاق مجموعة ميرال أكشنار عنه، وتشكيلها حزبًا جديدًا تمكّن من تجاوز عتبة 10% الانتخابية اللازمة لدخول البرلمان. وبذلك يكون اليمين القومي المتشدد في تركيا قد حصد مجتمعًا نحو 21% من مجموع الأصوات، وهي كتلة كبيرة بكل المعايير، وستكون مبعث قلق لجميع القوى السياسية التركية، بما فيها حزب العدالة والتنمية. إذ وعلى الرغم من الحدّة التي تطبع الخلاف بين زعيمي الجناحين، بهتشلي وأكشنار، فإن الاحتمال يبقى قائمًا بحصول مصالحةٍ بين الحزبين القوميين اللذين يتشاركان أكثر الأفكار والمبادئ السياسية، والذهاب في اتجاه تشكيل كتلةٍ نيابيةٍ موحدة ومؤثرة في البرلمان، تقلب المعادلات الحزبية رأسًا على عقب.
• الثانية: ظهرت في تمكن حزب الشعوب الديمقراطي (القومي الكردي) من الحصول على نحو 12% أيضًا من الأصوات في الانتخابات البرلمانية، مع أن رئيسه، صلاح الدين دميرتاش، الموجود في السجن لم يتمكّن من الحصول إلا على نحو 8% من أصوات الناخبين؛ ما يعني أن نحو 4% من الناخبين الأتراك ممن يدعمون أحزابًا أخرى قد صوّتوا لصالح الحزب الكردي في الانتخابات البرلمانية، في حين استنكفوا عن التصويت له في انتخابات الرئاسة. وقد حصل الشيء نفسه في انتخابات حزيران/ يونيو 2015 البرلمانية؛ إذ حاز الحزب الكردي دعم ناخبين لا يلتزمون خطه بالضرورة، وهو ما يسمى في تركيا "أصوات الأمانة"، إذ يصوّت أنصار حزبٍ ما لمصلحة حزبٍ آخر من أجل منع حصول حزبٍ ثالثٍ على أصوات الحزب الأول؛ مثل تصويت حزب الشعب الجمهوري لمصلحة حزب الشعوب الديمقراطي في المناطق الكردية لمنع حزب العدالة والتنمية من زيادة حصته من المقاعد فيها، الأمر الذي مكّن حزب الشعوب الديمقراطي من تجاوز العتبة الانتخابية ودخول البرلمان، وتعد هذه خطوةً ديمقراطيةً مهمةً لناحية حضور هذا الحزب تحت سقف مجلس النواب التركي، وعدم إهدار أصوات ملايين الأكراد الأتراك الذين دعموه، وتركها خارج اللعبة السياسية في البلاد. لكن، لا يُعرف كيف سيستغل حزب الشعوب الديمقراطي هذه الفرصة الجديدة، للمشاركة في الحياة السياسية التركية من داخل قبة البرلمان، علمًا أنه انتهج خطًا متشددًا في مشاركته البرلمانية السابقة، بدعوته إلى العصيان المدني، ودعمه خيارات حزب العمال الكردستاني.
• الثالثة: تمثلت في نجاح الرئيس التركي رجب طيب أردوغان في تحقيق أكثر من 52% من أصوات المقترعين في الانتخابات الرئاسية، بينما حصل حزبه في الانتخابات البرلمانية على نحو 42% فقط من مجموع الأصوات. وهكذا خسر الرهان على إمكانية الحصول على أغلبية مقاعد البرلمان (301 صوتًا من أصل 600) لتشكيل الحكومة منفردًا، وسيصبح الآن تحت رحمة شريكه الصغير في الائتلاف (حزب الحركة القومية) بشأن السياسات والبرامج والحصص من المناصب، الحكومية ومناصب الدرجة الأولى الحساسة في البيروقراطية التركية.
• الرابعة: تمثلت في حصول مرشح حزب الشعب الجمهوري، محرم إينجة، على نحو 30% من مجموع الأصوات في الانتخابات الرئاسية، بينما لم يحصل حزبه سوى على نحو 22% من مجموع الأصوات في الانتخابات البرلمانية. زادت أصوات إينجة بفارق كبير على أصوات حزبه التي تراجعت مقارنةً بآخر انتخابات برلمانية، وبما لا يقل عن ثلاث نقاط؛ وهو مؤشر على أننا بصدد مواجهة حزبية حادة في صفوف الحزب اليساري، كما جرت العادة بعد كل فشل انتخابي. ويعني ذلك أن زعيم الحزب الحالي، كمال كيليشدار أوغلو، قد يجد نفسه مضطرًا إلى ترك مقعده لمنافسه الدائم إينجة بعد هذه الخسارة؛ وذلك لكي يجنب الحزب موجةً جديدةً من الانشقاقات والانفصالات، ربما تضعفه أكثر.
رهانات المستقبل
يبدو أن رهان الرئيس التركي على إجراء انتخابات مبكّرة، تضمن له البقاء في الحكم خمس سنوات أخرى رئيسًا بصلاحيات شبه مطلقة وفق الدستور الجديد، قد آتت أكلها. كما أن الانتخابات، بنتائجها التي جاءت حاسمةً، تدفع في اتجاه استمرار حالة الاستقرار السياسي في تركيا، بعد أن كانت استطلاعات الرأي تذهب في اتجاه أن تكون النتائج متقاربةً وغير حاسمة؛ ما يسهم في مزيد من تعقيد المشهد السياسي المعقد أصلًا.
أمّا خريطة البرلمان المقبل فستكون مختلفة كليًا عن الحالية؛ إذ سيتكوّن من خمسة أحزاب في مقابل أربعة حاليًا، وستكون المعارضة تحت قبته أقوى بكثير مما هي عليه الآن، مع الأخذ في الاعتبار أن التحالفات القائمة اليوم بالنسبة إلى الحكم والمعارضة على السواء قد لا تستمر
النتائج والأرقام التي تمنح أردوغان وحزبه حق مطالبة عواصم ودول عديدة باحترام إرادة الناخب التركي وقراره لا بد من أن تُقرأ معكوسة أيضًا؛ إذ تحتاج قيادات حزب العدالة والتنمية في المرحلة المقبلة أيضًا إلى إجراء تقييم شامل للنتائج الانتخابية ودلالاتها، بالترافق مع عملية نقد ذاتي؛ للوقوف على أسباب التأزم والانسداد في التعامل مع ملفات وقضايا عديدة، في مقدمتها المعايير الحقوقية والسياسية والاجتماعية التي جرى تبنيها على مستوى الاتحاد الأوروبي، ومن المجلس الأوروبي، واعتمدها حزب العدالة والتنمية مع انطلاقته في عام 2001، وكانت سببًا رئيسًا في إيصاله إلى الحكم، وبقائه على رأس السلطة طوال هذه المدة.
لا يملك حزب العدالة والتنمية، بعد الآن، سوى خيار المراجعة الواسعة للمواقف والقرارات والسياسات التي أسهمت في انقسام المجتمع التركي على نفسه، بعد أن تم تقسيمه قسمين، وفق معيار الولاء، الموالي والمعارض. وسيترقب كثيرون وعد الرئيس أردوغان بأن انتصاره سيمثل "بداية لمرحلة جديدة من الاستقرار" والإصلاح والتغيير والانفتاح على الداخل والخارج.