الانتخابات البلدية في تونس: النتائج والتداعيات

15 مايو 2018

تونسيان يصوتان في مركز اقتراع في القصرين (6/5/2018/فرانس برس)

+ الخط -
بإعلان النتائج الأولية لأول انتخابات بلدية تعدّدية تشهدها تونس منذ استقلالها، بدأت الملامح الكبرى للمشهد السياسي الجديد في التبلور. وعلى الرغم من أن هذا الاستحقاق الانتخابي قد جرى على مستوى محلي، فإن تداعياته تعتبر مدخلًا لإعادة ترتيب المشهد السياسي الوطني، وفق موازين القوى التي أفرزتها صناديق الاقتراع، وحتى لإرباك المشاريع الإقليمية الهادفة إلى إفراغ الربيع العربي من مقاصده التحرّرية، وتحويل وجهته نحو إعادة إنتاج منظومات الاستبداد.

قبل الاقتراع وبعده
جرت الانتخابات البلدية التي صوّت فيها العسكريون والأمنيون يوم 29 نيسان/ أبريل 2018، والمدنيون يوم 6 أيار/ مايو 2018، ضمن 350 دائرة انتخابية؛ هي عدد البلديات وفق التقسيم الإداري الجديد، وتنافس خلالها 53668 مرشحًا ضمن 2074 قائمة: 1055 قائمة حزبية، و159 قائمة ائتلافية، و860 قائمة مستقلة. وغطت قوائم حركة النهضة جميع الدوائر الانتخابية، وحل بعدها حزب نداء تونس الذي ترشحت قوائمه في 345 دائرة، بينما لم يتمكّن باقي الأحزاب من تغطية أكثر من 69 دائرة في أفضل الأحوال، وظل حضور بعضها رمزيًا. أمّا القوائم المستقلة، فقد سجلت انتشارًا كثيفًا في معظم الدوائر الانتخابية.

بلغ عدد الذين أدلوا بأصواتهم 1796154 ناخبًا، عند إقفال الصناديق في 6 أيار/ مايو 2018؛ أي بنسبة 33.7% من المسجلين البالغ عددهم 5369892. وتشير النتائج الأولية التي أعلنتها الهيئة العليا المستقلة للانتخابات، والتي لن تصبح نهائية إلا بعد البت في الطعون، إلى أن قوائم حركة النهضة فازت بـ 28.64% من مقاعد المجالس البلدية (1101 مقعدٍ)، بينما حل حزب نداء تونس بعدها بـ 20.85% (694 مقعدًا)، في حين تقدّم حزب التيار الديمقراطي (ديمقراطي وسطي) وحل ثانيًا أو ثالثًا في أغلب الدوائر التي ترشح فيها، بنسبة 4.19% (125 مقعدًا). أمّا القوائم المستقلة، فتشير النتائج الأولية إلى أنها حصلت على 32.27% من مقاعد المجالس البلدية في عموم البلاد (1001 مقعد)، وأن فوزها تفاوت من بلدية إلى أخرى ومن ولاية إلى أخرى. ففي حين سجلت فوزًا لافتًا في بعض الدوائر الانتخابية في العاصمة والشمال، فإن حاصلها في الجنوب ظل ضعيفًا مقارنة بالقوائم الحزبية.

انحسار الخزان الانتخابي
تشير الأرقام التي نشرتها الهيئة العليا المستقلة للانتخابات إلى أن نسبة المشاركة العامة في الاقتراع في الانتخابات البلدية الأخيرة، والتي لم تتعدّ 33.7%، كانت الأضعف بين نسب المشاركة في الاستحقاقات الانتخابية التي شهدتها البلاد منذ الثورة وإقرار التعدّدية السياسية، إلا أنها لم تكن مفاجِئة، فقد عبر معظم الأطراف المشاركة، منذ أشهر، عن خشيته من تدني الحماس للانتخابات. وعلى الرغم من غياب الأرقام الدقيقة التي تستند إلى مؤشرات موضوعية واستقراءات رأي موثوق بها، فإن ضعف إقبال المسجلين على مراكز الاقتراع يعود، في غالبه، إلى العزوف واللامبالاة أكثر من المقاطعة، فالعزوف سلوك غير مؤطّر وغير موجّه، وناتج، أساسًا، من الشعور باستمرار الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية الصعبة وبفشل النخب السياسية التي أفرزتها الانتخابات السابقة في إحداث تغييرٍ نحو الأفضل. أمّا المقاطعة، فهي سلوك مؤطّر وموجّه ومنسّق وصادر عن تفكير وحجاج ودعاية، وهو الأمر الذي لم يحدث؛ إذ لم يدع أي طرف سياسي أو مدني وازن إلى مقاطعة الانتخابات البلدية، كما لم تنخرط أيٌّ من وسائل الإعلام في حملات صريحة في هذا الاتجاه.

انعكس تراجع أعداد المصوتين، منذ انتخابات 2011 إلى الانتخابات البلدية الأخيرة، مرورًا بالانتخابات البرلمانية والرئاسية سنة 2014، على الخزان الانتخابي للأحزاب، بغض النظر عن النسب والمقاعد التي فازت بها، فحركة النهضة التي حلّت في المقدمة في انتخابات 2011، ثم حلّت في المرتبة الثانية في انتخابات 2014، قبل أن تعود إلى المرتبة الأولى في هذه الانتخابات، تقلّص عدد المصوتين لصالحها إلى أقل من النصف. أمّا حزب نداء تونس فقد خسر هو الآخر أكثر من نصف ناخبيه خلال أقلّ من أربع سنوات، الأمر الذي ينطبق أيضًا على أحزاب أخرى، كالجبهة الشعبية وحراك تونس الإرادة، بينما تظل بعض الحالات القليلة الأخرى، كالتيار الديمقراطي، الذي لم يكن موجودًا أصلًا في انتخابات 2011، استثناء لا يكسر القاعدة، وإن كان يشير إلى إمكانية بداية ظهور قوة صاعدة تختلف مرجعيتها، سياسيًا وفكريًا، عن "النهضة" و"نداء تونس"، ومؤهلة لملء الفراغ الذي خلف تأكّل أحزاب محسوبة على "العائلة الوسطية الديمقراطية"، كالمؤتمر من أجل الجمهورية، والحزب الجمهوري، والتكتل الديمقراطي.

تحولات الخريطة الانتخابية
بالرجوع إلى الخريطة الانتخابية التي تشكلت في الانتخابات البرلمانية والرئاسية 2014، يتّضح أن حزب نداء تونس ورئيسه الباجي قائد السبسي تمكّنا من إزاحة حركة النهضة من المرتبة الأولى التي أحرزتها في انتخابات 2011، في أغلب أحياء العاصمة وفي ولايات الساحل والشمال الغربي، في حين ظلت ولايات الجنوب، خصوصا الجنوب الشرقي، خزانًا انتخابيًا تقليديًا لحركة النهضة التي فازت بالمرتبة الأولى، وبفارق كبير جدًّا عن حزب نداء تونس، بينما لم يحصل فيها الرئيس الباجي قائد السبسي سوى على نسبةٍ متواضعة جدًّا من أصوات الناخبين تقارب العُشُر.

وبإعلان النتائج الأولية للانتخابات البلدية الأخيرة، وبتراجع حزب نداء تونس إلى المرتبة الثانية، على المستوى الوطني، تكون الخريطة الانتخابية قد شهدت تحولًا في أكثر من ولاية. ففي معظم بلديات تونس العاصمة، عادت حركة النهضة لتتصدّر قائمة الفائزين، وأحدثت اختراقًا نوعيًا في بلدية تونس المركز، ذات الثقل الرمزي، والتي حقق فيها "نداء تونس" فوزًا عريضًا في انتخابات 2014، من خلال فوز قائمتها التي تترأسها امرأة، والتي يمكنها الفوز برئاسة المجلس البلدي، إذا استطاعت الحصول على أصوات أغلبية أعضائه، بعد أن ظل شاغل هذا المنصب يعيّنه رئيس الجمهورية، ويطلق عليه لقب "شيخ مدينة تونس"، منذ الاستقلال.

لم يقتصر التحوّل على العاصمة، فحسب، بل شمل كثيرا من بلديات الساحل التي تمكّنت فيها قوائم حركة النهضة من إحراز المرتبة الأولى في مقابل تراجع قوائم حزب نداء تونس. ففي بلدية سوسة المركز؛ كبرى مدن الساحل، تساوى عدد المقاعد التي فاز بها الحزبان، بينما تفاوتت في البلديات الواقعة في الولاية نفسها والولايات المجاورة مع تقدّم طفيف لحركة النهضة في أغلبها. أمّا في صفاقس؛ ثاني المدن التونسية سكانًا، فقد كان الفارق بين عدد المقاعد التي أحرزتها قائمة حركة النهضة، والتي أحرزتها قائمة حزب نداء تونس كبيرًا؛ فقد تراجع "نداء تونس"، في بعض البلديات إلى المرتبة الرابعة، وهو الأمر الذي ينسحب، أيضًا، على بلدياتٍ أخرى في ولايات الشمال، مثل بنزرت وزغوان ونابل، والقيروان (الوسط).

مقابل التحول الذي شهدته نتائج الانتخابات البلدية في بعض بلديات العاصمة والشمال وصفاقس، قياسًا على نتائج انتخابات 2014، ظلت الخريطة الانتخابية في الشمال الغربي والجنوب على حالها، مع تحوّل طفيف في بعض بلديات الشمال الغربي لصالح حركة النهضة. ففي ولايات الكاف وسليانة وجندوبة، راوحت النتائج مكانها من خلال التصويت لحزب نداء تونس، أو لأحزاب من خطه السياسي نفسه، كالحزب الدستوري وحركة مشروع تونس، مع تراجع كبير في نسب المقترعين، وتحسّن طفيف لقوائم حركة النهضة. أمّا في الجنوب، وخصوصا الجنوب الشرقي (ولايات تطاوين، ومدنين، وقابس) فقد ظل المزاج الانتخابي على حاله من خلال تصدّر قوائم حركة النهضة المشهد البلدي بفارق كبير، وحضور حراك تونس الإرادة (حزب الرئيس السابق منصف المرزوقي) في بعض البلديات، والضعف الشديد لأداء قوائم الجبهة الشعبية (تحالف يساري قومي).

جدل القوائم المستقلة: جدل الهوية والترتيب

خلافًا للاستحقاقات الانتخابية السابقة، سجلت القوائم المستقلة حضورًا لافتًا في الانتخابات البلدية الأخيرة، وبلغ عددها 860 قائمة، توزعت على مختلف البلديات. وأثار حضور القوائم المستقلة بهذه الكثافة جدلًا بشأن هويتها السياسية وأدوارها. وتصاعد الجدل إثر إعلان النتائج، ذلك أن هذه القوائم حصلت على 32.27% من عدد الأصوات المصرّح بها، بحسب النتائج الأولية التي أعلنتها الهيئة العليا المستقلة للانتخابات، لتتصدّر المشهد، متفوقةً، على حركة النهضة، غير أنها حصلت على الترتيب الثاني، من حيث عدد المقاعد (1001 مقعد للمستقلين مقابل 1101 مقعد للنهضة). ويتركز الجدل الذي أثارته القوائم المستقلة، خصوصًا، بشأن هويتها السياسية، ومدى دقة الحديث عن احتلالها المرتبة الأولى، فالقوائم المستقلة تفتقر إلى أي هوية سياسية معلنة، مع أن بعضها محسوبٌ على أطرافٍ بعينها، كما أنها تفتقر إلى رابط سياسي أو مشروعي أو برامجي، يجمع بينها داخل البلدية نفسها أو من بلدية إلى أخرى، عكس الأحزاب. أضف إلى ذلك تعدّدها داخل الدائرة الانتخابية نفسها، على خلاف الأحزاب التي لا يُسمح لها بترشيح أكثر من قائمة واحدة في كل دائرة. كل هذه العوامل الموضوعية تجعل وضع القوائم المستقلة في موضع مقابلة ومقارنة بالقوائم الحزبية ضربًا من التعسف، منهجيًا وسياسيًا. وقد تباين التوزيع الجغرافي للمقاعد التي فازت بها القوائم المستقلة من بلدية إلى أخرى، ففي حين كان نصيبها معتبرًا في بعض أحياء العاصمة وولايات الساحل (سوسة، والمنستير، والمهدية)، ظل التصويت في الجنوب وبعض ولايات الوسط والشمال حزبيًا، بالأساس، ولم تغنم القوائم المستقلة إلا النزر القليل.

باستثناء بعض البلديات، من غير المتوقع أن يكون للفائزين بمقاعد القوائم المستقلة أدوار ومسؤوليات متقدمة في المجالس البلدية المقبلة؛ إذ ينتظر أن يتحالف بعضها مع الفائزين من القوائم الحزبية، خصوصا أن الهوية السياسية لبعض القوائم المستقلة محسوبة، بدرجات، على أطراف سياسية اضطرت إلى الترشّح تحت عنوان الاستقلالية، لعدم تمكّنها من الإيفاء بشروط الترشح في القوائم الحزبية، وخصوصا شرطي التناصف الأفقي والتناصف العمومي (التناصف بين الرجال والنساء داخل القوائم الواحدة، والتناصف في رئاسة القوائم داخل الولاية). ومن المستبعد جدًّا أن يصل المستقلون إلى أي شكل من أشكال التنظيم والترابط الذي يؤهلهم للتحول إلى قوة ضغط وتعديل وازنة.

ما بعد الانتخابات
على الرغم من بعض المشكلات والتجاوزات التي شابت عملية الاقتراع، ووعدت هيئة الانتخابات بالنظر فيها، واتخاذ ما يلزم من إجراءات بشأنها، كوقف عملية التصويت في بلدية المظيلة التابعة لولاية قفصة، وتأجيلها إلى الأسابيع التالية، ودخول المال السياسي على الخط، والأحاديث الرائجة عن حصول اختراقات حزبية لهيئة الانتخابات وفروعها الجهوية، فإن ذلك كله يظل محدودًا جدًّا في الزمان والمكان، ولا يُتوقع أن ترقى تداعياته إلى حد إحداث تغييرات جذرية في النتائج أو في الخريطة الانتخابية أو القدح في شرعية الانتخابات ونتائجها.

ولم يخفّف ظهور النتائج الأولية من حالة الاستنفار التي تشهدها الأحزاب والقوائم الائتلافية والمستقلة، ذلك أن معركة توزيع المهمات والمسؤوليات داخل المجالس البلدية تتطلب توافقات شاقة وحسابات دقيقة، إضافة إلى أن مخرجات هذه التوافقات والحسابات سيكون لها تأثير بالغ في الاستحقاقات المقبلة، وستحدد ثقل أي طرف وهامش تحرّكه، خصوصا أن البلاد مقبلة على انتخابات برلمانية ورئاسية سنة 2019. وتفرض التحولات التي شهدتها نتائج الانتخابات البلدية، قياسًا على انتخابات 2014، مبدئيًا، تحولات أخرى في خريطة التوافقات. فحركة النهضة التي تصدرت مجالس كثيرة لم تضمن، في بعضها، أغلبيةً تسمح لها بهندسة المجالس البلدية، وتوزيع المسؤوليات بمفردها، كما أن تراجع حزب نداء تونس في بلدياتٍ عديدة لا يسمح لها بالتعويل عليه في عقد التوافقات، وهو ما يفتح الباب أمام توافقات فسيفسائية تتباين من بلدية إلى أخرى بحسب نسبة حضور كل طرف.

ويُعتبر اختيار رؤساء المجالس البلدية أول اختبار عن مدى صعوبة تحقيق التوافقات المنتظرة، فاختيار رئيس المجلس البلدي يتطلب حصوله على الأغلبية (خمسون زائد واحد)، وهو الأمر الذي يفرض توافقاتٍ قد تجمع أكثر من ثلاثة أطراف في بعض المجالس البلدية. وينتظر أن يصعّد حزب نداء تونس من شروطه، لقبول التوافق مع حركة النهضة من خلال تقديم ممثليه لتولي رئاسة المجالس البلدية، خصوصا في العاصمة والمدن الكبرى. وقد بدأت ملامح هذا التوجه في بلدية تونس المركز، ذات البعد الرمزي، ذلك أن أكثر من مسؤول من حزب نداء تونس ربط بين المضي في التوافق مع حركة النهضة وقبولها رئيس قائمتهم.

خاتمة
من المبكر جدًّا الحكم بإمكانية أن تحقق المجالس البلدية التي أفرزتها الانتخابات الأخيرة قدرًا

من النجاح في تحويل العناوين الكبرى للحكم المحلي إلى إجراءاتٍ وإنجازاتٍ تنعكس، إيجابيًا، على حياة المواطنين، وتخفف وطأة الأزمة المعيشية والخدمية والتنموية المعقدة في أسبابها وتمظهراتها، وتحدّ من شطط المركزية التي انتهجتها الدولة منذ الاستقلال، غير أن التعدّد الذي يسم المجالس البلدية المنتخبة سيكون، مبدئيًا، دافعًا لكل طرف لتحقيق الإضافة، وضمان رصيد يؤهله لخوض الاستحقاقات الانتخابية المقبلة، وكسب مزيد من القواعد والأوراق، كما يمكن أن يكون، أيضًا، بيئةً لتواصل حالة التجاذب والمناكفة.

على الرغم من الرفض الإقليمي المعلن، فإن إنجاز الانتخابات، في حد ذاته، يعدّ مكسبًا ومراكمة لـ "التحوّل الديمقراطي" الذي حافظ على شكلياته الدنيا في تونس، على خلاف دول الربيع العربي الأخرى، غير أن الموضوعية تقتضي، أيضًا، الإقرار بأن التجربة في مراحلها الأولى، وأن الأطراف الإقليمية المنخرطة في إجهاض استحقاقات الثورات العربية لن تسلّم، بسهولة، بتبلور تجربة، قائمة على إدارة التناقضات بأدوات سياسية، تغري الآخرين بالنسج على منوالها.