"سأنتحرُ إن فشلتُ في دراستي"، أو "إن لم أحصل على نقاطٍ كافية"، "إن فقدت هذا الحب"، أو "إن اكتشف والدي علاقة حب انجرفت بعيدًا"، هكذا يُعلن الشّباب بجرأة مستجدّة عن نواياهم الانتحارية، التي كانت تُدفن عميقًا من قبل، إلى أن ينجحوا في تنفيذها ويُصدم الجميع.
تحوّل الانتحار في المغرب، من موضوع يخجل كثيرون التطرّق إليه، إلى موضوع للتّباهي لدى بعض الشّباب، والدّلالة على الشّجاعة تجاه خيبات الحياة، وإلى تهديدٍ يتكرّر بشكل علني، في حالات عديدة لشباب يُعلن عن نيّته في الانتحار على فيسبوك. منهم من يتمّ إنقاذه بعد "الإعلان الدّرامي"، حيث يُسرع أصدقائه إلى إبلاغ عائلته، ومنهم من يفوت عليه الأوان، مثل الشّاب الذي انتحر مؤخرًا لأنه لم يحصل نقاطًا جيدة في دراسته للهندسة.
من جهتها، أفادت إحصائيات رسمية في المغرب، بأنّه تُسجّل أكثر من 1500 حالة انتحار في السّنة، بالإضافة إلى مئات من محاولات الانتحار. من هذه الحالات نجد أن 85% منها، تمت شنقًا بواسطة حبل أو حزام، وشملت 65% من الذكور مقابل 35% من الإناث، مع وجود حالاتٍ لا يتمُّ التّصريح بها، خاصّة في القرى تجنبًا للفضيحة.
في مقابل ذلك، تقرّ إحصائيات أخرى أن 16% من المغاربة يفكّرون في الانتحار، و14% من اليافعين بين سن 13 و15 سنة فكرّوا في الانتحار في مرحلة ما، حسب وزارة الصحّة المغربية.
فترة إحباط
يعتقد مختصّون أن معظم حالات الانتحار تمّت بالإكراه، أيّ أن المنتحر يضع حدًا لحياته بفعل الضّغوط التي يمارسها المجتمع، وليس لرغبة منه في الموت، رئيس الجمعية المغربية لحقوق الإنسان أحمد الهايج، يؤكّد في حديث إلى "جيل"، إن الفئات الأكثر إقدامًا على الانتحار، هي فئة الشّباب واليافعين.
ويقدّم المتحدّث، نموذج الشّابات اللّواتي ينتحرن لأسبابٍ تتعلّق بثقل العادات التي تفرض عليهن الزّواج من أشخاص لا يرغبن بهم، أو بسبب تعرّضهن للاغتصاب، كحالة خديجة السويدي التي انتحرت حرقًا بعد فشلها في إدانة مغتصبيها الثّمانية على خلفية شكوى رفعتها ضدّهم، خاصّة في غياب المصاحبة الطبّية النّفسية، التي يمكنها أن تخفّف آثار الاغتصاب على الضّحايا.
وبشكلٍ عام، يشكلّ الإحباط وانسداد الآفاق والإحساس بالقهر الذي يشعر به الشّباب المقبل على الحياة، بتطلّعات كبيرة لا يجد لها مكانًا على أرض الواقع، هي جوهر الأسباب التي تدفع الشّباب المغربي إلى هاوية الانتحار في نظر الهايج.
ويضيف المتحدّث، أن القلق والتوتّر عاملان مهمّان في الدّفع أكثر تجاه قرار الانتحار، خاصّة بالنّسبة لبعض الحالات التي لا تتحمّل ظروف الحياة الصّعبة، كما أن نسب الانتحار تزداد بشكل يرافقه هبوطٌ حادٌ في مستوى الصّحة النّفسية للمواطن المغربي، في ظروف معيشية صعبة ماديًا ومعنويًا لا يستطيع تحمّلها، بالإضافة إلى انتشار التّعاطي للأقراص المهلوسة وغيرها من المواد المخدّرة التي تحفّز الميول الانتحارية لدى الشباب.
من جهتها تعترف حفصة، شابة سبق لها محاولة الانتحار في حديث إلى "جيل"، أنّ عوامل عديدة دفعتها للتّفكير في الانتحار، منها فشل علاقتها العاطفية، والانتقام من والديها الذين خنقا حركتها، ومنعاها من المشاركة في رحلة مدرسية، في فترة عمرية حسّاسة تتميّز باضطراب هرمونات النّمو خلال مرحلة المراهقة.
أمّا الشابة غزلان، فكانت محاولة عائلها إجبارها على الارتباط بشخص لا تحبّه، وحرمانها من الاستقلالية التي ترغب في عيشها من أجل تحقيق أحلامها، وإثبات ذاتها في مجتمع لا يتعامل مع المرأة إلا كأنثى، أسبابًا جعلتها تختار طريق الموت الذي أعيدت منه في الرّمق الأخير.
فقدان المعنى
ويُرجعُ أستاذ علم الاجتماع جمال فزّة في حديث إلى "جيل"، أسباب اللّجوء إلى عوامل منها ما يرتبط بوضعيات خاصّة، وما يرتبط بحالة المجتمع على وجه العموم.
فبالنّسبة للعوامل المباشرة للانتحار، يوضّح المتحدّث، أنها ترتبط أساسًا بالحالة النّفسية للفرد؛ ومنها الإحباط واليأس اللذان ينجمان عن خيبة أمل المُنتحر، وتعاظم شعوره بتأنيب الضّمير، وأما العوامل غير المباشرة، فترتبط بحالة الأنوميا الاجتماعية؛ أي تفكّك معايير المجتمع وقيمه الأخلاقية والاجتماعية، ما يؤدّي إلى شيوع شعور عام في المجتمع بعدم الأمان، الذي يقود في الغالب إلى الانزواء أو الانتحار على حدّ قوله.
وبحسب فزّة، فحالات الانتحار المتزايدة يُسبّبها تفكّك سيرورة التّنشئة الاجتماعية وصعود الفردانية، وإذا كان الشّباب أكثر عرضة للانتحار من غيرهم، فذلك لأنّهم الأكثر تضرّرًا من تفكّك المؤسّسات الاجتماعية.
لكنّ المتحدث، رفض إرجاع هذه الظاهرة، إلى خصوصيات مرحلة الشّباب، أو اعتبار مستوى العيش سببًا للانتحار، ففي رأيه، "الفقر لا يؤدّي إلى الانتحار، بالعكس الغنى الفاحش قد يفعل".
ويبقى المصدر الأوّل للانتحار في نظر الدكتور جمال فزة، هو الشّعور العام بفقدان المعنى، والشّعور بعدم الأمان الذي تخلقه الحياة الحضرية، "بما أنّنا نعيش عصر ما بعد الحداثة، حيث يسود التّشكيك في كل القيم التي سارت على دربها الإنسانية، منذ عصر التّنوير إلى غاية الآن، كمفهوم للتقدّم".
تكلّم، ابتسم، عش
تحت شعار "أوقفوا الصّمت"، أسّست مريم العراقي جمعية "ابتسامة رضا" سنة 2009 ، بعد انتحار ابنها رضا البالغ من العمر 13 سنة، وصرّحت مريم التي تشغل منصب رئيسة الجمعية لـ "جيل"، أنّها فكّرت في إنشاء الجمعية من أجل مساعدة شّباب في وضعية نفسية صعبة، خاصّة أصحاب الميول الانتحارية، عبر تقديم خدمة ch@técoute "دردشة واستماع"، لتلقّي اتّصالاتهم ووضع حد للصّمت الذي يلفّ حالات الانتحار باعتماد شعار تحفيزي من ثلاث كلمات "تكلّم، ابتسم، عِش".
وتهدف الجمعية إلى الحدّ من عزلة أصحاب الميول الانتحارية، عبر القيام بتدخّلات وحملات توعوية في أماكن تواجد الشّباب واليافعين، خاصّة المدارس، وعبر خدمة "أوقفوا الصّمت" التي تستقبل الجمعية من خلالها حالات شباب يعاني من فترات حرجة من حياته في موقع يحمل الاسم نفسه (www.stopsilence.org)
ولا يحدث الانتحار كما تقول مريم كنتيجة لوضع ما، رغم أن هذا الوضع قد يكون عاملًا مساهمًا، لكنّه ليس سببًا مباشرًا، كما أن الانتحار ليس مرضًا، ولكن غياب التوازن بين قدرات شخص ما، على مواجهة وضعيةٍ صعبة من جهة، وضعف الموارد التي تساعده على المواجهة (المحيط الاجتماعي والعائلي، الإيمان، المختصّين النّفسيين،..) من جهة أخرى.
وما يؤدّي إلى الانتحار هو انغلاق الشّباب في دائرة المعاناة، ما يقودهم إلى الاعتقاد بأنّهم وحيدون، وليس أمامهم حلٌّ آخر غير إنهاء حياتهم ومعاناتهم.
فعلى سبيل المثال، تضيف مريم، شابة تحرشوا بها، تبدأ في البحث عن حلولٍ في محيطها حالما تبدأ التحرّشات عبر إخبار شخص ما، أو أشخاصًا عديدين. وإذا لم يتغيّر الوضع تفقد الثّقة في نفسها وفي الآخرين، وحين تكتشف ضحايا غيرها، تشعر بالخجل لعدم قدرتها على مساعدتهم والدّفاع عنهم، وتصبح في وضع نفسي هشٍ للغاية، فيكفي أحيانًا حادثٌ واحد لفقدان التّوازن، والتّصرّف بشكلٍ عنيف قد يكون الانتحار.
وفي نظرها، فالحدّ من الانتحار يمرّ عبر الحدّ من العزلة التي يعيشها أصحاب الميول الانتحارية، والتي تقود إلى انحراف السّلوك، مثل العنف ضدّ النّفس والآخرين، التّحرش الجنسي، الإدمان، التّخريب، الاضطرابات السّلوكية، والانتحار، وعبر الاقتراب من هؤلاء الشّباب واليافعين، وتحديد حجم معاناتهم قبل أن يستفحل التّفكير الانتحاري.
وعادة ما يجرّب هؤلاء أن يلفتوا الانتباه إلى معاناتهم بشكلٍ ما، غير أن المحيطين بهم إما غير مستعدّين لتقبّل هذه المعاناة، أو لا يعرفون كيف يتعاملون معها، خاصّة أنّه من عادة اليافعين الذي يخوضون معاناة ما، أن يكتموا مشاعرهم بشكل جيّد، ولكن مع ذلك تضيف مريم العراقي، بإمكان الجميع أن يساعد في احتواء الوضع إن كان ملمًا وواعيًا به.