وصلت العلاقات السياسية والدبلوماسية بين مصر وتركيا إلى مرحلة الأزمة، عقب انقلاب 3 يوليو 2013 في مصر. ومؤخرًا كانت هناك محاولات لإصلاح تلك العلاقة والعودة بها إلى ما كانت عليه، إلا أن السلطات المصرية صدّرت مؤخرًا مشكلة جديدة قد تعوق تلك المحاولات، من خلال الإعلان عما يسمى بقضية التخابر مع تركيا، والتي تضم عددًا من المصريين في الداخل والخارج.
ولكن في نفس الوقت كانت تركيا تشهد مؤتمرًا اقتصاديًا امتد لخمسة أيام (26 نوفمبر إلى 1 ديسمبر الجاري) تحت عنوان "نصنع معًا" ضم رجال أعمال مصريين وأتراكا، والملاحظ حضور جميع رجال الأعمال الممثلين للجانب المصري، حيث حضر من القاهرة ممثلون عن جمعية رجال الأعمال المصريين، واتحاد الصناعات المصرية، والاتحاد العام للغرف التجارية المصرية.
وانتهت أعمال المؤتمر بالإعلان عن توقيع شراكات بين الجانبين بحوالي 51 مليون دولار كاستثمارات من الجانب التركي ستتوجه إلى مصر، وذلك في مجالات الصناعات الهندسية والغذائية وقطع غير السيارات.
كما أعلن عن استهداف زيادة قيمة التبادل التجاري بنحو 30% عام 2018. إضافة إلى الإعلان عن عودة السياحة التركية لمصر، خلال الأيام القليلة الماضية، عبر أول فوج يضم نحو 50 سائحا تركيا، بعد انقطاع الرحلات السياحية التركية لمصر لنحو 4 سنوات.
والجدير بالذكر أن التبادل التجاري بين البلدين بلغ ما يزيد عن 5 مليارات دولار عام 2012، وتراجع إلى 4.1 مليارات دولار في 2016، وخلال الفترة من يناير - أغسطس 2017 بلغ نحو 2.7 مليار دولار.
ويعود تراجع التبادل التجاري بين البلدين، خلال الفترة من 2012 - 2016، إلى أسباب تتعلق في معظمها بالوضع الاقتصادي لمصر، سواء بسبب عدم توفير العملات الأجنبية، أو بتلك الإجراءات التي اتخذتها مصر للحد من الواردات، وتحجيم العجز التجاري، وهي إجراءات لم يكن مقصودا بها تركيا على وجه الخصوص، ولكنها طبقت تجاه إجمالي الواردات المصرية.
ووصل عدد الشركات التركية في مصر إلى نحو 305 شركات، تضم 75 ألف عامل، وباستثمارات تقدر بنحو ملياري دولار. وطبيعة الاستثمارات التركية في مصر وضمها لهذا العدد من العمال، حدّ من إمكانية مصر في اتخاذ قرار بطرد المستثمرين الأتراك عقب تأزم العلاقات السياسية بين البلدين.
وقد تكون الخطوات على الصعيد الاقتصاد تمهيدا لعودة العلاقات السياسية والدبلوماسية، التي تعاني مشكلات كبيرة، ولكن الخطوات التمهيدية عبر الاقتصاد لم تكن وليدة مجرد رغبة لعودة العلاقات السياسية، ولكن هناك دوافع أخرى إقليمية، جعلت تركيا تعيد حساباتها لعودة العلاقات مع مصر.
وإجمالًا، فإن تجسير العلاقات السياسية عبر بوابة الاقتصاد لن يكون لأسباب سياسية فقط، فهناك أيضًا مزايا اقتصادية تستفيد منها الدولتان، وفيما يلي نتناول أسباب عودة العلاقات عبر الجسور الاقتصادية، وكذلك الإيجابيات المنتظرة لصالح الدولتين.
أسباب عودة العلاقات
شهدت منطقة الشرق الأوسط تطورات متسارعة منذ تراجع ثورات الربيع العربي في عام 2013، مما أدى إلى إعادة الحسابات، فالواقع السياسي المأزوم في مصر دفع إدارة الانقلاب العسكري إلى التوجه للدول التي لها حسابات سياسية ضد تركيا، مثل قبرص واليونان ودولة الكيان الصهيوني، ما أثمر عن توقيع اتفاقيات إعادة ترسيم الحدود لصالح تلك الدول، نكاية في تركيا.
وسمحت تلك الاتفاقيات باستثمار كل من قبرص واليونان ودولة الكيان الصهيوني في حقول الغاز الطبيعي، ومباشرة الإنتاج الفعلي في تلك الحقول، وقدّرت الثروة المتحققة من تشغيل تلك الحقوق بنحو 180 مليار دولار.
كما شاركت مصر في تدريبات عسكرية مؤخرًا في المياه الإقليمية القريبة من تركيا، وهو ما استدعى تحرك القوات البحرية التركية، وإرسال إنذار لمصر من مغبة مثل هذه التدريبات.
وسعي تركيا لعودة علاقات كاملة مع مصر، يساعد على خروجها من محاولة فرض حصار عليها من قبل تحالف إسرائيل- اليونان- قبرص، ويسمح لها بتوسيع استراتيجيتها التي اعتمدتها منذ أكثر من عقد من الزمن بضرورة التوجه شرقًا.
وعلى الصعيد المصري، فإن استمرار مصر في الاعتماد إقليميًا على دول الخليج، قد يعرّضها لمخاطر تفاقم الأزمة الاقتصادية والمالية في الخليج، خلال الفترة القادمة، بسبب التداعيات الاقتصادية والسياسية، وبالتالي فتركيا تتمتع بقوة اقتصادية ذات قاعدة إنتاجية يمكن الاعتماد عليها بشكل أفضل.
كما أن مصر في ظل أزمتها الاقتصادية، تحاول أن تتعدد أوراق اللعب في يدها إقليميًا، فهي تناور كلا من الخليج وإيران بالتقارب التركي، كما تضمن بالمساومة بهذه الورقة أن يستمر دعم الخليج مهما كانت الأزمة الاقتصادية التي تعيشها دوله الحريصة على ألا تكون تركيا قوة إقليمية فاعلة على حساب دول الخليج.
الإيجابيات للدولتين
على الجانب التركي، ليس من السهل أن يتم التفريط في سوق بحجم سكان مصر، والذي وصل إلى 106 ملايين نسمة، ويحظى بنسبة نمو سكاني عالية تبلغ 2.5% سنويًا، وعلى الرغم من أن هناك تواجدًا ملحوظًا لتركيا اقتصاديًا في مصر، ولم يتأثر سلبيًا بشكل كبير بسبب الأزمة السياسية على مدار السنوات الأربع الماضية، إلا أن التحدي يفرض زيادة التواجد التركي في السوق المصري، حتى لا يتعرض للانزواء والتراجع لصالح اقتصاديات أخرى، على رأسها الصين.
ثم مزايا أخرى يتمتع بها السوق المصري، منها توقيع اتفاقيات إقليمية اقتصادية لمصر مع الكوميسا تنطلق إلى السوق الأفريقية، واتفاقية الشراكة المصرية الأوروبية، واتفاقية المنطقة العربية الحرة، وكل هذه الاتفاقيات تجعل من المنتج التركي المصنوع في مصر يتمتع بمزايا قواعد المنشأ التي تسمح له بالاستفادة من الإعفاءات الجمركية الممنوحة بموجب هذه الاتفاقيات. ولذلك دومًا كانت الاستثمارات التركية تركز في مصر على المجال الصناعي، خاصة في قطاع النسيج.
الاتفاقيات التي وقّعت في "مؤتمر نصنع معًا" في تركيا، تقدم مزايا تنافسية لمصر، حيث إن جانبًا كبيرًا من تلك الاستثمارات سيوجه لصالح الصناعات الهندسية المعنية بإنتاج الماكينات وخطوط الإنتاج وقطع الغيار، وهي نقطة ضعف كبيرة لمصر، تكلفها سنويًا مليارات الدولارات، وتمثل واردات حتمية، تستنزف إيرادات الدولة من العملات الصعبة، وإنتاجها في مصر يعفيها من هذه التكلفة.
تغليب المصالح
التحام الاقتصاد والسياسة مسلّمة يخضع لها الجميع، وتفرض نفسها من خلال الواقع، وبلا شك فإن واقع منطقة الشرق الأوسط يموج بالمتغيرات المتسارعة، والتي من الصعب التنبؤ بمستقبلها، في ظل مخططات اللاعبين الدوليين، والذين يستهدفون إضعاف كافة القوى الإقليمية لصالح دولة الكيان الصهيوني.
وتتبدى مصالح كل من مصر وتركيا في عودة العلاقات السياسية والدبلوماسية، وكذلك زيادة حجم العلاقات الاقتصادية، ولكن ما سيحسم مستقبل العلاقات إيجابًا أو سلبًا، هو ميزان كل طرف لمصالحه، هل ستكون في ظل استمرار العلاقات الكاملة والعمل على توطيدها، أم استمرار الوضع الحالي، أم مزيد من القطيعة وتراجع العلاقات.
ومن صالح المنطقة ككل أن تعود مصر دولة إقليمية قوية، لتنضم إلى تركيا وإيران، ولن يتحقق لمصر استعادة قوتها الإقليمية إلا من خلال تمتعها بمزيد من الاستقلالية الاقتصادية، وتخليها عن دور الاعتماد على المنح والمساعدات والقروض، وتبني الطرح التركي بالدخول في شراكات حقيقية في المجال الاقتصادي، فضلًا عن التعاون بين البلدين في مجال التسليح والذي بدأ قبل ثورة 25 يناير، وتتمتع تركيا في هذا المجال بوضع أفضل من ذي قبل.
اقــرأ أيضاً
ولكن في نفس الوقت كانت تركيا تشهد مؤتمرًا اقتصاديًا امتد لخمسة أيام (26 نوفمبر إلى 1 ديسمبر الجاري) تحت عنوان "نصنع معًا" ضم رجال أعمال مصريين وأتراكا، والملاحظ حضور جميع رجال الأعمال الممثلين للجانب المصري، حيث حضر من القاهرة ممثلون عن جمعية رجال الأعمال المصريين، واتحاد الصناعات المصرية، والاتحاد العام للغرف التجارية المصرية.
وانتهت أعمال المؤتمر بالإعلان عن توقيع شراكات بين الجانبين بحوالي 51 مليون دولار كاستثمارات من الجانب التركي ستتوجه إلى مصر، وذلك في مجالات الصناعات الهندسية والغذائية وقطع غير السيارات.
كما أعلن عن استهداف زيادة قيمة التبادل التجاري بنحو 30% عام 2018. إضافة إلى الإعلان عن عودة السياحة التركية لمصر، خلال الأيام القليلة الماضية، عبر أول فوج يضم نحو 50 سائحا تركيا، بعد انقطاع الرحلات السياحية التركية لمصر لنحو 4 سنوات.
والجدير بالذكر أن التبادل التجاري بين البلدين بلغ ما يزيد عن 5 مليارات دولار عام 2012، وتراجع إلى 4.1 مليارات دولار في 2016، وخلال الفترة من يناير - أغسطس 2017 بلغ نحو 2.7 مليار دولار.
ويعود تراجع التبادل التجاري بين البلدين، خلال الفترة من 2012 - 2016، إلى أسباب تتعلق في معظمها بالوضع الاقتصادي لمصر، سواء بسبب عدم توفير العملات الأجنبية، أو بتلك الإجراءات التي اتخذتها مصر للحد من الواردات، وتحجيم العجز التجاري، وهي إجراءات لم يكن مقصودا بها تركيا على وجه الخصوص، ولكنها طبقت تجاه إجمالي الواردات المصرية.
ووصل عدد الشركات التركية في مصر إلى نحو 305 شركات، تضم 75 ألف عامل، وباستثمارات تقدر بنحو ملياري دولار. وطبيعة الاستثمارات التركية في مصر وضمها لهذا العدد من العمال، حدّ من إمكانية مصر في اتخاذ قرار بطرد المستثمرين الأتراك عقب تأزم العلاقات السياسية بين البلدين.
وقد تكون الخطوات على الصعيد الاقتصاد تمهيدا لعودة العلاقات السياسية والدبلوماسية، التي تعاني مشكلات كبيرة، ولكن الخطوات التمهيدية عبر الاقتصاد لم تكن وليدة مجرد رغبة لعودة العلاقات السياسية، ولكن هناك دوافع أخرى إقليمية، جعلت تركيا تعيد حساباتها لعودة العلاقات مع مصر.
وإجمالًا، فإن تجسير العلاقات السياسية عبر بوابة الاقتصاد لن يكون لأسباب سياسية فقط، فهناك أيضًا مزايا اقتصادية تستفيد منها الدولتان، وفيما يلي نتناول أسباب عودة العلاقات عبر الجسور الاقتصادية، وكذلك الإيجابيات المنتظرة لصالح الدولتين.
أسباب عودة العلاقات
شهدت منطقة الشرق الأوسط تطورات متسارعة منذ تراجع ثورات الربيع العربي في عام 2013، مما أدى إلى إعادة الحسابات، فالواقع السياسي المأزوم في مصر دفع إدارة الانقلاب العسكري إلى التوجه للدول التي لها حسابات سياسية ضد تركيا، مثل قبرص واليونان ودولة الكيان الصهيوني، ما أثمر عن توقيع اتفاقيات إعادة ترسيم الحدود لصالح تلك الدول، نكاية في تركيا.
وسمحت تلك الاتفاقيات باستثمار كل من قبرص واليونان ودولة الكيان الصهيوني في حقول الغاز الطبيعي، ومباشرة الإنتاج الفعلي في تلك الحقول، وقدّرت الثروة المتحققة من تشغيل تلك الحقوق بنحو 180 مليار دولار.
كما شاركت مصر في تدريبات عسكرية مؤخرًا في المياه الإقليمية القريبة من تركيا، وهو ما استدعى تحرك القوات البحرية التركية، وإرسال إنذار لمصر من مغبة مثل هذه التدريبات.
وسعي تركيا لعودة علاقات كاملة مع مصر، يساعد على خروجها من محاولة فرض حصار عليها من قبل تحالف إسرائيل- اليونان- قبرص، ويسمح لها بتوسيع استراتيجيتها التي اعتمدتها منذ أكثر من عقد من الزمن بضرورة التوجه شرقًا.
وعلى الصعيد المصري، فإن استمرار مصر في الاعتماد إقليميًا على دول الخليج، قد يعرّضها لمخاطر تفاقم الأزمة الاقتصادية والمالية في الخليج، خلال الفترة القادمة، بسبب التداعيات الاقتصادية والسياسية، وبالتالي فتركيا تتمتع بقوة اقتصادية ذات قاعدة إنتاجية يمكن الاعتماد عليها بشكل أفضل.
كما أن مصر في ظل أزمتها الاقتصادية، تحاول أن تتعدد أوراق اللعب في يدها إقليميًا، فهي تناور كلا من الخليج وإيران بالتقارب التركي، كما تضمن بالمساومة بهذه الورقة أن يستمر دعم الخليج مهما كانت الأزمة الاقتصادية التي تعيشها دوله الحريصة على ألا تكون تركيا قوة إقليمية فاعلة على حساب دول الخليج.
الإيجابيات للدولتين
على الجانب التركي، ليس من السهل أن يتم التفريط في سوق بحجم سكان مصر، والذي وصل إلى 106 ملايين نسمة، ويحظى بنسبة نمو سكاني عالية تبلغ 2.5% سنويًا، وعلى الرغم من أن هناك تواجدًا ملحوظًا لتركيا اقتصاديًا في مصر، ولم يتأثر سلبيًا بشكل كبير بسبب الأزمة السياسية على مدار السنوات الأربع الماضية، إلا أن التحدي يفرض زيادة التواجد التركي في السوق المصري، حتى لا يتعرض للانزواء والتراجع لصالح اقتصاديات أخرى، على رأسها الصين.
ثم مزايا أخرى يتمتع بها السوق المصري، منها توقيع اتفاقيات إقليمية اقتصادية لمصر مع الكوميسا تنطلق إلى السوق الأفريقية، واتفاقية الشراكة المصرية الأوروبية، واتفاقية المنطقة العربية الحرة، وكل هذه الاتفاقيات تجعل من المنتج التركي المصنوع في مصر يتمتع بمزايا قواعد المنشأ التي تسمح له بالاستفادة من الإعفاءات الجمركية الممنوحة بموجب هذه الاتفاقيات. ولذلك دومًا كانت الاستثمارات التركية تركز في مصر على المجال الصناعي، خاصة في قطاع النسيج.
الاتفاقيات التي وقّعت في "مؤتمر نصنع معًا" في تركيا، تقدم مزايا تنافسية لمصر، حيث إن جانبًا كبيرًا من تلك الاستثمارات سيوجه لصالح الصناعات الهندسية المعنية بإنتاج الماكينات وخطوط الإنتاج وقطع الغيار، وهي نقطة ضعف كبيرة لمصر، تكلفها سنويًا مليارات الدولارات، وتمثل واردات حتمية، تستنزف إيرادات الدولة من العملات الصعبة، وإنتاجها في مصر يعفيها من هذه التكلفة.
تغليب المصالح
التحام الاقتصاد والسياسة مسلّمة يخضع لها الجميع، وتفرض نفسها من خلال الواقع، وبلا شك فإن واقع منطقة الشرق الأوسط يموج بالمتغيرات المتسارعة، والتي من الصعب التنبؤ بمستقبلها، في ظل مخططات اللاعبين الدوليين، والذين يستهدفون إضعاف كافة القوى الإقليمية لصالح دولة الكيان الصهيوني.
وتتبدى مصالح كل من مصر وتركيا في عودة العلاقات السياسية والدبلوماسية، وكذلك زيادة حجم العلاقات الاقتصادية، ولكن ما سيحسم مستقبل العلاقات إيجابًا أو سلبًا، هو ميزان كل طرف لمصالحه، هل ستكون في ظل استمرار العلاقات الكاملة والعمل على توطيدها، أم استمرار الوضع الحالي، أم مزيد من القطيعة وتراجع العلاقات.
ومن صالح المنطقة ككل أن تعود مصر دولة إقليمية قوية، لتنضم إلى تركيا وإيران، ولن يتحقق لمصر استعادة قوتها الإقليمية إلا من خلال تمتعها بمزيد من الاستقلالية الاقتصادية، وتخليها عن دور الاعتماد على المنح والمساعدات والقروض، وتبني الطرح التركي بالدخول في شراكات حقيقية في المجال الاقتصادي، فضلًا عن التعاون بين البلدين في مجال التسليح والذي بدأ قبل ثورة 25 يناير، وتتمتع تركيا في هذا المجال بوضع أفضل من ذي قبل.