بينما تزداد عصابات المافيا ثراء تغرق المكسيك في الديون ويغرق الشعب في الفقر، إذ إن البلاد لم تعد تواجه فقط تداعيات جائحة كورونا على الاقتصاد، ولكنها تواجه أيضاً سرقة أهم ثرواتها الهيدروكربونية من قبل عصابات منظمة تملك السلاح وتسخر جيشاً ضخماً لخدمة أهدافها الإجرامية.
ووسط التحديات العديدة التي تواجهها البلاد، من المقدر أن ينكمش الاقتصاد المكسيكي بنحو 8.8% خلال العام الجاري، وفقاً لتقديرات البنك المركزي المكسيكي، التي لا تبتعد كثيراً عن تقديرات مستقلة قدرت له أن ينكمش بنحو 8.5% خلال العام الجاري.
ويقدر حجم الاقتصاد المكسيكي بنحو 1.075 ترليون دولار، ومن المتوقع أن ينمو بنحو 3.3% في العام المقبل في حال تمت السيطرة على جائحة كورونا والسيطرة على السرقات النفطية وزيادة الانتاج. و
في السنوات الأخيرة أصبحت المافيا المكسيكية أكبر معوقات النمو الاقتصادي في البلاد، إذ إنها باتت تجمع بين الثروة التي تجنيها من المخدرات وغسل الأموال والأموال التي تحصل عليها من مبيعات الغازولين ومشتقات الخامات النفطية المسروقة من شركة النفط المكسيكية "بيميكس".
وحسب تقارير مكسيكية رسمية، تلجأ العصابات المنظمة لسرقة النفط من خطوط الأنابيب، وكذلك من القطارات التي تحمل شحنات الخام والمشتقات النفطية التي توزعها الشركة النفطية على محطات وقودها التي تغطي 30% من محطات الوقود في البلاد.
وأصبحت تجارة النفط المكسيكي والغازولين تجارة رائجة في المدن والمناطق الحدودية للبلاد مع الدول المجاورة.
ويشير تقرير حول هذا الشأن نشرته صحيفة "ريفورما" المكسيكية اليومية، أمس الاثنين، إلى أن عربات القطارات الحاملة للخامات والوقود التي تتعرض للسرقة ارتفعت من عربتين كل أسبوع في العام الماضي إلى ثلاث عربات يومياً خلال النصف الأول من العام الجاري.
من جانبها، تقدر نشرة "كونفرسيشن" الأكاديمية الأميركية الأموال التي جنتها المافيا من هذه السرقات بنحو 7.5 مليارات دولار خلال السنوات الثلاث الأخيرة. وهذا الحجم من النفط المسروق يؤهل هذه المافيا لتصبح عضواً بمنظمة "أوبك"، إذ إنه يفوق إنتاج عدد من أعضاء المنظمة البترولية.
ولا توجد بيانات رسمية حول حجم الخامات المسروقة وقيمتها المالية خلال النصف الأول من العام الجاري بسبب الصعوبات التي تفرضها جائحة كورونا، ولكنها قد تصل إلى أكثر من مليار دولار قياساً بحجمها في العام الماضي البالغ نحو 2.5 مليار دولار. ويقدر حجم إنتاج المكسيك من النفط بنحو 1.68 مليون برميل يومياً في نهاية العام الماضي، 2019.
وتواجه شركة النفط المكسيكية التي تدير إنتاج وتسويق النفط ومشتقاته في البلاد التي تعرف اختصاراً بـ"بيميكس"، تحديات عديدة، من بينها انهيار أسعار النفط وتراجع المداخيل وارتفاع الخسائر والديون والمصاريف المتزايدة لحماية خطوط الأنابيب والقطارات.
وتواجه شركة "بيميكس" منذ سنوات ما يشبه الحرب الأهلية مع مافيا "سانتا روزا دي ليما"، التي يتزعمها خوسيه أنطونيو ييبس، الملقب بـ"المارو"، ومجموعة من العصابات الأخرى الصغيرة التي تستهدف الصناعة النفطية.
ويعد "المارو"، الذي يتزعم كارتيل أو مافيا "سانتا روزا دي ليما"، من أخطر رؤساء العصابات في المكسيك المتخصصة في نهب ثروات النفط، إذ بلغت سطوته حد تهديده بقتل رئيس المكسيك الحالي أندريس مانويل لوبيز أوبرادور.
وكانت السلطات المكسيكية قد أعلنت في الثاني من أغسطس/ آب الجاري، عن اعتقال خوسيه أنطونيو ييبس، ولكن التقارير تشير إلى أن أفراد عصابته لم يتوقف نشاطهم، إذ يواصلون مهاجمة القطارات الحاملة للشحنات النفطية من آبار الإنتاج إلى موانئ التصدير ومحطات الوقود المنتشرة في أنحاء البلاد.
وفي المقابل، تواصل حكومة الرئيس أوبرادور ومنذ انتخابها تشديد الحراسة على الصناعة النفطية التي تعد من المصادر الرئيسية للدخل الحكومي ودعم العملة الوطنية، البيسو، أمام الدولار.
ويأتي هذا التشديد ضمن خطة متكاملة لزيادة الإنتاج النفطي في البلاد ودعم ميزانية شركة النفط الوطنية "بيميكس"، ولكن العصابات المنظمة تعرقل خطط الحكومة عبر تغيير استراتيجياتها لتشمل القطارات التي تستخدمها شركة النفط إضافة إلى خطوط الأنابيب.
وسعى الرئيس المكسيكي الجديد أندريس مانويل لوبيز أوبرادور، خلال العام الجاري، لدعم شركة النفط الوطنية "بيميكس"، عبر منحها إعفاءات ضريبية ضخمة حتى تتمكن من تلبية طلب زيادة إنتاج النفط وتغطية الخسائر وخدمة ديونها. ويستهدف أوبرادور زيادة إنتاج النفط في البلاد إلى 2.5 مليون برميل يومياً بنهاية فترته الرئاسية عن معدل الإنتاج البالغ 1.68 مليون برميل يومياً في نهاية العام الماضي.
وكانت شركة بيميكس تخطط لزيادة الإنتاج بنحو 300 ألف برميل يومياً ليصل إلى 1.8 مليون برميل يومياً بنهاية العام الجاري وإلى 2.2 مليون برميل يومياً بحلول العام 2024.
لكن شركة بيميكس تواجه أعباء مالية ضخمة، إذ تقدر ديونها بنحو 105 مليارات دولار. وحسب بيانات أعمال بيميكس في مايو/ أيار الماضي، خسرت الشركة 23.6 مليار دولار في الربع الأول من العام الجاري، وهذه أكبر خسائر تشهدها الشركة الحكومية في تاريخها النفطي.
وتخطط شركة "بيميكس" لزيادة مداخيلها النفطية عبر عمليات التحوط في صفقات النفط المستقبلية. وكانت الشركة قد اشترت عقود تحوط نفطية في السوق الآجل بقيمة مليار دولار قبل انهيار أسعار النفط، كما تسعى الحكومة المكسيكية لزيادة حجم النفط المكرر في البلاد بنحو 400 ألف برميل يومياً، وذلك عبر إنشاء مصفاة نفط ضخمة بسعة تكرير 400 ألف برميل من منتجات الغازولين يومياً.
وتصدر المكسيك الخامات النفطية للولايات المتحدة، وتقوم الشركات الأميركية بتكرير النفط المكسيكي وبيعه بسعر أعلى لشركة النفط المكسيكية.
وسجّل الاقتصاد المكسيكي انكماشاً حاداً في الربع الثاني من العام الحالي بسبب جائحة كورونا. وحسب مكتب الإحصاء في مدينة مكسيكو سيتي، انكمش إجمالي الناتج المحلي للبلاد بنسبة 18.9% في الربع الثاني مقارنة بالفترة نفسها من العام الماضي.
وكانت الكثير من القطاعات في البلاد قد علقت أعمالها اعتباراً من إبريل/ نيسان الماضي من أجل وقف انتشار فيروس كورونا، وقد تسببت الجائحة في فقدان نحو مليون شخص لوظائفهم. وعمل البنك المركزي المكسيكي على تيسير السياسة النقدية لإنقاذ الشركات من الإفلاس عبر خفض سعر الفائدة، إذ خفض الفائدة، يوم الخميس الماضي، بنسبة 0.5%، من 5.0% إلى 4.5%.
ومن المتوقع أن يساهم ذلك في تراجع سعر صرف البيزو الذي يواصل التداول بالقرب من 22.3 مقابل الدولار. واستفاد سعر صرف البيزو، الذي تراجع بشدة خلال أشهر الإغلاق، من بيانات ارتفاع الإنتاج الصناعي بنسبة 17.9% في يوليو/ تموز، وذلك في أول إشارة إلى الانتعاش الاقتصادي بالبلاد بعد الإغلاق بسبب جائحة فيروس كورونا.
وتسعى الحكومة المكسيكية الجديدة إلى تغيير استراتيجيات الاقتصاد ضمن خطة الإصلاح الاقتصادي التي تسعى إلى استضافة المزيد من الصناعات لتعويض الخسائر في السوق الأميركي.
وكانت الحكومة المكسيكية تعول على زيادة التبادل التجاري مع الصين واستضافة العديد من الشركات الصينية، ولكن يبدو أن الحرب التجارية بين بكين وواشنطن ستحاصر خطط الإصلاح الاقتصادي التي تنوي الحكومة تنفيذها خلال السنوات المقبلة، كما أن عمليات سرقة النفط تضغط كذلك على مداخيل العملات الصعبة التي تحتاجها البلاد لدعم العملة الوطنية وتمويل الإنفاق المتزايد في البلاد بسبب جائحة كورونا.