الاغتيال كأحد أدوات المشروع الصهيوني

30 نوفمبر 2019
اعتبر غسان كنفاني بمثابة لواء فكري مسلح(باول بيبر/Getty)
+ الخط -
عندما كانت أنظار المؤسسين الأوائل للمشروع الصهيوني نهاية القرن التاسع عشر تتجه نحو فلسطين أو ما اعتبروه "الوطن القومي للشعب اليهودي"، كانوا على دراية كاملة بأن أرض فلسطين ليست عذراء ولا هي صحراء مقفرة، ولا جغرافية خالية من السكان تنتظر من يبعث فيها الحياة، بل كانت عامرة بأهلها وبشعبها الفلسطيني وبأجدادهم الذين قطنوها منذ آلاف السنين، فكانت فكرة التطهير، أو إفراغ الأرض من قاطنيها؛ إما بالإبادة أو التهجير، وهي فكرة ليست بالغريبة في الأدبيات الصهيونية التي تعتمد على اجتهادات وفتاوى وأقاويل لقائمة طويلة من حاخامات اليهود الشرقيين والغربيين تنهل من محتوى توراتي محرف متخم بالكراهية والعنصرية والنظرة الدونية للآخرين، والإبادة والتهجير لا تتم إلا بالبطش الصريح الذي يستوجب كل أدوات القتل والتنكيل والترهيب، ومن ذلك الاغتيالات، وهو نوع من القتل المخطط المنظم لجماعة أو شخصية بعينها لأهداف سياسية أو أمنية أو اقتصادية أو انتقامية أو فكرية، لا يخرج هدفها النهائي عن دائرة الإنهاء والشطب.

نظرة تاريخية فاحصة على الامتداد الزمني للمشروع الصهيوني الحديث منذ تشكل نواته الاستيطانية الأولى في الربع الأخير من القرن التاسع عشر حتى الآن تشي بأن الاغتيال مركب أساسي في الفكر الصهيوني وأحد أدواته المركزية، ليس خلال مرحلة التأسيس فقط، بل رافق كل محطات الكيان الإسرائيلي مداً وجزراً بما ينسجم مع حالة المقاومة وتطور مخاطر البيئة الاستراتيجية المحيطة بالكيان، وهي وإن اختلفت في الطريقة والشكل والبُعد المكاني، إلا أنها كانت بمضمون وهدف أساسي لا خلاف عليه، ورغم أن مواجهة المقاومة والسلسلة القيادية المشاركة حتى الميدان كانت الساحة الرئيسية والمباشرة لعمليات الاغتيال، إلا أن معركة الوعي والفكر ومنظومة صناعة القرار ببعده السياسي والاستراتيجي للجهات "المعادية" حسب المنظور الصهيوني، سواء داخلياً في الأراضي المحتلة أو على المستوى الإقليمي والدولي، كانت حاضره وبقوة في ميدان الاغتيالات الواسع.

بدايةً لا بد من الإشارة إلى أن الاغتيال هو أحد التجليات لعقيدة الإفناء والإبادة والقتل التي تشكل جوهر الفكرة الصهيونية الحديثة، القائمة على أرضية راسخة من مواريث قديمة لها امتداداتها التاريخية في تعاليم التوراة وتوجيهات التلمود المحرفة، وتشريعات وفتاوى لحاخامات لا تمت لروح الديانات بصلة، فلغة القتل والإبادة والحرق مصاحبة لكل ما ورد في أسفار التوراة عند الحديث عن "الأغيار" أو القتال والحروب، واحتلال لمناطق يسكنها من غير اليهود، فعلى سبيل المثال جاء في سفر الإصحاح 13 "أما مدن أولئك الأمم التي يعطيها لك الرب إلهك ميراثاً فلا تستبق منهم نسمة"، وتستند منظومة الاغتيال إلى قاعدة قيمية تعتمد على "المبادرة والمبادأة" مستمدة من قاعدة تلمودية مفادها "إذا جاءك شخص ما ليقتلك، انهض واقتله أولاً".

ويقول الحاخام الشرقي عفوديا يوسف الزعيم الروحي لحركة شاس قبل وفاته أكثر من ذلك بإشارته "فليبد الله العرب، وليقض على نسلهم وليخفهم عن وجه البسيطة، ومن المحظور الترحم عليهم، ويجب قصفهم بالصواريخ، وإبادة هؤلاء المجرمين الملاعين".

أولاً: الاغتيال السياسي خدمةً للمشروع الصهيوني في بداياته

لم تضع المليشيات الصهيونية كالهغانا وشتيرن وليحي، أي محددات أو خطوط حمر لتأمين قيام دولة الكيان، وأبرزها تفريغ الأرض من سكانها الفلسطينيين، وتأمين هجرة اليهود من بقاع الأرض وتهيئة البيئة الدولية لذلك، والضغط على سلطات الانتداب البريطاني في فلسطين، عندما تحيد ولو بالقدر اليسير عن مضمون وعد بلفور، ومن أشهر الاغتيالات السياسية في تلك المرحلة اغتيال عصابة شتيرن بقيادة اسحق شامير الوسيط الدولي ورئيس الصليب الأحمر السويدي الكونت فولك برنادوت في أيلول/سبتمبر 1948 بعد تكليفه من الأمم المتحدة بإيجاد تسوية على أساس قرار التقسيم لعام 1947، وتقديمه توصيات ومقترحات خاصة بالهجرة اليهودية، وتعديل لحدود التقسيم ليكون النقب من نصيب الدولة العربية والتي لم تكن تنسجم مع رؤية ومخططات العصابات الصهيونية، واغتيال عصابة شتيرن الوزير البريطاني اللورد موين في تشرين ثاني/نوفمبر 1944 في القاهرة لمواقفة السلبية من مسألة الهجرة اليهودية، ولممارسة ضغوط على صديقه رئيس الوزراء البريطاني ونستون تشرشل في ما يخص السياسات البريطانية الانتدابية في فلسطين، وقبل ذلك اغتيال عصابة الأرغون لرئيس الدائرة السياسية في الوكالة اليهودية حاييم أرلوزوروف على شاطئ تل أبيب في حزيران/يونيو 1933، واغتيال الهاغانا للشاعر اليهودي الهولندي يعقوب ديهان في حزيران/يونيو 1924 في القدس بعد اتهامه بالخيانة على خلفية موقفه الرافض لوعد بلفور، وما يسمى "الحق القومي لليهود في فلسطين".

ثانياً: اغتيال قادة المقاومة لتأمين وديمومة المشروع الصهيوني

شكل الاغتيال لقادة المقاومة الأداة الأكثر توظيفا بالمقارنة مع الاعتقال أو الإبعاد، والأكثر كثافة في حالات تصعيد المد المقاوم كما في الانتفاضة الأولى والثانية، ولم تكن مواجهة المقاومة بسياسة الاغتيالات مجرد اجتهادات لقيادات أو وحدات استخبارية أو عسكرية محددة زماناً ومكاناً، بل هي سياسة رسمية من أعلى مستويات القيادة السياسية والعسكرية، وهو ما تمثل في قرار ما يسمى بـ"المجلس الوزاري الإسرائيلي المصغر" (الكابينيت) في 3 تموز/يوليو 2001 بالاستمرار في سياسة التصفيات والاغتيالات لكسر شوكة الانتفاضة، بينما أكد المجلس في الأول من آب/أغسطس من نفس العام بأن لا حصانة لأي فلسطيني مقاوم من الاغتيال، وعليه اغتالت وحدات خاصة في الضفة الغربية وغزة (دوفدوفان، شمشون) في الفترة ما بين 1987- 1993 أي فترة الانتفاضة الأولى 195 فلسطينيا، وفي مرحلة انتفاضة الأقصى من عام 2000 حتى 2012 اغتيل 427 فلسطينيا، والاغتيال وإن استهدف الحلقة المركزية في سلسلة العمل المقاومة ممثلة بالعناصر القيادية من الصف الأول، إلا أنها شملت كل سلسلة العمل المقاوم من رأس القيادة حتى المقاوم المباشر في الميدان، وقد اغتالت أدوات القتل الإسرائيلية معظم قادة انتفاضة الأقصى من 2000-2005 ومن جميع الفصائل الفلسطينية، فقد اغتيل في مطلع انتفاضة الأقصى عام 2000 كل من إبراهيم بني عودة وحسن عبيات وثابت ثابت، وأبو علي مصطفى وجمال سليم وجمال منصور وصلاح دروزة عام 2001، ثم صلاح شحادة وإبراهيم المقادمة والرئيس ياسر عرفات وعبد العزيز الرنتيسي والشيخ أحمد ياسين، ورغم كثافة الاغتيال في الانتفاضتين، إلا أن مسلسل الاغتيال ممتد بالتوازي مع الفعل المقاوم، فقد اغتال الموساد الإسرائيلي وديع حداد عام 1978 من الجبهة الشعبية والمسؤول عن عدة عمليات لخطف الطائرات، ومصطفى حافظ عام 1956 الضابط المصري المكلف بترتيب صفوف المقاومة في قطاع غزة.

ويأتي في هذا السياق اغتيال كل قادة المقاومة ممن ساهموا في تطوير سلاح المقاومة، وإحداث نقلة نوعية فيه، كما في اغتيال خبير المتفجرات عدنان يحيى الغول عام 2004، باستهداف جوي من طائرة بدون طيار في غزة، واغتيال المهندس التونسي محمد الزواري في العاصمة تونس عام 2016، أحد أعمدة مشروع تطوير صناعة الطائرات بدون طيار في وحدة التصنيع في كتائب القسام، والتي أطلق عليها اسم أبابيل1، واغتيال العالم والمحاضر الجامعي الفلسطيني فادي البطش في العاصمة الماليزية عام 2018، وهو مهندس كهربائي من جباليا في قطاع غزة وحاصل على الدكتوراه في الهندسة الكهربائية، ومبتكر جهاز تحسين نقل الطاقة الكهربائية، وصاحب براءة اختراع في زيادة كفاءة شبكات الطاقة الكهربائية.

ثالثاً: الاغتيال كأداة انتقام

النظرة العنصرية الاستعلائية المتأصلة في النفسية الصهيونية بمرجعيتها التوراتية المحرفة، التي تقدس اليهود وتشرع كل سلوكياتهم الشاذة، وتحط وتحقر من الآخرين "الأغيار"، أسست لنظرة صهيونية تقدس الذات، وتخلق هالة من الفوقية والاستعلاء، بحيث تستدعي فعلا معاكسا ليس أقله إهدار دماء كل من يستهدفهم لأي سبب كان، وأبرز مثال على ذلك عملية الانتقام الشاملة التي أطلقتها رئيس الوزراء الصهيونية غولدا مائير باسم عملية "غضب الرب" ضد منظمة أيلول الأسود الفلسطينية، على خلفية عملية احتجاز رهائن من الفريق الرياضي الإسرائيلي "أولمبياد ميونخ" عام 1972، فقد أعدت لجنة تابعة لجهاز الموساد قائمة بـ35 من قادة منظمة التحرير ومن المشاركين بشكل مباشر أو غير مباشر في عملية أولمبياد ميونخ، وعلى رأسهم قادة المنظمة خليل الوزير، وصلاح خلف، وعلي حسن سلامة، وشرعت خلايا الموساد في أوروبا بالتحديد بتنفيذ سلسلة عمليات اغتيال في العواصم الأوروبية، ففي نيسان/إبريل 1974 اغتيل أعضاء اللجنة المركزية في حركة فتح محمد يوسف النجار وكمال عدوان، والناطق باسم منظمة التحرير كمال ناصر في عملية استخبارية أطلق عليها إسرائيلياً "عملية فردان"، وباغتيال عضو اللجنة المركزية صلاح خلف في كانون ثاني/يناير 1991 تكون قائمة اغتيالات "غضب الرب" وصلت إلى نهايتها.

رابعاً: الاغتيال لتوفير بيئة محيطة آمنة للمشروع الصهيوني

عملت آلة الاغتيال الإسرائيلية على المستوى الإقليمي والدولي كأداة لضمان التفوق العسكري التقليدي وغير التقليدي للكيان، والحيلولة دون حيازة أي طرف إقليمي على أسلحة نوعية أو استراتيجية تخل بالتوازن القوى العسكري في الإقليم، ومن أبرز الاغتيالات في هذا المضمار؛ اغتيال مهندس المفاعلات النووية المصري يحيى المشد عام 1980 بعد أن عزم على العمل في البرنامج النووي العراقي، واغتيال العالم الكندي جيرالد بول عام 1990 بعد أن شارك في مشروع عراقي طموح لصناعة مدفع عملاق، واغتيال خمسة من الفنيين المصريين بطرود مفخخة عام 1962 في برنامج للصواريخ بمساعدة عدد من خبراء الصواريخ الألمان.

خامساً: الرواية التي يستند إليها المشروع الصهيوني واستهداف المشككين فيها بالاغتيال

هناك رواية شبه ثابتة تشكلت مع تشكل نواة المشروع الصهيوني مع نهاية القرن التاسع عشر وتجسيده عملياً من خلال تأسيس دولة الكيان عام 1948، تتمحور حول الحق الديني والتاريخي في "أرض الآباء والأجداد"، والمظلومية التاريخية في أوربا بشكل عام، وعلى يد ألمانيا النازية في الحرب العالمية الثانية بشكل خاص، وواحة الديمقراطية على النمط الغربي الوحيدة في العالم العربي في بحر من أنظمة الاستبداد والجهل والتخلف، وأن "إسرائيل" الوديعة تواجه تهديدات وجودية و"إرهابا" بأشكال وأنماط مختلفة، قد يكون فلسطينيا أو عربيا أو "إسلاميا راديكاليا"، وأن كل ما يفعله "جيش الدفاع الإسرائيلي" هو دفاع عن النفس.

وقد فطن قادة المشروع الصهيوني إلى خطورة تقديم رواية مناقضة أو مشككة في الرواية الرسمية التي يتم التعبير عنها بصيغ سياسية وأدبية وإعلامية وثقافية وفولكلورية ضمن قوالب تتلاءم مع الخلفية الثقافية والنفسية للقطاع المستهدف، فحضرت أداة الاغتيال التي أدمن الصهاينة استخدامها لإسكات الأصوات المناقضة للرواية الصهيونية وللأبد، فقد اغتيل الأديب والدبلوماسي والسياسي الفلسطيني وممثل منظمة التحرير في إيطاليا وائل زعيتر عام 1972 في العاصمة روما، والذي شارك رئيس الموساد تسفي زامير نفسه في العملية، بعد تأثيره الإيجابي على الرأي العام الإيطالي لصالح القضية الفلسطينية، ونسج علاقات واسعة داخل الدوائر الشعبية والنخبوية الأدبية والثقافية، ونجاحة في تأسيس "لجنة التضامن مع القضية الفلسطينية" بمساعدة نخب من المجتمع الإيطالي.

واغتيال الروائي والكاتب والصحافي الفلسطيني غسان كنفاني، تموز/يوليو 1972، بتفجير سيارته في منطقة الحازمية قرب بيروت، واحتفت رئيسة الوزراء الإسرائيلية حينه، غولدا مائير بعملية الاغتيال، قائلة: "اليوم تخلصنا من لواء فكري مسلح، فغسان بقلمه كان يشكل خطراً على إسرائيل أكثر مما يشكله ألف فدائي مسلح".

ويأتي في هذا السياق اغتيال المثقف والإعلامي محمود الهمشري، الممثل غير الرسمي لمنظمة التحرير الفلسطينية في فرنسا عام 1972، والذي أرسله الشهيد خليل الوزير (أبو جهاد) إلى فرنسا لتنظيم الإطار الطلابي لحركة فتح، فقد نجح على غرار رفيق دربه وائل زعيتر في إقامة علاقات واسعة مع ممثلي الرأي العام الفرنسي واستمالة كثير من النخب لصالح القضية الفلسطينية.
المساهمون