22 فبراير 2016
الاصطفاف نحو الهاوية
يحتاج الأمر إلى متخصص في تحليل الخطاب السياسي، شرط أن يكون طويل البال، شيالاً للحمول، ومستغنياً عن قدرته الإنجابية، ليدرس كيف ومتى بدأ عبد الفتاح السيسي ترديد كلمة "الاصطفاف"، التي منذ أصبح يكررها في خطاباته وحواراته، باتت "سيرة الاصطفاف" مضغة في أفواه كثير من مؤيديه الذين لن تتوقع منهم أن يتذكّروا، وهم في غمار نشوة التأييد، كيف كان تحقيق الاصطفاف الهواية المفضلة لأعتى طغاة الدنيا، لينتهوا دائماً بالصفوف التي أسلمت لهم القيادة إلى هاوية سحيقة، ولكم في هتلر أشهر صانعي الاصطفاف عبرة، فمن يعتبر؟
في 23 مارس/آذار 1933، عقدت الجلسة الافتتاحية للبرلمان الألماني (الرايخستاج) في دار أوبرا كرول بوسط برلين، بعد أن دمر حريق غامض مبنى البرلمان الأصلي، قبل أسابيع، وكما يروي كيفن باسمور، في كتابه المهم عن الفاشية: دخل النواب إلى القاعة، وسط احتشاد شباب العاصفة النازية الذين ارتدوا شارة الصليب المعقوف، ونادوا القلة المعارضة من النواب، بأوصاف مثل خنازير الوسط، أو خنزيرات الماركسية، برغم أنه كان قد سبق اعتقال النواب الشيوعيين لاتهامهم بإحراق مبنى الرايخستاج، وتم احتجاز عدد غير قليل من الاشتراكيين، وألقي القبض على أحدهم لدى دخوله المبنى.
كان البرلمان، يومها، منعقداً لهدف واحد، هو تمرير قانون تمكين يمنح الزعيم الألماني، أدولف هتلر، سلطة إصدار قوانين من دون موافقة البرلمان، حتى إذا كانت تخالف الدستور، لكن إصدار ذلك القانون نفسه كان يتطلب تعديل الدستور، وهو ما لم يكن يمكن أن يتم بدون موافقة أغلبية الثلثين. ولذلك، كان النازيون يحتاجون إلى دعم المحافظين، وهو ما جعل هتلر، في خطابه أمام البرلمان، يتعهد للمحافظين بأن تمرير هذا القانون لن يهدد وجود البرلمان، ولا منصب زعيمهم الرئيس هيندنبورج، لكي يصوتوا لقانون التمكين. وفي البدء، نجح هتلر في السيطرة على نفسه، خلال إلقاء الخطاب بشكل استثنائي، لكنه انفعل فجأةً، داعيا إلى إعدام مدبر حريق الرايخستاج، متوعداً الاشتراكيين بأشد العقوبات، ليهتف النواب النازيون، في نهاية كلمته، بجنون: "ألمانيا فوق الجميع".
يومها امتلك رجل وحيد الجرأة، ليشق حالة الاصطفاف التي قال هتلر إنها "ستقود ألمانيا إلى سماوات المجد"، هو النائب الاشتراكي أوتو فيلز الذي وقف ليرد على هتلر بشجاعة، مستنداً إلى "مبادئ الإنسانية والعدالة والحرية والاشتراكية"، وبرغم أنه، كما يروي السفير الفرنسي الذي حضر الجلسة، كان يتحدث بنبرة أشبه بصياح طفل مضروب، إلا أن الجميع كان مذهولاً من كلمته، خصوصاً أنه ختمها بالإعراب عن أطيب أمنياته لأولئك الذين تحفل بهم السجون ومعسكرات الاعتقال. وكعادة الطغاة، لم يكن هتلر سعيداً بما قاله فيلز، فلم يكن يكفيه أن تصفق له كل ألمانيا، وأن يجتمع الكل على محبته وتأييده. ولذلك، قام ليرد على فيلز بعصبية محمومة، متهماً الاشتراكيين بأنهم عذبوا النازيين طوال 14 عاما من الحكم، مع أن النازيين لم يعاقبوا الاشتراكيين على أنشطتهم غير المشروعة، إلا بأخف العقوبات، وعندما أطلق النواب الاشتراكيون صيحات تكذيب واستهجان، تعالت صرخات النازيين من داخل القاعة وخارجها "سوف تعدمون شنقاً اليوم".
يومها، وافق البرلمان على قانون التمكين لهتلر، بأغلبية 444 صوتا مؤيداً مقابل 94 صوتاً معارضاً من "الذين تجرأوا يومها على شق صف الأمة الألمانية"، ورفضوا قانون التمكين الذي أطاح سيادة القانون، وأرسى الأساس لسلطة قائمة على إرادة الفوهرر وحده، لا شريك له، ليمنحه الحق في "اتخاذ ما يراه مناسبا لتحقيق المصالح العليا للشعب الألماني ضد أي شخص يعتبره عدوا للأمة الموحدة". وبالطبع، كان الاشتراكيون الذين جرأوا على الرفض أول ضحايا هتلر، لكن قائمة الضحايا اتسعت فيما بعد، لتشمل كل مؤيدي هتلر، والمبررين له والصامتين عليه، لتتخلص ألمانيا من كل أعدائها، وتصبح بلداً موحد الصف، من دون أن يدري أهلها أن ذلك الصف الموحد لن يقودها إلا إلى الدمار الشامل.
في زمان هتلر، كانت وسائل الإعلام تدعو إلى الاصطفاف، لمواجهة تحديات الوطن، لكن المعنى الحقيقي لذلك الاصطفاف كان أن يتحول كل مواطن إلى خروف أخرس، يسير خلف قائد القطيع، من دون أن يمتلك حتى بهجة الارتجال في الثغاء والمأمأة، أو يحظى بحق السؤال عن وجهة سير القطيع، فضلاً عن امتلاك حق الاعتراض على طريقة قيادة القطيع، وهو ما يتكرر، الآن، في زمان السيسي، حيث يعني الاصطفاف المطلوب والمفروض بقوة السلاح وسطوة الكذب، أن يتوحد جميع المصريين على تمجيد شخص القائد الملهم الضرورة، وعلى الحفاظ على حق مؤسسات الدولة المترهلة الفاشلة، في أن تمارس المزيد من النهب والسلب والفساد، وعلى عينك يا شعب.
"يا أخي ملعون أبو ده اصطفاف".
في 23 مارس/آذار 1933، عقدت الجلسة الافتتاحية للبرلمان الألماني (الرايخستاج) في دار أوبرا كرول بوسط برلين، بعد أن دمر حريق غامض مبنى البرلمان الأصلي، قبل أسابيع، وكما يروي كيفن باسمور، في كتابه المهم عن الفاشية: دخل النواب إلى القاعة، وسط احتشاد شباب العاصفة النازية الذين ارتدوا شارة الصليب المعقوف، ونادوا القلة المعارضة من النواب، بأوصاف مثل خنازير الوسط، أو خنزيرات الماركسية، برغم أنه كان قد سبق اعتقال النواب الشيوعيين لاتهامهم بإحراق مبنى الرايخستاج، وتم احتجاز عدد غير قليل من الاشتراكيين، وألقي القبض على أحدهم لدى دخوله المبنى.
كان البرلمان، يومها، منعقداً لهدف واحد، هو تمرير قانون تمكين يمنح الزعيم الألماني، أدولف هتلر، سلطة إصدار قوانين من دون موافقة البرلمان، حتى إذا كانت تخالف الدستور، لكن إصدار ذلك القانون نفسه كان يتطلب تعديل الدستور، وهو ما لم يكن يمكن أن يتم بدون موافقة أغلبية الثلثين. ولذلك، كان النازيون يحتاجون إلى دعم المحافظين، وهو ما جعل هتلر، في خطابه أمام البرلمان، يتعهد للمحافظين بأن تمرير هذا القانون لن يهدد وجود البرلمان، ولا منصب زعيمهم الرئيس هيندنبورج، لكي يصوتوا لقانون التمكين. وفي البدء، نجح هتلر في السيطرة على نفسه، خلال إلقاء الخطاب بشكل استثنائي، لكنه انفعل فجأةً، داعيا إلى إعدام مدبر حريق الرايخستاج، متوعداً الاشتراكيين بأشد العقوبات، ليهتف النواب النازيون، في نهاية كلمته، بجنون: "ألمانيا فوق الجميع".
يومها امتلك رجل وحيد الجرأة، ليشق حالة الاصطفاف التي قال هتلر إنها "ستقود ألمانيا إلى سماوات المجد"، هو النائب الاشتراكي أوتو فيلز الذي وقف ليرد على هتلر بشجاعة، مستنداً إلى "مبادئ الإنسانية والعدالة والحرية والاشتراكية"، وبرغم أنه، كما يروي السفير الفرنسي الذي حضر الجلسة، كان يتحدث بنبرة أشبه بصياح طفل مضروب، إلا أن الجميع كان مذهولاً من كلمته، خصوصاً أنه ختمها بالإعراب عن أطيب أمنياته لأولئك الذين تحفل بهم السجون ومعسكرات الاعتقال. وكعادة الطغاة، لم يكن هتلر سعيداً بما قاله فيلز، فلم يكن يكفيه أن تصفق له كل ألمانيا، وأن يجتمع الكل على محبته وتأييده. ولذلك، قام ليرد على فيلز بعصبية محمومة، متهماً الاشتراكيين بأنهم عذبوا النازيين طوال 14 عاما من الحكم، مع أن النازيين لم يعاقبوا الاشتراكيين على أنشطتهم غير المشروعة، إلا بأخف العقوبات، وعندما أطلق النواب الاشتراكيون صيحات تكذيب واستهجان، تعالت صرخات النازيين من داخل القاعة وخارجها "سوف تعدمون شنقاً اليوم".
يومها، وافق البرلمان على قانون التمكين لهتلر، بأغلبية 444 صوتا مؤيداً مقابل 94 صوتاً معارضاً من "الذين تجرأوا يومها على شق صف الأمة الألمانية"، ورفضوا قانون التمكين الذي أطاح سيادة القانون، وأرسى الأساس لسلطة قائمة على إرادة الفوهرر وحده، لا شريك له، ليمنحه الحق في "اتخاذ ما يراه مناسبا لتحقيق المصالح العليا للشعب الألماني ضد أي شخص يعتبره عدوا للأمة الموحدة". وبالطبع، كان الاشتراكيون الذين جرأوا على الرفض أول ضحايا هتلر، لكن قائمة الضحايا اتسعت فيما بعد، لتشمل كل مؤيدي هتلر، والمبررين له والصامتين عليه، لتتخلص ألمانيا من كل أعدائها، وتصبح بلداً موحد الصف، من دون أن يدري أهلها أن ذلك الصف الموحد لن يقودها إلا إلى الدمار الشامل.
في زمان هتلر، كانت وسائل الإعلام تدعو إلى الاصطفاف، لمواجهة تحديات الوطن، لكن المعنى الحقيقي لذلك الاصطفاف كان أن يتحول كل مواطن إلى خروف أخرس، يسير خلف قائد القطيع، من دون أن يمتلك حتى بهجة الارتجال في الثغاء والمأمأة، أو يحظى بحق السؤال عن وجهة سير القطيع، فضلاً عن امتلاك حق الاعتراض على طريقة قيادة القطيع، وهو ما يتكرر، الآن، في زمان السيسي، حيث يعني الاصطفاف المطلوب والمفروض بقوة السلاح وسطوة الكذب، أن يتوحد جميع المصريين على تمجيد شخص القائد الملهم الضرورة، وعلى الحفاظ على حق مؤسسات الدولة المترهلة الفاشلة، في أن تمارس المزيد من النهب والسلب والفساد، وعلى عينك يا شعب.
"يا أخي ملعون أبو ده اصطفاف".