الاحتلال والمسيرات... مواجهة أم احتواء

23 مارس 2019
احتلت مسيرات العودة جزءاً ليس بالقليل من النقاشات الإسرائيلية(الأناضول)
+ الخط -
عندما أعلنت الهيئة الوطنية لمسيرات العودة وكسر الحصار انطلاق المسيرات لم يكن لدى القيادة السياسية والعسكرية الإسرائيلية أي تصور لهذا الشكل الجديد من المقاومة، ولا الكيفية التي سيتم التعامل بها، فقد تفاجأ رئيس حكومة الاحتلال بنيامين نتنياهو وحكومة اليمين الصهيوني من الاندفاعة الشعبية على السلك الفاصل في المنطقة الشرقية لقطاع غزة، في وقت أزاحت فيه القيادة السياسية أجندة أولوية قطاع غزة ولو مرحلياً بالاستناد إلى السياسة العامة المتبعة منذ سنوات ما بعد حرب عام 2014 والتي تمثل رؤية الجيش الإسرائيلي ومفادها إبقاء القطاع تحت الحصار المشدد مع ثغرات من الممكن أن تتسع قليلاً أو تضيق وفق مقتضيات الحالة الإنسانية بحيث لا تصل إلى حد الأزمة الإنسانية مع هجمات عسكرية جوية ضد البنية التحتية للمقاومة، منضبطة ومحدودة وعلى فترات زمنية وفق المقتضيات الأمنية وهو ما يطلق عليه إسرائيليا سياسة "جز العشب"، إلا بتحقيق هدفين؛ الأول تخلي فصائل المقاومة عن سلاحها وتقويض بنيتها العسكرية التحتية، وإعادة الجنود المفقودين في غزة، أو تخلي حركة حماس عن حكمها لقطاع غزة لصالح السلطة الفلسطينية وتمكينها من السيطرة على غزة بالكامل.

لذلك ومع انطلاق مسيرات العودة تبلورت سياسة إسرائيلية تجاهها حافظت على تماسكها حتى الآن مفادها وقف أو تقليص مسيرات العودة بجملة من الآليات مع الحفاظ على حالة الحصار، ومن ناحية أخرى احتواء ردات الفعل المتوقعة من جانب فصائل المقاومة بآلية لا تفسح المجال بتدحرج الأحداث إلى حالة الحرب، في وقت لا تحظى الحرب على قطاع غزة بأولوية على الأجندة الإسرائيلية على الأقل حتى النصف الأول من العام 2019، وعلى هذه الأرضية تجسد التحرك الإسرائيلي في ثلاث مستويات؛ الميداني، والسياسي، والإعلامي.

المستوى الميداني
نشر الجيش الإسرائيلي وحدات القناصة على طول السياج الشرقي معززة بقوات أخرى مساندة، بهدف منع الجماهير من اقتحام السياج أو حتى تسلل أفراد، وفي بعض الأحيان استهداف من يقترب من السلك الشائك، ولكن من جهة أخرى كان من الواضح أن الجيش الإسرائيلي تجاوز هذا الهدف باستخدام "القوة المميتة" ضد المتظاهرين السلميين على بعد مئات الأمتار لإرهاب وتقليص عدد المتظاهرين، وهو ما أدى مع نهاية عام 2018 إلى استشهاد أكثر من 220 واصابة اكثر من 23 ألفا، وقد عمدت وحدات القناصة إلى استخدام ذخيرة محرمة دولية تسببت في تضخيم حجم المعاناة في محاولة لإيقاع أكبر عدد من الضحايا مع إخفاء الجريمة عن العالم، وهو ما تمثل في الرصاص المتفجر الذي يفتك بالأعضاء المصابة ويؤدي إلى بتر الأطراف ويخلف إعاقات مستدامة.

وفي حال إطلاق فصائل المقاومة رشقات صاروخية رداً كان رد الفعل الإسرائيلي يقتصر على ضربات جوية محدودة في جولات تصعيد لعدة ساعات تنتهي بتدخل الوساطة المصرية، وهكذا شهد القطاع ست جولات تصعيد خلال العام 2018، لو حدثت في سنوات ماضية لربما تطورت إلى معركة شاملة، لكن اعتبارات داخلية وإقليمية ودولية خاصة بإسرائيل كانت حاضرة لتمنع الوصول إلى حالة الحرب.

المستوى الإعلامي
تتحول في العادة الأدوات الإعلامية الإسرائيلية إلى جبهة قتال عندما يتعلق الأمر بالفلسطينيين، لذلك كان الخطاب الإعلامي خلال مسيرات العودة يسير في ثلاثة اتجاهات، الأول يخاطب الشعب الفلسطيني ويتمحور حول التشكيك في هدف المسيرات والايحاء بحزبيتها لصالح حركة حماس، والإشارة إلى إيران وتطلعها لتفجير الأوضاع في القطاع مع إسرائيل لصالح أجندتها، والتصريح بتراجع أعداد المتظاهرين مع كل يوم جمعة، والثاني داخلي إسرائيل يوحي بان الجيش يخوض معركة مع "الإرهاب الفلسطيني"، والثالث على الصعيد الدولي وهو الأهم بالنسبة لإسرائيل تعمدت فيه الرواية الإسرائيلية تصدير صورة لمعركة مع "إرهابيين" مسلحين يرتدون ملابس مدنية وليس جماهير سلمية، وأن الصراع يدور على الحدود مع طرف يريد انتهاك دولة ذات سيادة.

المستوى السياسي
تمثل التحرك السياسي في الاتصالات مع الأمم المتحدة ومبعوثها للسلام في الشرق الأوسط نيكولا ميلادنوف، ومع المصريين والسفير القطري محمد العمادي وأطراف دولية أخرى لتهدئة أوضاع غزة والتنسيق مع حركة حماس وفصائل المقاومة للتخفيف من وطأة الحصار بفتح المعبر جزئياً، وإدخال الأموال القطرية للموظفين والشرائح الأشد فقراً مع بعض المشاريع ذات الطابع الإنساني، والبحث في جهود لتهدئة طويلة الأمد، غير أن كل التحركات الإسرائيلية كانت تهدف إلى الحفاظ على الوضع القائم وإبقاء الحصار دون تفجر الأوضاع تجاه إسرائيل، أي معالجة ما ترتب على مسيرات العودة والتركيز على النواحي الإنسانية.

وكان من الواضح انتقال مسألة مسيرات العودة وطريقة التعاطي معها إلى الداخل الإسرائيلي، حيث أثارت نقاشا داخل المجتمع الإسرائيلي ووسائل الإعلام ومراكز الأبحاث والمؤسسات والشخصيات الأكاديمية، وتحولت إلى شأن داخلي يغرق الحكومة في سجالات ومناقشات لا تنتهي، ويوفر مادة دسمة يتم تداولها على الساحة الحزبية في المناظرات والمزايدات خاصة بين اليمين المتطرف الذي يمثله رئيس الوزراء الإسرائيلي نتنياهو وأقطاب حزب الليكود، واليمين الديني والعلماني الاستيطاني الأشد تطرفاً ويمثله حزب البيت اليهودي بقيادة نفتالي بينيت سابقاً وهو شريك في حكومة نتنياهو، وحزب إسرائيل بيتنا بقيادة افيغدور ليبرمان، وبين نتنياهو ومعسكر اليمين بشكل عام، وبين اليسار والوسط الذي يمثله حزب العمل والوسط قبل تشكيله قائمة أبيض أزرق مع ثلاثة جنرالات سابقين لخوض الانتخابات البرلمانية في شهر إبريل/ نيسان المقبل.

وعلى خلفية التعاطي مع مسيرات العودة وجولات التصعيد المتكررة اجتمع ما يسمى بـ"المجلس الوزاري المصغر للشؤون الأمنية والسياسة" (الكابينيت) بقيادة نتنياهو وحضور قادة الأجهزة الأمنية حوالي 17 مرة خلال عام مسيرات العودة وكانت المسألة الجوهرية تتعلق بطبيعة الردود على تصعيد فصائل المقاومة الذي أعقب في الغالب سقوط عدد من الشهداء خلال فعاليات مسيرات العودة، وقد شهدت الاجتماعات نقاشات حادة وتبادل الاتهامات حول المسألة الأساسية تجاه أولوية التصعيد والخروج إلى الحرب مع غزة لإنهاء خطر ما يسمونه "الإرهاب القادم من غزة" وإعادة عنصر الردع المفقود مع غزة والذي يشكل أحد ثلاثة أركان لنظرية الأمن القومي الإسرائيلي، أو تبريد ساحة غزة وتصعيد أولوية الملف الإيراني، وحزب الله، وتعزيز إيران لتواجدها في سورية.

إعتاد نتنياهو الإعلامي المتمرس وفريقه المقرب في حزب الليكود الحاكم الإيحاء بتحمل وزير الأمن إفيغدور ليبرمان كل الفشل المقبل من غزة كونه المسؤول عن سياسات الدفاع وتوجهات الجيش في التعاطي مع مسيرات العودة، ولكن عملياً لم يكن لليبرمان أي وزن في المجلس الوزاري المصغر، بل إن مقترحاته العنترية للتعامل مع غزة كانت تواجه باستهزاء من رئيس الأركان وقادة الموساد والشاباك، ونجح نتنياهو نسبيا في ذلك مما أفضى إلى تآكل شعبية حزب ليبرمان إسرائيل بيتنا، حتى أن الحزب بات مهدداً بعدم تجاوز نسبة الحسم في أي انتخابات تشريعية قادمة، ولإنقاذ ليبرمان شعبيته قدم استقالته من الحكومة في نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي وغلف استقالته بعجز الحكومة في التعاطي مع غزة وتفضيل سياسة ناعمة، وجاء في تعقيبه على وقف لإطلاق النار سبق استقالته بأن "وقف إطلاق النار والتهدئة هو خضوع واستسلام"، أضعفت الاستقالة تماسك حكومة اليمين وشعر نتنياهو بأن حكومته أمام أشهر فقط في ظل ابتزاز أحزاب اليمين الأخرى خاصة نفتالي بينيت الوزير في حكومة نتنياهو، وهو ما شجع نتنياهو على تبكير موعد الانتخابات بالاتفاق مع أحزاب الائتلاف الحاكم مع تصاعد ضغوط أخرى غير موضوع غزة ممثلةً في تقديم لوائح اتهام ضد نتنياهو في ثلاث قضايا فساد قد تهدد مستقبله السياسي.
المساهمون