اعتادت طائفة المثقفين الرسميين أن يقوموا من حينٍ لآخر باستدعاء اسم أحد المفكرين الراحلين، واستنقاذه من سياقه التاريخي، ثم اختصار جهده الفكري في التمرّد على فكرةٍ أصولية ما. وهذا وحده يمثل صكّاً تنويرياً وعلامة على الصلاحية الأبدية مهما تغيّر الزمن وتبدّلت المُلابسات. حيث يبدأ الطواف في حضرة هذه اللقطة المجتزأة باسم التنوير.
والآن جاء الدور على اسم الشيخ علي عبد الرازق (1888-1966) صاحب كتاب "الإسلام وأصول الحكم- بحث في الخلافة والحكومة في الإسلام" الذي نشره سنة 1925، وقدّم فيه رأياً صادماً لكثيرين آنذاك بشأن موضوع "الخلافة".
فرجال المؤسسة الدينية اعتادوا طوال قرون تقديمَ الولاء إلى السلطان الحاكم "الخليفة" أياً كانت ملابسات تولي الحكم، أو مسار إدارة الدولة، أو مدى قرب الخليفة ونظامه من معيار العدل الذي أمر به الإسلام. ولم يتأخر العلماء المجتهدون عن شرعنة ذلك الواقع الموروث والترويج له.
يذهب الكتاب إلى أنّ الخلافة ليست أصلا من أصول الحكم في الإسلام، فهو نموذج تاريخي اقتضته الظروف بعد رحيل الرسول الذي فتح الباب للمؤمنين في إدارة شؤون حياتهم، فلم يحدد الإسلام لأتباعه نموذجاً صارماً للحكم ولا وسيلةً محددة لتولية الحاكم. ولكن اقتصر الإسلام على بث قيم العدالة العامة وأوجب الالتزام بها من أجل صلاح الحياة الدنيا للبشر.
غير أنّ قنبلة "الإسلام وأصول الحكم" كانت في أحد وجهيها تستهدف السلطة السياسية الطامحة لتولي أمر الخلافة بعد سقوط السلطنة العثمانية رسمياً سنة 1923. وفقاً لفرضية أن الاستبداد السياسي كان سمة أساسية للخلافة في معظم عصورها، وأن هذا الاستبداد لا بد أن يكون مخالفاً للدين وليس فرعاً منه!
وكان عبد الرازق يرى أن الاستبداد السياسي هو الذي صنع مقام الخليفة. ومن ثمّ تصدى القصر لفكرته "المتطرفة" في وقتها وقاد حملة كبيرة لمقاومتها، دعمها وجود طموح كبير من الملك فؤاد لتولي منصب الخليفة الشاغر!
الحديث عن الاستبداد السياسي وموقف عبد الرازق منه لن يكون "لائقاً" في أيامنا هذه. لذا فالمؤسسة الثقافية الرسمية اليوم تكتفي بإحياء ذكرى عبد الرازق على طريقتها الخاصة عبر طرح عنوان يفيد برفض الرجل لفكرة "الخلافة الإسلامية"، وهو أمرٌ كفيل بأن يجعله من آباء التنوير من دون عناء الدخول في التفاصيل.
بالرغم من أن المؤسسة الدينية الرسمية ممثلة في الأزهر، لم تتراجع حتى هذه اللحظة عن موقفها الرافض لفكرة الرجل، ولم تندم على محاكمته وتأديبه وسحب درجة الدكتوراه "العالمية" منه.
كما أن التطرّق للاستبداد السياسي باعتباره السبب في إفساد مقام الخليفة لا يمكن للمثقف الحكومي التطرّق إليه، إذ يكتفي بإلقاء المسؤولية على التفكير الديني الذي هو مصدر كل شرور العالم ومن بينها "الخلافة"، وذلك في مغازلة صريحة لدعوات سلطوية ساذجة بضرورة تجديد الخطاب الديني وفقاً لمتطلبات 30 يونيو!
وفي الندوة التي أقامها المجلس الأعلى للثقافة مؤخراً، تم حشد حوالي عشرين اسماً للمحاضرة والطواف حول ضريح علي عبد الرازق وكتابه الذي ألفه منذ أكثر من 85 عاماً.
وكان واضحاً ذلك التناغم بين جميع الحضور في الانتصار للسلطة السياسية الحالية التي قوّضت المشروع الاستعماري الذي حمله "الإخوان المسلمون" الذين تصرّ أدبياتهم على فكرة الخلافة بوصفها رمزاً لوحدة الأمة في مقابل الدولة القومية، مع لمز باقي حركات الإسلام السياسي ووصفها بالرجعية والتخلف وشرعنة الاستبداد.
لم يحضر جابر عصفور أو حلمي النمنم "التظاهرة الثقافية" كما كان مقرراً، لكن ذلك لم يغيّر شيئاً في مسار الندوة. فهيثم الحاج علي، الأمين العام للمجلس الأعلى للثقافة (بالنيابة) صرّح في الكلمة الافتتاحية بأن استعادة أفكار عبد الرازق اليوم ضرورة حتمية للتطلع إلى عالم خال من التطرف، وأن عبد الرازق يحضر هذه اللحظة بقوة أفكاره التي تصدّت للإرهاب.
وهذه مقدمة يصعب التأسيس عليها في عالم المنطق، بل هي خارج سياق المؤلِّف والمؤلَّف. وأضاف الحاج: إن عبد الرازق صدع بأفكاره في وقت الاحتلال، وواجه بها أفكارا سماها بالاستعمارية.
ولم يبيبن الحاج أهمية أن يشير إلى قوة ضغط الاحتلال والأفكار الاستعمارية بوصفهما إطاراً للفكرة التي قدمها المفكر الراحل، الذي كان عائداً للتو من لندن بعد حصوله على الدكتوراه من أكسفورد.
المفارقة التاريخية التي لا يحبذ المثقفون الوقوف عليها؛ أن مؤتمر علماء المسلمين الذي نظمه الأزهر وقف في وجه رغبة الملك فؤاد الطامع في تولي أمر الخلافة؛ بالرغم من إيمانها بالرمزية الدينية لهذا المنصب؛ لأن مصر آنذاك لم تكن مؤهلة للقيام بهذا الدور الرمزي وهي تحت الاحتلال.
فأيهما كان أكثر مقاومة للسلطة؛ عبد الرازق الذي صدع برؤيته بعد السقوط الفعلي للدولة العثمانية وأصبحت جزءاً من الماضي؟! أم بعض العلماء الذين واجهوا طموح الملك ورغبته الملحة للظفر بلقب الخليفة؟!
استحضار "الإخوان" وجعلهم طرفاً في قضية أثيرت قبل أن تنشأ الجماعة من الأساس، والخروج بفكرة أنّ الفساد السياسي نابع من التديّن؛ كان حاضراً في كلمات معظم المحاضرين، ومن بينهم الدكتور أحمد شعراوي الذي تماهى مع الموقف السياسي للحكومة المصرية؛ منتقداً الإخوان وحكومة أردوغان واصفاً أنصارها بـ"العثمانيين الجدد".
كما ظهر ذلك أيضاً في تعقيب للقاضية تهاني الجبالي المعروفة بخصومتها للثورة المصرية، التي قالت: "إن كل من ناهضوا وحاربوا فكر علي عبد الرازق قد أوصلتهم ثورة يناير للسلطة والحكم، وكادت مصر أن تسقط وتضيع؛ ولولا أنها عادت لأيدينا لما استطعنا أن نجلس اليوم هذه الجلسة ولا نتحدث هذا الحديث"!
وفي كلمته ذهب سعد الدين الهلالي إلى أن "حكم الدين أكذوبة، ولذلك كان لابد أن يسقط هذا الحكم. وأن الخلافة الإسلامية أكذوبة يحاول البعض بها وراثة الدولة العثمانية". قال الهلالي ذلك دون أن يفند ردود علماء المؤسسة الذي ينتمي إليها، وعلى رأسها الشيخ محمد الخضر حسين شيخ الأزهر.
من جهته، محمد عفيفي كشف بموضوعية عن أن الخلافة في عهد المماليك كانت شرفية، وأنّ الخليفة العباسي كان مجرد رمز لا يخرج في غير المناسبات، وحين انتقلت السلطة من مصر إلى إسطنبول لم يُلقّب أحدٌ من الحكام العثمانيين بـ "الخليفة"، بل إنهم اكتفوا بلقب السلطان.
أما أطرف مواقف التنوير في الندوة فكانت كثرة الأخطاء الإملائية في ورقة الدكتور خالد عزب الذي لم يستطع نطق حديثٍ نبوي ولا آية قرآنية واحدة بطريقة صحيحة، فضلاً عن نصوص أخرى. فيما علق عليه بعض الحضور بأنه ضيّع العديد من المعانى بسبب أخطائه اللغوية وضعف قراءته.