من المفارقات السياسية المرتبطة بالاتفاق الدولي مع إيران بشأن مشروعها النووي، أن حجم الأموال المجمدة التي سيكون بمقدور طهران الاستفادة منها يوازي تقريباً حجم ما سحبته الرياض من احتياطيها العام خلال الأشهر القليلة الماضية بعد إطلاق "عاصفة الحزم" لمحاربة الحركة الحليفة الرئيسية لإيران، أي الحوثيين. فحسب إفادات قدمت للكونغرس الأميركي، تقدر الأموال الإيرانية المتراكمة في حسابات أجنبية بما يترواح بين 50 و80 مليار دولار أميركي، هي حصيلة سنوات الحظر النفطي على حكومة طهران. هو المبلغ نفسه تقريباً الذي تؤكد مصادر "العربي الجديد" أن السعودية صرفته من الاحتياطي العام الخاص بها منذ قادت حرب التحالف العشري في اليمن.
كل ذلك في ظل جزم مصادر مطلعة بأن منطقة الشرق الأوسط تشهد حالياً توسعاً كبيراً في مشتريات السلاح بمختلف أنواعه، وهو ما يعزز من التحذيرات الأميركية تحديداً إزاء خطر سباق تسلح مقبل قد يشمل محاولات للحصول على أسلحة نووية خصوصاً في المنطقة العربية الواقعة تحت هاجس الخوف من توسع النفوذ الإيراني المنتظر. وهو ما يفسر أيضاً الحرص الأميركي على طمأنة حلفائها في المنطقة، سواء عبر الاتصالات التي أجراها الرئيس الأميركي باراك أوباما ووزير الخارجية جون كيري، أو عبر الإعلان عن أن وزير الدفاع الأميركي آشتون كارتر، سيسافر إلى السعودية في إطار جهود إدارة الرئيس باراك أوباما لإقناع الحلفاء المتشككين في المنطقة بمزايا الاتفاق النووي مع إيران.
اقرأ أيضاً: التمايزات الخليجيّة من الاتفاق النووي: السباق النووي مرجّح
وإذا كانت نشاطات طهران المثيرة للقلق بالنسبة لعدد من عواصم العرب لم تتوقف أثناء فترة الحصار الاقتصادي عليها فيما يتعلق بدعم المليشيات في العراق وسورية واليمن ولبنان، فإن حصول طهران على موارد مالية جاهزة وتحسّن وضعها الاقتصادي، يفتح احتمالاً على تشجيع طهران في سبيل زيادة الدعم بالمال والسلاح لنظام الرئيس السوري بشار الأسد ومليشيات الحوثيين في اليمن وحزب الله في لبنان، فضلاً عن تسليح المليشيات في العراق وربما في أمكنة أخرى.
ويقدر الباحث في معهد واشنطن باتريك كلاوسون، تكاليف ما يسميه "الأنشطة الإيرانية المؤذية" أو التمويل الإيراني للأنشطة الخارجية بحوالي عشرة مليارات دولار سنوياً طوال فترة العوز الاقتصادي، ملمحاً إلى أن مثل هذا التمويل قد يتضاعف مرات عدة بعد رفع الحظر الاقتصادي عن إيران بموجب الاتفاق.
على مدى السنوات القليلة الماضية، أنفق الإيرانيون مليارات الدولارات في سعيهم إلى النفوذ الإقليمي على الرغم من كونهم مقيدين بأحكام العقوبات، مما يبيّن الأولوية العالية التي أولوها لهذا الهدف.
ولا يتوقع كلاوسون أن تتغيّر أولويات طهران عقب التوصل إلى اتفاق نووي، بل يخشى توسعاً في التمويل الإيراني للمليشيات المسلحة الحليفة بعد رفع القيود المفروضة على سياستها الخارجية وسعيها لزيادة نفوذها في المنطقة.
وعلى الرغم من إقرار كلاوسون بأن إطلاق العنان للموارد الإضافية إثر التوصل إلى صفقة نووية وضع إيران في وضع أفضل لإنفاق المزيد على اتخاذ القرارات المتسرعة والمخاطرة خارج البلاد، على حد تعبيره، إلا أن العوامل الأساسية التي تحدد نطاق هذه النفقات وطبيعتها تبقى من وجهة نظر الباحث سياسية وليست اقتصادية.
غير أن ما يتوقف عنده البعض في دوائر السلطة الأميركية أو الإعلام، هو ما يسمونه "نوع من الرضا الأميركي المستتر" عن توسع النفوذ الإيراني داخل الحدود العربية، ودعم إيران للمليشيات، اعتقاداً من بعض الدوائر الأميركية أن ذلك يمكن تسخيره لخدمة "استراتيجية مكافحة الإرهاب".
ويتوقع بعض الدبلوماسيون العرب في واشنطن على سبيل المثال أن يتغير الموقف الأميركي لصالح جماعة الحوثيين في اليمن وربما لصالح حزب الله في لبنان تحت حجة أن مثل هذه الأحزاب المسلحة لديها الدافع الأيديولوجي لمكافحة الخطر المتمثل في تنظيم "الدولة الإسلامية" (داعش) والتنظيمات المسلحة الأخرى المرتبطة بـ"داعش" في المنطقة الممتدة من شمال شبه الجزيرة العربية حتى جنوبها.
اقرأ أيضاً: حلفاء إيران في لبنان: "داعش" إلى حدود السعودية
في هذا السياق، نشر "معهد واشنطن" المعروف بنفوذ الدوائر الصهيونية فيه، عدداً من المقالات والدراسات التي تروج لضرورة عقد "تحالفات جديدة" لا تكون إسرائيل بعيدة عنها بغية الاستعداد لصراع أكثر حدة مع "عملاء إيران في العراق واليمن وسورية ولبنان" بحسب المصطلحات العدوانية لعدد من كتاب هذا "المعهد". على سبيل المثال، دعت الكاتبة كاثرين كليبلاند، قبل أيام، إلى ما تسميه "تعاوناً بين إسرائيل والسعودية على وجه الخصوص من خلال إظهار موقف متشدد ضد إيران". وهو ما يتكرر بوتيرة متسارعة في الصحف العبرية، من دون أن تلاقي مثل هذه "الدعوات" أي صدى في الجبهة المقابلة.
لكن أحد العوامل التي يبدو أنها تُضعف الموقف المواجِه لإيران، هو عدم وجود تعبير موحد للدول الخليجية الست إزاء الاتفاق النووي بين المهنّئ لطهران كالإمارات والكويت، والذي أعرب عما يشبه التشكيك بجدوى الاتفاق، وخصوصاً السعودية التي جعلت "مصدراً" يترجم موقفها الرسمي بقوله إن "المخاوف من إيران لا تقتصر على سعيها للتسلح نووياً بل أيضاً بسبب دعمها للإرهاب وإثارة القلاقل في المنطقة".
لكن شبكة "سي أن أن" الأميركية الإخبارية نقلت في وقت سابق عن مصدر سعودي لم تسمه قوله "إن إدارة الرئيس باراك أوباما ارتكبت خطأ تاريخياً ضخماً وستترك عبئاً هائلاً للإدارة المقبلة عليها التعامل معه وتصحيحه"، في إشارة إلى اتفاق 14 يوليو/تموز الماضي. وأضاف المصدر نفسه أن الاتفاق "سيقابله كثير من العداء بسبب الطريقة التي تم بها، تمثيلية في الأساس، وسيكون هناك رد قوي من السعودية من خلال اتخاذ إجراءات على المدى المتوسط". وبعد بث الشبكة للتصريح السعودي الغاضب، سارع الرئيس الأميركي باراك أوباما إلى الاتصال بقادة السعودية لتطمينهم. وقال البيت الأبيض إن أوباما اتصل بالعاهل السعودي الملك سلمان وهو على متن طائرة الرئاسة لبحث الاتفاق النووي الإيراني الذي أبرم يوم الثلاثاء إلى جانب الوضع في اليمن. وذكر البيت الأبيض في بيانه أن أوباما أشار إلى التزام الولايات المتحدة بالعمل مع شركائها في الخليج لمواجهة أنشطة إيران التي تزعزع الاستقرار في المنطقة ومن أجل تعزيز الاستقرار ودعم "بناء قدرات شركائنا في المنطقة". غير أن مصدراً أميركياً مطلعاً على الملف اليمني عن كثب قال لـ"العربي الجديد" إن أوباما "حثّ السعوديين خلال الاتصال على وقف الحرب في اليمن وفتح المجال أمام وصول المساعدات الإنسانية إلى كل اليمنيين الذين أصبحوا في أمسّ الحاجة إليها". وربط المصدر بين الطلب الأميركي من السعودية وقف القتال في اليمن وتوقيع الاتفاق مع إيران، معرباً عن توقعه بأن تتغير اللهجة تدريجياً من أحداث اليمن بمزيد من الانخراط الأميركي ومزيد من الضغوط على الحلفاء بما يصب في نهاية المطاف في إنهاء الحرب. ويختصر المصدر الأميركي الموقف بالقول إن "النتائج المترتبة على الاتفاق النووي مع إيران عربياً والتفاهمات الإيرانية الأميركية الضمنية، أكثر أهمية من كل البنود المنصوص عليها مباشرة في الاتفاق".
اقرأ أيضاً: خيارات نتنياهو محدودة تجاه إيران: الاستنفار العسكري للردع فحسب