الاتفاق النووي والجيوستراتيجيا في المشرق العربي (1-2)
ألقت عملية عاصفة الحزم، التي انطلقت في قمة جولة التفاوض بين إيران ومناكفيها الغربيين، بظلالها على عملية التفاوض، حتى كان هنالك من خشي انهيار المفاوضات، نتيجة هذه العملية، لأسباب موضوعية، أهمها أن المستهدف الحقيقي لعملية عاصفة الحزم لم يكن الحوثيين والمخلوع علي عبدالله صالح حقاً، بقدر ما كان المشروع التوسعي الإيراني الذي بالغت طهران في دفعه إلى أقصى النهايات، حتى تحدث مسؤولون إيرانيون مرموقون أن بلادهم أضحت تسيطر على أربع عواصم عربية، وأن بغداد قد أضحت عاصمة الإمبراطورية الفارسية الجديدة، كما قال علي يونسي، مستشار الرئيس الإيراني، حسن روحاني، وهو التصريح الذي أثار امتعاضاً عربياً شديداً وواسعاً.
كما أن حالة الفوضى والاختلال التي يعيشها المشرق العربي، بسبب تداعيات تغول المليشيات المرتبطة بإيران، في كل من العراق وسورية ولبنان واليمن من جهة، وتغول داعش وإسرافها في تهديم البنى الحضارية والقيم الإنسانية الحقة التي عاشت عليها المنطقة أحقاباً طويلة، من جهة أخرى، قد أحدث حالة جديدة في الانقسام المجتمعي، قسم المجتمع إلى أشتاتٍ، يقاتل بعضها بعضاً، سعياً وراء أهداف مبهمة، لا تتضح على الفور، إلا من زاوية يطل عبرها الفاعل السلبي الآخر في التشكيل الجيوستراتيجي للمشرق العربي، وهو الكيان الصهيوني.
التشكيل الجيوستراتيجي:
نقصد بالتشكيل الجيوستراتيجي الحالة التي تتحول بها العلاقات الاستراتيجية بين الفاعلين المحليين والإقليميين إلى مؤثرات فاعلة على مجمل صورة العلاقات المتمخضة عن تأثر هذه الفواعل وتأثيرها في الصورة العلائقية النهائية العاملة في الإقليم. في هذه الحالات، تتحول التأثيرات المبرزة من أداء كل من الفواعل في الإقليم إلى تأثيرات قدراتيةٍ، تتفاعل سلباً أو إيجاباً مع فواعل القدرة الأخرى. تضيف إليها، أو تطرح منها، وربما تصفرها، كما في حالة تلاشي قدرات الدول في الفعل الإيجابي في الإقليم، وتحولها إلى فواعل فرعية، تتفاعل على المجال المحلي، وليس الإقليمي، لتضمن لها حصة منه تتيح لها الديمومة، كما في حالات الحكومات الفاشلة في العراق وسورية واليمن، وربما لبنان التي تلاشت عملياً فيها سلطة الدولة لصالح سلطة لاعب محلي ذيلي، نجح في شل قدرات الدولة وإمكاناتها، واستجلب إليها فاعلين سلبيين، كما في حالة داعش وجبهة النصرة ومن يمثلهما. ستحاول هذه الورقة سبر أغوار هذا التشكيل الجيوستراتيجي الجديد، انطلاقاً من سبر أغوار التحولات التي أفضت إليه.
التحولات والتشكيل الجيوستراتيجي الجديد.
ما تعيشه المنطقة، في هذه المرحلة، هو حالة تحول لا نمطيا، من شكل علائقي موروث، أملته الحالة الواقعية التي كانت سائدة قبل غزو العراق للكويت عام 1990، إلى التغيير الذي عانت منه هذه الحالة، بعد ذلك الغزو، والتي أنتجت غياب أحد أهم اللاعبين الإقليميين والمساهمين الأساسيين في صياغة معادلة التوازن الجيوستراتيجي في المنطقة، أثر غيابها سلباً على ما كان يتحصل عليه المشرق العربي من نتائج إيجابية، تضمن له حالة معقولة من الاستقرار والرفاه، والسعي إلى الإنجاز. في مقابل ذلك، ذهبت الحصيلة الإيجابية في هذا التحول لصالح لاعبيْن إقليميين آخرين، حصل أحدهما على معظم الكعكة العراقية، وأضافها إلى حصيلته، وحصل الآخر، وهو الكيان الصهيوني، على تخلصه من تهديد محتمل لأمنه، متمثلاً في العنفوان العراقي الذي أثبتته نتائج الحرب العراقية الإيرانية.
ومن أهم سمات هذا التحول، تحول نمط الاستقطاب الذي كان سائداً قبله، وهو الاستقطاب الثنائي العربي- الصهيوني، إلى استقطاب من نمط جديد، بدأ باستقطاب دولتي، مثله المحور الاستقطابي العراقي- الإيراني (1980-1988) الذي تمكن من شق وحدة الموقف العربي، في حالة الاستقطاب السابق، والذي يمكننا تسميته "الاستقطاب التقليدي"، إلى نمط جديد من الاستقطاب، حيث اصطفت معظم الدول العربية مع العراق، وميزت كل من ليبيا وسورية نفسيهما، بالانضمام إلى الصف الإيراني، في حين بقيت دول عربية، مثل الجزائر وعُمان، على الحياد.
ومن السمات الأخرى، دخول عامل مهم في نمط الاصطفافات، هو نمط الولاء الطائفي الذي بدأ بالتشكل منذ انطلاق الثورة الإيرانية التي تصدر رجل الدين الراحل الخميني قيادتها. فمنذ انتصار تلك الثورة، والقضاء على نظام الحكم المدني في إيران تحت العرش البهلوي، بدأت هذه الثورة تبشر ببداية عهد جديدٍ، سيقود الشيعة فيه العالم الإسلامي، متوسلين بشعار تصدير الثورة، بدءاً من الجوار العربي. هنا، وضعت قيادة الثورة الدينية الإيرانية أهدافاً للتسلل إليها، هي على التوالي: العراق، والبحرين، ولبنان. كان الهدف تثوير التجمعات الشيعية ضد حكوماتها. وحققت الخطة نجاحاً ملحوظاً في لبنان، حيث تعاونت كل من سورية، الحليف الجديد لنظام ولاية الفقيه الجديد، وإيران، وهي نفسها نظام ولاية الفقيه، في صنع حزب الله في لبنان، ليكون الوعاء الذي يحتوي الطائفة الشيعية اللبنانية التي يشيع بينها الشعور بالتهميش. ونجح حلف الأسد- الخميني في خطوته تلك بامتياز، بأمل تشغيل هذا الحزب لتحقيق مصالح الطرفين. لنلاحظ، هنا، التماهي الواضح للطائفة العلوية التي يمثلها ويقودها سياسياً نظام حافظ الأسد مع الشيعية السياسية المصدرة من إيران، ما صنع لنا فضاءً شيعياً موالياً للخميني،
استوعب كلاً من سورية ولبنان. وسيتحول هذا الفضاء، بشكل تدريجي، عبر السنوات، إلى أمر واقع، يقاتل من أجل وجوده، حتى بتدمير الأوطان.
في المقابل، لم ينجح هذا المسعى في العراق، بسبب قوة نظام الحكم الذي بطش بفئة محدودة من المسيسين الشيعة، احتواهم حزب الدعوة الإسلامية، ما دمر هذا الحزب في العراق، وهربت قياداته إلى حاضنتهم الإيرانية، ثم إلى سورية التي احتضنتهم، هي الأخرى، وبعد ذلك، إلى دول اللجوء الغربية. كانت نتيجة تفكيك خلايا هذا الحزب بطريقة عنفية في العراق، وشعور العراق بالتهديد من حركات من هذا الشكل، توجهه إلى حسم الموضوع مع الحاضنة الإيرانية بشكل ساخن. كان تصور نظام الحكم العراقي أن الضرب على الحديد وهو ساخن سيطوّع هذا الحديد للتشكيل المرغوب؛ تحجيم إيران الخمينية إلى الدرجة التي لا تستطيع معه على الفعل السلبي تجاه العراق والمشرق العربي بالذهاب إلى الحرب، ما أعطى مقولة الجدار الشرقي للوطن العربي مصداقية لدى القوميين العرب في حينه، قبل تحول ولاءات قطاع مهم منهم في سورية ولبنان إلى تبني وجهة النظر الإيرانية.
استثمر نظام الحكم العراقي كثيراً في الملف القومي والقضية الفلسطينية، ونافس الجميع على تقديم أكثر ما يمكن في هذا المجال لإعطاء مصداقية لمقولة "حراس البوابة الشرقية" للوطن العربي. وقد بادر الروائي المصري، جمال الغيطاني، إلى كتابة عمل روائي بهذا الاسم، نال شهرة مهمة في حينه، في العراق على الأقل.
وكان من نتيجة القمع المفرط الذي مورس بحق حزب الدعوة العراقي أن تم، ليس تحجيم هذا الحزب فحسب، بل وأية حركة سياسية ذات نكهة طائفية، ما تبيّن أثره واضحاً، طوال الحرب العراقية الإيرانية التي شنت، أساساً، لتحجيم شعار تصدير الثورة الإيرانية، وقد نجحت فيه، إذ حسم النظام ولاء مواطنيه الشيعة، طوال فترة هذه الحرب التي لم تشهد أي تمرد، أو مجرد تململ طوال تلك الحرب التي خرج العراق منها منتصراً. وفي البحرين، وعلى الرغم من قوة التيار الشيعي، لم يتمكّن، هو الآخر، من تحقيق أي نجاح. وقد حاولت تيارات التشيع السياسي المستوردة من إيران إقلاق الأمن الداخلي الكويتي، عقاباً لها على تأييدها العراق، وتنسيقها الواسع معه، إبّان تلك الحقبة، إلى درجة استهدافهم موكب أمير الكويت الراحل، الشيخ جابر الأحمد الجابر الصباح.
ليس الغرض من تبيان هذه التطورات السرد التاريخي فحسب، بل تبيان بوادر التحول الكبير في التشكيل الاستراتيجي في المشرق العربي الذي أوصل الحالة إلى ما هي عليه الآن، أشتات يقاتل بعضها بعضاً، وأمن إقليمي تمت التضحية به عالمياً، وحكومات تقاتل شعوبها، بعد أن تحولت هي أيضاً إلى بعض هذه الأشتات.
مرتكزات الأمن الإقليمي المطلوب
لعل البحث في هذا المجال يستدعي التعرف على عناصر القوة وعناصر التهديد التي يتعرض لها الوطن العربي، وبشكل أكثر تحديداً إقليم المشرق العربي. يقتضي البحث منا أن نحدد إقليم المشرق العربي، أولاً، ليتم تحديد عناصر التهديد الذي يتعرض له من جهة، والقدرات المتاحة له على الصعد كافة التي يتم اعتبارها عند قياس قدرة الدول. سيتضمن هذا التحديد الأنظمة الأمنية الحاكمة في زمن حساب هذه القدرات.
يُقصد بالنظام الإقليمي للمشرق العربي كل من دول الهلال الخصيب (العراق، وسورية، ولبنان، والأردن، وفلسطين)، ومصر، ودول الجزيرة العربية التي تتألف من دول مجلس التعاون الخليجي الست (السعودية والكويت والبحرين وقطر والإمارات وسلطنة عمان) واليمن. كل هذه الدول أعضاء في جامعة الدول العربية، وتضمها اتفاقية الدفاع المشترك والتعاون الاقتصادي العربي الموقعة عام 1951، فضلاً عن مجلس التعاون لدول الخليج العربية الست المشار إليها آنفاً.
عناصر التهديد:
سنناقش، هنا، التهديدات الأمنية أولاً، مشيرين إلى أنواع التهديد الأخرى في مجالها، متى ما كانت هذه التهديدات ذات علاقة بإعادة التشكيل الجيوستراتيجي القائمة حالياً، أو كانت سبباً لها.
التهديد الصهيوني (الإسرائيلي)، التهديد الإيراني، التهديد الناجم عن احتكاكات إقليمية مجاورة، تهديدات الأمن المائي (سد النهضة الإثيوبي نموذجاً)، التهديد التفتيتي الطائفي الداخلي، التهديد التفتيتي الإثني الداخلي، الطاقة عنصر تهديد.
التهديد الإسرائيلي قائم، لن ينتهي إلا بعد انتهاء الاحتلال الصهيوني للأرض العربية، وقيام دولة فلسطينية قابلة للحياة متفاعلة مع إقليمها وجوارها العربي ومتكاملة معه. مثل هذه التسوية غير متاحة في المستقبل المنظور. من هنا، سنرى في مستقبل أيامنا سلسلة لا منتهية من ضربات إسرائيلية تدميرية موجهة إلى التجمعات الفلسطينية، أينما كانت، من دون أن تستهدف غزة وحدها. ولا شك أن لمثل هذا التهديد أثره وتداعياته على الأمن الإقليمي للمشرق العربي.
يأخذ التهديد الإيراني المتصاعد، في هذه المرحلة، نمطاً متعدد الطبقات والأوجه والمجالات، كما أن أدواته تتغاير لتلائم البيئة المستهدفة. فهو في العراق غيره في سورية، وفي سورية غيره في لبنان، وفي هذه كلها غيره في اليمن. كما أن نمط العمل في البحرين يختلف عنه في الكويت، أو في المملكة العربية السعودية، أو في دولة الإمارات. ليست الأردن ولا مصر، بعيدة عن أنماط معينة من التهديد الإيراني، وهو التهديد ذو السمة الثقافية الذي يأخذ الصفة التبشيرية.
وكما أن التهديد الإيراني خطير على الصعيد الخارجي، فهو، وأدواته، يكاد يكون أشد خطورة على الصعد الداخلية للدول المستهدفة، مع العرض أن ليس إيران وحدها من تعبث بالداخل العربي، بهدف التفتيت والصراع، بل تشاركها قوى أخرى، منها الكيان الصهيوني الذي يغذي عوامل الانقسام بشكل موارب. ولا نبرئ قوى دولية بعينها من أنها أول من أدخل وصفة التفتيت، وجربها عملياً في العراق بعد احتلاله.
ومن ناحية تهديد الأمن المائي، وعلى الرغم من إشارتنا إلى سد النهضة الذي تم توقيع اتفاق مبادئ ثلاثي، أخيراً، لا نعلم مآلاته في هذا الوقت المبكر، مع اعترافنا بحق كل من دول منبع نهر النيل ومصبه في حقوق عينية، تدعم التنمية المرجوة لمجتمعاتها، على أن يكون مبدأ "لا ضرر ولا ضرار" الحاكم في هذه الأمور. لكن، لدينا حالة متوارثة من الضرر، تعاني منها المدن والبلدات والقرى الحدودية العراقية مع إيران، جراء إغلاق هذا البلد عشرات الأنهار الحدودية المنصبة من الهضبة الإيرانية باتجاه نهر دجلة. ولم يتحسن هذا الوضع، على الرغم من أن إيران هي المسيطرة على الحكومة العراقية، وهي مصدر توجيهها دونما افتراءٍ على أحد. ويعاني كل من العراق وسورية من مشروع جنوب الأناضول التركي، وتداعياته المستقبلية.
ومن ناحية التهديد الناجم عن الطاقة، ولكون المشرق العربي مصدراً مهماً لها، فإن أمن جيوستراتيجيا منظومات الأنابيب وأمن خطوط الإبحار، والممرات البحرية، كمضيقي هرمز وباب المندب، وتيران، وقناة السويس، مهم جداً، يلقي بتبعاته على الأمن القومي العربي في المشرق، إن لم يكن الأمن الإقليمي والعالمي، لاعتماد العالم الشديد على مصادر الطاقة الهيدروكربونية من هذا الإقليم.