بات الاتفاق النووي بين إيران والغرب أقرب إلى الواقع، بعد عقدٍ ونيّف من المباحثات والمفاوضات المضنية على وقع تغييرات الداخل الإيراني، وانتقال السلطة من المحافظين إلى المعتدلين، وتبدّلات الداخل الأميركي بتسلّم "الديمقراطي" باراك أوباما رئاسة البيت الأبيض بعد ثماني سنوات من حكم الجمهوريين بقيادة الرئيس جورج بوش الابن. وشكّل الاتفاق الإطاري مساء الخميس، خطوة أخيرة قبل توقيع الاتفاق النهائي بين يونيو/حزيران ويوليو/تموز المقبلين.
الدور الأبرز في المفاوضات من الناحية الإيرانية، كان لوزير الخارجية محمد جواد ظريف، وخلفه الرئيس حسن روحاني، اللذين عانيا من انتقادات شديدة من الداخل، لكنهما تمسكا بدعم المرشد علي خامنئي لهما، ليأتي الاتفاق بمثابة تكريس للخطوات التي بدأت مع اتفاق جنيف في نوفمبر/تشرين الثاني 2013.
عاد الفريق الإيراني المفاوض برئاسة ظريف، إلى العاصمة طهران، أمس الجمعة، من لوزان السويسرية بعد تسعة أيام من المفاوضات الصعبة والمعقدة في شأن الملف النووي الإيراني، ولكنها كانت أكثر الجولات حسماً في سلسلة جولات التفاوض.
وكان في استقبال الوفد في مطار مهرآباد، غربي العاصمة، عشرات الإيرانيين المرحّبين بالاتفاق الإطاري، الذي أُعلن في بيان مشترك، وتلاه كل من ظريف ومنسقة الشؤون الخارجية للاتحاد الأوروبي فيديريكا موغريني ليل الخميس. وجعلت بنود الاتفاق الإيرانيين، يرفعون شعارات داعمة لجهود الوفد المفاوض، الذي حقق ما لم يستطع آخرون تحقيقه منذ سنوات عدة.
وتتجلّى النقطة الأهم بالنسبة للشارع الإيراني في الاتفاق مع السداسية الدولية على إلغاء كل قرارات العقوبات المفروضة على إيران بسبب برنامجها النووي، سواء العقوبات الأميركية أو الأوروبية، أو القرارات الأربعة التي أقرّها مجلس الأمن بحقّ طهران.
ومع تطبيق هذه النقطة، بعد صياغة الاتفاق النهائي الذي سيُعلن عنه أواخر يونيو المقبل، ستكون إيران قادرة على الحصول على المزيد من أموالها المُجمّدة في المصارف الخارجية. وستتلمّس طهران الانتعاش عملياً، بعد إلغاء الحظر على المصرف المركزي وعلى سوقها النفطية، في مقابل الالتزام بتعهّدات اتفاق لوزان النووي.
وستكون مدة الاتفاق لعشر سنوات، يحقّ لإيران خلالها تشغيل خمسة آلاف جهاز طرد مركزي فقط من أصل 19 ألفاً تمتلكها البلاد، ويسمح لها باستخدامها في مفاعل "نتانز" حصراً. ولا يمكن لإيران أن تُخصّب اليورانيوم بنسبة أعلى من 3.67 في المائة، كما سيسمح لها بتشغيل ألف جهاز طرد في منشأة "فردو" النووية، التي تم الاتفاق على تحويلها إلى مؤسسة للتحقيق والأبحاث العلمية الفيزيونووية، في مقابل أن تُزوّدها دول 5+1 بالتكنولوجيا التي تحتاج إليها، لتستفيد إيران من الطاقة النووية في المجالات الطبية والزراعية والصناعية.
أما مفاعل "آراك" الذي يعمل بالماء الثقيل، والذي كان نقطة خلافية عقّدت التوصل لاتفاق خلال الأشهر الماضية، فقد تم الاتفاق على إعادة تصميم داخله، من أجل التحكم بإنتاج مادة البلوتونيوم، التي تُثير شكوك الغرب أساساً، فكمية قليلة منها تسمح بصنع قنبلة نووية. ولكن اتفاق لوزان ينصّ على تحديد جدول زمني لإعادة تصميم المفاعل، خلال مهمة ستُشرف عليها "الوكالة الدولية للطاقة الذرية".
تمّ تحقيق مطلب رئيس الوكالة يوكيا أمانو أيضاً في اتفاق لوزان، بعد موافقة طهران على توقيع البروتوكول الإضافي من معاهدة "الحدّ من انتشار الأسلحة النووية"، وهو البروتوكول الذي يسمح بإجراء تفتيش مفاجئ ومباغت للمنشآت، خلال يوم أو يومين كحد أقصى.
وتُحدّد كل هذه النقاط شكل الاتفاق الأخير شفهياً، والتحدّي الأول الذي سيُعرقل التوصّل لاتفاق نهائي، والمفترض الإعلان عنه بعد مدة أقصاها ثلاثة أشهر، يكمن في كيفية صياغة هذه البنود والتوافق على تفاصيل تطبيقها وجدولها الزمني.
وفي الوقت الذي سيتعرّض فيه الاتفاق لعراقيل خارجية عدة، يوجد في الداخل الإيراني من العثرات ما قد يقف بوجه الاتفاق كذلك، ففي كل نقطة من نقاط الالتزامات التي يتوجب على الطرف الإيراني أداؤها يوجد تحدٍّ معيّن.
وعلى الرغم من موافقة إيران على توقيع البروتوكول الإضافي، إلا أن هذا الأمر يحتاج لتصويت نواب البرلمان، وفق القانون الإيراني، ويسيطر المحافظون على غالبية مقاعد البرلمان، كما يوجد منتقدون أشدّاء لسياسة الرئيس المعتدل حسن روحاني ووفده المفاوض.
ونقلت وكالة "أنباء فارس" الإيرانية، إبان الإعلان عن اتفاق لوزان عن نائب رئيس لجنة الأمن القومي في البرلمان منصور حقيقت بور قوله، إن "أمام ظريف مهمة صعبة للغاية، فعليه تقديم توضيحات دقيقة عن تفاصيل الاتفاق، وما يحققه من مكاسب عملية لبرنامج البلاد النووي". وشدد على أنه "ليس من حق الوفد المفاوض أساساً، قبول بند التوقيع على البروتوكول الإضافي".
مع ذلك، لم يشكك حقيقت بور بالمكاسب التي تصبّ في مصلحة بلاده من هذا الاتفاق، بعد نيل إيران اعترافاً غربياً وأميركياً ببرنامجها النووي، ولكنه ركّز أيضاً على تصريحات كل من ظريف وموغريني حول بند إلغاء العقوبات، فتساءل عما إذا كانت العقوبات ستُلغى فوراً أم تدريجياً، أم أنها ستمنح لإيران كلما تم التأكد من نقطة من النقاط التي يتوجب عليها أداؤها.
من ناحيتهم، ركّز محافظون آخرون على نقاط عدة في اتفاق لوزان، فرئيس تحرير صحيفة "كيهان" المحافظة حسين شريعتمداري، المحسوب على الخط المتشدد، قدم رأيه بالاتفاق في جملة واحدة وهي "قدّمنا حصاناً في أوج زينته، وعدنا من المفاوضات برسن ممزق"، في إشارة منه إلى أن المكاسب الإيرانية أقل بكثير من المكاسب الغربية.
كما أن الباحث في الشؤون السياسية الإيرانية مهدي محمدي، اعتبر في حديث لوكالة "أنباء فارس"، أن "الاتفاق حول منشأة فردو وقرار تحويلها لمنشأة بحوث، لا بقائها كمنشأة للتخصيب، كارثة بكل ما للكلمة من معنى".
وتتلخص الانتقادات الداخلية حول عدم وضوح آلية إلغاء العقوبات، مطلب الإيرانيين الأول، وإيقاف التخصيب في "فردو"، وتحدّي التوقيع على البروتوكول الإضافي، الذي سيقرره البرلمان. لكن كل هذه النقاط مرهونة بدعم المرشد علي خامنئي، المتوقع، لكن هذا لا ينفي أن مهمة ظريف في الداخل، ستكون صعبة ومعقدة للغاية.
وعلى الرغم من الصعوبات، فإن الاتفاق حقق لطهران مكاسب عدة، فأن تتنازل واشنطن عن شرطها السابق، بضرورة تفكيك كل منشآت إيران النووية وتسمح لها بالاحتفاظ بـ"فردو" و"نتانز" و"آراك"، بغضّ النظر عن صيغة استمرار عملها، فهذا يعني اعترافاً أميركياً وغربياً ببرنامج طهران النووي، والسماح لها بأن تكون دولة نووية، برضى الوكالة الدولية، التي ستضمن تزويدها بالوقود اللازم لمفاعلاتها حسب الاتفاق ذاته.
كما باتت إيران تمتلك اليوم دورة نووية كاملة، من التنقيب عن اليورانيوم الخام، حتى تخصيبه وحقنه في المفاعلات، حتى ولو كان تأمين الوقود والقضبان النووية ليس محلياً، لكن كل هذا يكفي الداخل الإيراني خلال هذه المرحلة الصعبة، ويستدعي تقديم تنازلات تتعلق بعمل أجهزة الطرد أو التخصيب بنسب عالية.
الأهم الآن إيرانياً، هو إلغاء العقوبات الاقتصادية، وهو ما سيمنح طهران مكاسب إقليمية ودولية، ليس على الصعيد الاقتصادي والعلمي وحسب، بل أيضاً على الصعيد السياسي. من المهم بالنسبة لطهران التوقيع على اتفاق في مرحلة تزاحمت فيها ملفات المنطقة العالقة، ما يعني وجود قرار إيراني بالاستفادة من رغبة الحكومة الأميركية الحالية، بالتوصل إلى حلّ للملف النووي الإيراني، وهو ما سيجعل التوافق النووي بوابة إيران نحو العديد من القضايا الأخرى.
اقرأ أيضاً: فابيوس: الاتفاق حول البرنامج النووي الإيراني "مرحلي"