لم يصل عمر الاتفاق النووي بين إيران والسداسية الدولية إلى ثلاثة أعوام بعد، وأصبح على وشك الانهيار بالكامل، في ظل التوجه الأميركي للانسحاب منه، رغم محاولات العديد من الدول الأوروبية، تحديداً التي شاركت في صياغة الاتفاق، الحفاظ عليه والدفع باتجاه إدخال تعديلات تأخذ بعين الاعتبار الملاحظات الأميركية.
ويبدو الاتفاق النووي أمام الاختبار الأصعب، على الرغم من أنه تعرض خلال العامين الماضيين إلى عدة انتهاكات، وهي انتهاكات تختلف طبيعتها من وجهة نظر الإيرانيين وباقي الأطراف. وبحسب رواية الطرف الإيراني، فإن السياسة الأميركية، التي أصرت على فرض مزيد من العقوبات غير النووية، تخلّ بروح وجوهر الاتفاق، بحسب تعبير مسؤولي البلاد، الذين اتهموا واشنطن كذلك بعرقلة تطبيقه بالكامل، وهو ما منع طهران من حصد كامل مكتسباتها من ميزة إلغاء العقوبات النووية، فلم تستطع أن تتصل بالنظام المالي الدولي، وظلت تعاني من مشكلات مصرفية، وهو ما يؤثر على كل الصفقات، إلا أن هذا يؤشر بشكل أو بآخر إلى أن انسحاب أميركا المحتمل من الاتفاق يعني انهياره بالكامل. وفي المقابل، تتذرع أميركا، وتوافقها بعض الأطراف الأوروبية، بمسألة تطوير طهران للصواريخ الباليستية، وتنتقد دورها وسياساتها في سورية واليمن والعراق، وترى أن الاتفاق النووي لم يقيد إيران كما يلزم، وهو ما يفتح باب الحديث عن تفاوض جديد أو إضافة ملحق للنص الفعلي.
والرغبة الأوروبية باستمرار الاتفاق موجودة كونه يضبط سلوك طهران النووي ويوفر لأطراف الاتفاق مصالح اقتصادية، ومن هنا يأتي التخوف الأوروبي من الانهيار الكامل، ما يجعل هؤلاء يفضلون الإبقاء على الاتفاق مع إضافات قد تأتي في اتفاق جديد أو تلحق بالنص الراهن. وتدرك كل الأطراف أنه حتى لو قبلت طهران بسيناريو البقاء في الاتفاق بعد انسحاب واشنطن المفترض منه، رغم أنها أعلنت رفض ذلك مراراً، فإن بنود الاتفاق نفسه، خصوصاً ما يرتبط بالعقوبات المعلّقة بموجبه، تعني أن عمره سينتهي سريعاً، ولا يمكن للاتفاق النووي أن يصمد بعدها. ويرجح أن إيران، التي تعي تماماً هذه المعادلة، لن تكون الطرف الأول الذي ينسحب من الاتفاق، في محاولة لإلقاء اللوم كاملاً أمام المجتمع الدولي على الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، وإدارته المتشددة، علها تحصد مكتسبات سياسية ثانية. والعقوبات الاقتصادية والحظر المشدد الذي فرض على إيران بعد العام 2006 هو ما حثّها أساساً للجلوس حول طاولة المفاوضات، فقبلت بقيود فرضت على نشاطها في المفاعلات النووية، مقابل أن تتنفس الصعداء قليلاً وتحقق مكتسبات اقتصادية من علاقاتها مع الآخرين، ولا سيما الأطراف الأوروبية. وهذا أيضاً لم يتحقق بشكله الأمثل، على الرغم من أنه ساهم بجذب المستثمرين الراغبين في تقاسم الكعكة الإيرانية، خصوصاً في سوق الطاقة، وذلك ارتباطاً بواشنطن، التي إن انسحبت من الاتفاق قبيل 12 مايو/ أيار الحالي، ستؤثر سلباً على بقية الشركاء، هذا إن لم تقرر طهران الرد فوراً من خلال استئناف النشاط النووي ليعود للوتيرة التي كان عليها قبيل الاتفاق.
وكانت إيران والسداسية الدولية أعلنوا، منتصف يوليو/ تموز 2015، التوصل إلى اتفاق مكون من نص أصلي وخمسة نصوص ملحقة. وشكل هؤلاء معاً لجنة عمل مشتركة أجرت اجتماعات دورية، وأشرفت على عملية تطبيق الاتفاق الذي اعترف بسلمية البرنامج النووي الإيراني بغض النظر عن الاتهامات الإسرائيلية الأخيرة، كما سمح باستمرار تخصيب اليورانيوم بنسبة 3.67 في المائة فقط، من دون إغلاق أي منشأة نووية. وألغى الاتفاق العقوبات الاقتصادية والمالية والنفطية التي فرضت على طهران بسبب نشاطها النووي، وهي قرارات أممية صادق عليها مجلس الأمن الدولي، لكن الغرب حدد، في الاتفاق، فترة 65 يوماً لإعادة فرض العقوبات على البلاد بحال أخلت بتنفيذ التعهدات استناداً لتقارير تصدر عن الوكالة الدولية للطاقة الذرية، وهو ما لم يحدث خلال فترة التطبيق.
ويبقى السؤال المطروح عما إذا كانت اتهامات رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، المتعلقة بشكوك حول سلمية برنامج إيران النووي، واستمرار طهران بتطوير أبعاد عسكرية فيه، قد تصل لنتيجة لاحقاً أو قد تقنع المجتمع الدولي بمساعي طهران هذه، وهو ما سيعيد فرض حزم العقوبات ذاتها وهذا كفيل بانهيار الاتفاق، وسيكون ذلك بحال قرر ترامب البقاء فيه، وبالتالي ستتحمل طهران مسؤولية فضه، لا الإدارة الأميركية المتشددة إزاءها، ولا الشركاء الأوروبيون الذين سيدفعون ثمناً خسارة الثمار الاقتصادية في حال انسحاب ترامب من الاتفاق. كما أتاح الاتفاق النووي فرصة لتستعيد طهران أموال عائداتها النفطية المجمدة في مصارف الخارج، والتي لم تستطع الوصول إليها خلال سنوات الحظر، ورفع العقوبات عن كيانات وشخصيات إيرانية، لكنه أبقى على العقوبات التسليحية، وهو ما يمنع إيران من بيع أو استيراد أي معدات غير دفاعية، على أن يلغى هذا القرار بالذات بعد خمس سنوات من عمر الاتفاق. وإضافة إلى ذلك، يمنع نص الاتفاق طهران من الحصول على صواريخ باليستية من الخارج في حال وصل سنّ الاتفاق لثمانية أعوام. كل هذا أصبح بعيد المنال، خصوصاً أن ملف المنظومة التسليحية والباليستية هو ما يهدد استمراريته.
وألغى الاتفاق الحظر عن الطيران المدني، وسمح لإيران بعقد صفقات لشراء طائرات جديدة، وهو ما لم يطبق كذلك بشكله الأمثل، إذ وقعت طهران صفقة رسمية مع شركة "إيرباص" الفرنسية لم تطبق بكاملها حتى اليوم ولم تتسلم كل طائراتها البالغ عددها 114. أما "بوينغ" الأميركية، فهي تحتاج لتراخيص من وزارة الخزانة الأميركية، ولم تسلم إيران ما اتفقت عليه معها. وفي حال خروج ترامب من الاتفاق النووي سيصبح عقد "بوينغ" في مهب الريح، وهو ما سيحصل مع "إيرباص" الفرنسية تلقائياً، إذ لن تكون طهران قادرة على تسديد الدفعات المالية كذلك، لخلل الاتصال بالنظام المالي وللضغوط التي قد تتسبب بها واشنطن ولمخاوف باريس من خرق الحظر. وقد أشار رئيس لجنة الأمن القومي البرلمانية، علاء الدين بروجردي، في وقت سابق إلى هذه النقطة، فأكد أن مكتب مراقبة الموجودات الأجنبية التابع لوزارة الخزانة الأميركية لم يوافق على بيع طائرات "إيرباص" أو "بوينغ" لطهران، وهو ما أخر عملية التسليم، متهماً واشنطن بوضع العراقيل أمام العلاقات المصرفية بين إيران والآخرين. وعلى سبيل المثال، وقبيل التوصل للاتفاق النووي، اعترض نواب في البرلمان البريطاني ومعهم وزراء سابقون ورجال أعمال تربطهم مصالح تجارية مع طهران على تصرفات واشنطن، كونها تمنعهم من المتاجرة بشكل مشروع مع إيران، على حد وصفهم، فأميركا كانت تعاقب الشركات العالمية والبنوك التي توقع صفقات مع إيران وتطبقها عملياً، وهو ما يعني أن خروج أميركا من الاتفاق سيؤدي للمسألة ذاتها وسيصبح بلا فائدة تذكر أساساً، حتى لو ظلت طهران فيه مع من تبقى من أطراف. أما ألمانيا فحاولت، خلال السنوات الماضية، أن تعتمد في تجارتها مع طهران على التبادل عبر بنوك محلية لا ترتبط بالسوق الأميركية، ومع ذلك فإن العراقيل ستصبح أصعب أمام الصفقات الكبرى، خصوصاً تلك التي تشمل قطاع النفط والطاقة. والمسؤولون في إيران يعلمون أن العلاقات المصرفية ظلت تتعرض لضغوط أميركية حتى بعد توقيع الاتفاق، ولطالما اعترضوا على فرض المزيد من العقوبات المرتبطة ببرنامجها الصاروخي، أو اتهامها بدعم الإرهاب وحتى بانتهاك حقوق الإنسان.
حجم العقوبات الأميركية وحدها على طهران كبير، وكثير منها لا يرتبط بالنووي، لكن الاتفاق أتاح الفرصة لتخفيف القيود الاقتصادية مؤقتاً. وعقب اقتحام السفارة الأميركية في طهران وأخذ من فيها كرهائن، تم فرض عقوبات منع بموجبها دخول الصادرات الإيرانية، ومنها السجاد، للولايات المتحدة الأميركية، ومن ثم أقرت واشنطن في التسعينيات قانون "داماتو"، الذي يمنع الشركات الأميركية من الاستثمار في قطاعي النفط والغاز في إيران أو الاستثمار بأكثر من 20 مليون دولار في العام. وبالتزامن مع تصاعد أزمة الملف النووي في العام 2007، فرضت واشنطن حظراً على مصارف إيرانية وعلى الحرس الثوري، وتكرر الأمر في 2010 مع تركيز أكبر على قطاع الطاقة، وكلها قرارات تحظر الوصول للنظام المالي الأميركي. كما بدأت واشنطن بمعاقبة أطراف ثانية تتعامل مع إيران، مثل فنزويلا والصين، لإيصال رسالة ترهيب من تبعات التعامل مع طهران، وهو ما يعني أن الاتفاق إما أن يستمر بكل أطرافه أو يزول.