الاتجار بالبشر... الاتحاد الأوروبي ليس بريئاً

08 ديسمبر 2017
في إحدى محطات هجرتهم (دايفيد راموس/ Getty)
+ الخط -

كارثة إنسانية تكشّفت تفاصيلها أخيراً، وإن لم تكن مستجدّة. في ليبيا، بشر يباعون ويُشترون في أسواق للعبيد. استرقاق في القرن الواحد والعشرين، يأتي تحت أنظار الاتحاد الأوروبي بحسب ما يؤكّد خبراء

"كثّفت دول الاتحاد الأوروبي مراقبتها لحدودها البحرية من جهة، في حين أنّها باعت أنظمة مراقبة لحرس السواحل الليبي من جهة أخرى وعادت لممارسة السياسة نفسها التي كانت تنتهجها في عهد (الزعيم الليبي الراحل) معمّر القذافي لوقف الهجرة من خلال تعاون وثيق امتدّ على عشرين عاماً. واليوم، يأتي التعاون مع عدد من الميلشيات". هذا ما خلص إليه كبير الباحثين الذين وضعوا "دراسة سياسات اللاجئين والحدود العالمية" في جامعة ألبورغ الدنماركية، مارتن ليمبورغ، في حديثه إلى هيئة الإذاعة الوطنية الدنماركية "دي آر".

وفي تحقيق مشترك أعدّته "دي آر" ومحطة التلفزيون الألماني "زد دي إف" حول "التعامل غير الإنساني من قبل تجّار ومهرّبي البشر" عبر المتوسط، كانت خلاصة شبيهة تحمّل "الاتحاد الأوروبي مسؤولية ما آل إليه واقع اللاجئين في ليبيا وخيانتهم من قبل دوله". وقد بثّ التحقيق قبل أسبوع، مساء الاثنين 27 نوفمبر/ تشرين الثاني المنصرم.

ويذهب باحثون في سياسة الهجرة الأوروبية إلى تحميل الاتحاد مسؤولية كبيرة "إذ لا يمكن شرح هذا التطوّر المأساوي في عودة نظام الهجرة الليبي إلى سابق عهده، من دون التطرّق إلى دعم الاتحاد له ومسؤولياته خلال عشرين عاماً بدعم نظام قمعي واليوم مليشيات تستخدم العنف الوحشي والعنصرية بحقّ المهاجرين. لقد سمع هؤلاء بالتأكيد (قبل أن تنفضح الأمور) بتقارير متخصصة عن إساءة استخدام دعم نظام الهجرة الليبي"، بحسب ما يوضح ليمبورغ وعدد من زملائه الذين تناولوا مآسي الهجرة واستغلال نظام الدعم الأوروبي للأنظمة في جنوب المتوسط لوقف التدفق، خصوصاً في المرحلة التالية لعام 2015، بحسب ما تبيّنه الأرقام الرسمية من انخفاض نسبي في أعداد هؤلاء المهاجرين بحراً.

تظاهرة في فرنسا تنديداً بأسواق العبيد في ليبيا (آن كريستين بوجولا/ فرانس برس)


تحت أنظار الأوروبيين

يبدو أنّ الكشف عن مآسي عودة العبودية والاتجار بالبشر بين عصابات التهريب (بعضها على تعاون وثيق مع مليشيات محلية) ليس بأمر جديد إذ ما تتبّعنا سياسات الاتحاد الأوروبي في هذا المجال. وكانت منظمة العفو الدولية قد لفتت انتباه الاتحاد الأوروبي في يوليو/ تموز الماضي إلى أنّ "استراتيجيته في ليبيا تجعل حياة مهاجري القوارب أكثر خطورة". وأشارت صراحة إلى استناد هذه الاستراتيجية إلى "اعتبار حرس الشواطئ الليبيين أداة مهمة لمكافحة الهجرة، والاتحاد يقدّم في هذا المجال دعمه الكبير". وأوضحت المنظمة في تقريرها المخصص لمعاناة اللاجئين المحتجزين في ليبيا، أنّ "خفر السواحل الليبي أبعد ما يكون عن إنجاز مهمات بحث وإنقاذ. هذا أوّلاً. أمّا ثانياً، فإنّ الذين يجري إنقاذهم من مهاجرين إلى البرّ الليبي يتعرّضون إلى انتهاكات وتجاوزات خطيرة. لذا على الاتحاد الأوروبي الاعتراف بهذه الحقائق في تعاونه مع الجهات الليبية والتصميم على وقف الخرق الذي يطال حقوق الإنسان والانتهاكات التي يتعرّض إليها المهاجرون".

ولفتت منظمة العفو الدولية إلى أنّ ذلك يأتي إلى جانب تقارير تحدّثت عن "قيام خفر السواحل بإطلاق النار على قوارب المهاجرين بدلاً من إنقاذهم، إلى جانب التعرّض لقوارب الإنقاذ التابعة لمنظمات غير حكومية، وهو ما يخلق شكوكاً حول دعم الاتحاد الأوروبي خفر السواحل". تجدر الإشارة إلى أنّ منظمة العفو الدولية لم تكن وحيدة في هذا السياق، إذ ذهبت كذلك منظمة أطباء بلا حدود ومنظمات حقوقية أوروبية أخرى إلى جانب سياسيين من اليسار واليسار الوسط، إلى التحذير من "السياسات التي ينتهجها الاتحاد الأوروبي في البحر المتوسط".

في سياق الدعم الكامل وغير المشروط لمنع الهجرة غير الشرعية، حذّرت جهات حقوقية عدّة وكذلك عدداً من مراقبي أوضاع ليبيا منذ أشهر، والبعض يستند إلى تقارير ميدانية، إلى أنّ استراتيجية الاتحاد "تؤدّي إلى منح المليشيات فرصة للظهور كجزء من بنية الدولة القانونية، الأمر الذي يخلق أرضية خصبة لنشوب واستمرار الصراعات التي يدفع ثمنها المهاجرون واللاجئون".

ومع غرق عشرات الآلاف خلال السنوات الماضية، كانت الأصوات المنتقدة لسياسة الاتحاد الأوروبي في مجال الهجرة تطالب مراراً وتكراراً، في عدد من دوله، بأن "تفتح دول الاتحاد طرقات آمنة إلى أوروبا لمنح عشرات آلاف العالقين ممن تقطّعت بهم السبل في ليبيا فرصة لدراسة أوضاعهم ومنحهم حماية إنسانية".


وفي سياق ما يدعو إليه اليمين ويمين الوسط، وبعضه حاكم، في دول أوروبية إلى "مساعدة المهاجرين في المناطق القريبة"، يبدو "الفشل واضحاً حين تكون النتيجة كما نرى بمنح دعم لمليشيات تتعامل مع عصابات تهريب المهاجرين وبيعهم"، وفقاً لما يقول الباحث اليساري في قضايا المهاجرين في كوبنهاغن، جون أوسترغورد، لـ"العربي الجديد". وهو أمر يؤكّده كذلك عضو قيادة حزب اليسار هانس يورغن إذ يقول لـ"العربي الجديد" إنّ ذلك "فضيحة للاتحاد الأوروبي وليس فقط للمتاجرين بالبشر".

ويتحدّث أوسترغورد عن "تجاهل دول الاتحاد الأوروبي لتقارير رزينة ولشهادات مهاجرين ولاجئين وصلوا إلى الجزر الإيطالية، تحكي عن فظائع البيع والشراء. وبالمناسبة، الأمر قائم منذ عام 2014 ويعرف به الاتحاد الأوروبي من دون أن يأتي بأيّ خطوة جدية".

وعن الشهادات والتقارير التي "وُضعت على طاولة صناع القرار"، يتحدّث برلمانيون في كوبنهاغن على تماس مباشر مع سياسة الاتحاد الأوروبي لمكافحة تهريب البشر (وقد تحفّظوا عن ذكر أسمائهم في التقرير)، عن أنّه "قبل أن تكشف قنوات ومجلات عن هذه المأساة (الاتجار بالبشر) كانت التقارير واضحة عن الاستغلال الرهيب الذي عاشه هؤلاء على الأراضي الليبية. بعضهم، ولسوء حظه مع مهرّبين ونفاد ماله، وجد نفسه منذ فترة طويلة - ومنهم نساء عُرضت شهادتهنّ في تقرير رسمي - عرضة للبيع لعصابات أخرى للاستعباد في أعمال معيّنة بحجّة توفير المال لقاء رحلة تهريب جديدة". يضيفون أنّ "هذا النوع من الممارسة يجري بحماية ميلشيات يصلها بشكل مباشر وغير مباشر دعم من دول أعضاء في الاتحاد الأوروبي".

وفي سياق التحقيق المشترك الذي أعدّته هيئة الإذاعة الوطنية الدنماركية "دي آر" ومحطة التلفزيون الألماني "زد دي إف" المذكور آنفاً، يظهر زعيم شبكة تهريب ويتحدّث علانية عن "شراء الشخص الواحد لقاء مبلغ يتراوح ما بين 1000 و1500 دينار (ما بين 735 و1100 دولار أميركي) لنبيعه لاحقاً بسعر جيّد إلى شبكة تهريب أخرى". ويظهر بطريقة صادمة كيف أنّ هذه العصابة "تسيطر على مجمّع مبانٍ تدير فيها شبكات دعارة تجبر في غرفها النساء المحتجزات على عرض أنفسهنّ". ولا يخفي التقرير الذي استخدم مصوّرين محليّين، العنف الممارس في حق هؤلاء النسوة عبر ضربهنّ بالأحزمة إذا ما اعترضنَ على إجبارهنّ ممارسة الدعارة".

... وفي السويد تظاهرة أخرى (كلاوديو بريتشياني/ فرانس برس)

سياسة الاتحاد الانتهازية

في شهر فبراير/ شباط 2017 الماضي، اجتمع قادة الاتحاد الأوروبي في جزيرة مالطا. وقد بدا الاجتماع نقطة تحوّل في تبنّي سياسة مشتركة لمكافحة الهجرة بالتعاون مع ليبيا من خلال مشروع أطلق عليه "النقاط العشر"، يشمل حوافز اقتصادية ومعدّات لخفر السواحل. وهذه الخطوة انتقدتها منظمات حقوقية كثيرة حذّرت ممّا سوف تؤول إليه أوضاع هؤلاء المهاجرين في ليبيا، بينما سعى قادة الاتحاد في الخلفية إلى تطبيق ما يشبه الاتفاق التركي - الأوروبي الذي خفّض بنسبة 95 في المائة خط تركيا - اليونان البحري للجوء والهجرة.

وتعليقاً على الانتقادات اللاذعة التي وجهها مراقبون وسياسيون ومنظمات حقوقية لخطوة الاتحاد قبل تسعة أشهر، يقول أوسترغورد: "أنت تتعامل في تركيا مع مؤسسات دولة، أمّا في ليبيا فهم يعتمدون سياسة إرسال حفنة من النقود مع إعادة المهاجرين من دون اكتراث للجيوب التي تصلها تلك النقود وبيع هؤلاء المساكين عبر المليشيات التي تسيّر عصابات التهريب". ويؤكد أوسترغورد أنّ تلك السياسة "كأنها تدعم قراصنة وتدّعي أنّها تحارب القرصنة. كأنّها تقول: استعبدوا البشر بعيداً عنا!".

ويبدو أنّ سياسيين في الاتحاد الأوروبي تحدّثوا في سياق تقرير للأمم المتحدة، في ديسمبر/ كانون الأول من عام 2016، عن أنّ المهاجرين في ليبيا يتعرّضون للاستعباد "عبر إجبارهم على العمل المجاني وتهديد حياتهم بصورة دائمة مع تعريضهم لعقاب وعنف جسدي وإطلاق نار. وقد قتل بعض هؤلاء في أثناء محاولته الفرار، أو حين لم يعد قادراً جسدياً على تنفيذ العمل الشاق المطلوب منه".

وبالعودة إلى تصريحات الاتحاد الأوروبي، في فبراير/ شباط الماضي، "يبدو واضحاً أنّ أعلى المستويات كانت على علم بالاستراتيجية الجديدة وما سوف ينتج عنها من مآسٍ". وتجدر الإشارة هنا إلى تصريح واضح لرئيس الاتحاد الأوروبي دونالد توسك يظهر فيه "تفاؤلاً بأنّه بعد إغلاق خط شرق المتوسط (إثر الاتفاق مع تركيا) وتوقّف شبه كامل للجوء نحو اليونان، يمكن إغلاق مسار ليبيا - إيطاليا. وأؤكّد أنّ ذلك في متناول أيدينا".

ويلفت البرلمانيون في كوبنهاغن المشار إليهم آنفاً، إلى أنّ حقوقيين أوروبيين يحمّلون سياسة الاتحاد الأوروبي مسؤولية تفاقم الاتجار بالبشر، إذ إنّه "لا يغضّ الطرف عما يجري من فظائع منذ سنوات فحسب، بل في اتفاق مالطا ذهبت دول الاتحاد إلى قبول تسليم المليشيات الليبية من يجري إنقاذه واعتقاله من قوارب الناتو، الأمر الذي أدّى بالفعل إلى انتهاء بعض الأفريقيين إلى الاتجار بهم تحت عنوان إقامتهم في مخيّم خاص خارج طرابلس". يضيف هؤلاء أنّه "في صيف 2017 حاول الاتحاد الأوروبي تدارك فضيحة إعادة المهاجرين لينتهي بهم الحال لدى عصابات التهريب وفظائع في مخيمات الإعادة، تحدّثت عنها منظمة العفو الدولية وغيرها، عبر إدخال تعديلات على الاتفاق مع الليبيين لإعادتهم إلى دولة ثالثة، تونس على سبيل المثال. وذلك بعدما وصلت الفضيحة إلى حدّ الوضوح في ما يخصّ خرق مواثيق حقوق الإنسان في سياسة رسمية أوروبية". إلى ذلك، لم يأخذ الأوربيون بتحذيرات المدعي العام الإيطالي المتعلقة بأنشطة عصابات التهريب والاتجار بالبشر في ليبيا.

وعلى الرغم من كلّ ما حملته الأيام الماضية من انتقادات دولية ومحلية أوروبية لسياسة مكافحة الهجرة غير الشرعية، فإنّ باحثين كثيرين يبدون غير متفائلين بإمكانية تغيير سياسة الاتحاد في مجال غسل أيدي دوله من الجريمة ورمي المسؤولية بعيدا عنها. فيقول أوسترغورد: "لا تبدو في الأفق مراجعة حقيقية طالما أنّ الأوروبيين بصورة عامة يرون أنّ الأهم هو وقف الهجرة بغض النظر عن الأثمان المخزية".