الإنكار لا يفيد
تماماً، كما في أفلام "الأبيض والإسود"، كثيرون في هذا الوطن يحتاجون إلى أن يربت الفنان القدير حسين رياض على أكتافهم، قائلاً لهم، بشيبته الأبوية ونظراته الحانية وصوته المتهدج، "صدقني، يا إبني، الإنكار مش هيفيدك، إنت بإصرارك على الإنكار هتضيع نفسك".
يصف بعض خبراء الطب النفسي حالة الإنكار بأنها: آلية الدفاع النفسي القائمة على الرفض وعدم الامتثال التي يستخدمها الشخص، ليواجه حقيقة غير مريحة، أو واقعة مؤلمة، على الرغم من توفر أدلة دامغة تؤكدها، وهناك أشكال متعددة من الإنكار، تجعله إما أن ينكر الحقيقة كلها، أو يعترف بها، لكنه ينكر خطورتها، أو يعترف بالحقيقة وبخطورتها، لكنه ينفي مسؤوليته عنها. ومثلما تتعدد حالات الإنكار، تتعدد أنواع المصابين بها، فبعض من يصرون على ادعاء الإنكار مجرمون "قراريون"، يصعب شفاؤهم، وبعضهم مضلِّلون، وجدوا فيها خلاصاً مما هم فيه من غم مقيم، وبعضهم مرضى "غلابة"، يتسرع البعض، فيعلنونهم ميئوساً من شفائهم.
أبرز من يمكن تشخيص إصابتهم بحالة الإنكار في بلادنا هم قادة جماعة الإخوان وأنصارها، حتى إنهم، من طول ما عاشوا بها وعاشروها، طيلة فترة تحالفهم مع المجلس العسكري، ثم حكمهم للبلاد، لم يعودوا قادرين على الحياة من غيرها، ها أنت تجد قيادياً، مثل أمين عام الجماعة ـ ينكر اعتذاراً باهتاً ومراوغاً عن أخطاء الجماعة، ـ أصدره أحد وجوهها الإعلامية، ليؤكد استنكاف الجماعة عن الاعتذار عن خطاياها في حق الثورة والوطن، وإصرارها على الانتحار. ولعل ما يزيد طين حالة الإنكار الإخوانية تلزيقاً هو أن ما جرى لهم من سفك للدماء بغشومية أمنية، أعطاهم فرصة للإمعان في الهروب من مواجهة النفس، والبدء في التغيير، ولا أظن أن هناك أملاً في شفاء أنصار الإخوان من تلك الحالة، طالما ظلوا مصممين على السير خلف قياداتهم التي ظنّت أنها يمكن أن تبني حكماً راسخاً على باطل من الكذب وإخلاف الوعود و"الفكاكة" البلهاء، فلما انهار بها ذلك الباطل في شفا جرف هار، تشبثت بحالة الإنكار وواصلت السير الحثيث نحو تدمير الذات بدلاً من التقاط الأنفاس وسماع صوت العقل.
حالة الإنكار يعيشها، أيضاً، بعض الذين خرجوا إلى الشوارع منذ 28 يناير، واضعين أرواحهم على أكفهم، طلباً للحرية، وإسقاطاً لدولة الاستبداد، لكنهم، الآن، يغضون الطرف عما يجري لخصومهم السياسيين من انتهاك للحريات، فلا ترتفع أصواتهم مطالبة بالتحقيق في المذابح المتتالية، ولا تأكيداً على ضرورة محاكمة المتورطين فيها، بل إن بعضهم يتطوع لتبرير الأخطاء وتفسير الجرائم، من دون أن يُطلب منه ذلك.
حالة الإنكار يعيش فيها أيضا أنصار نظرية (افرم يا سيسي) الذين يتخيلون أنه يمكن أن تتم صناعة دولة متقدمة بسياسات متخلفة، وأنهم يمكن أن يعيدوا مصر إلى تلك العصور المظلمة التي ظن الناس فيها أن حكم الفرد أبرك وأجدى من حكم الديمقراطية المزعجة والحرية الصاخبة، فبنوا حكماً باطشاً على باطلٍ، لم يأخذ وقتاً طويلاً حتى انهار، وانهارت معه البلاد لتقوم يا عيني من حفرة الاستبداد، فتقع في دحديرة الفساد وهكذا دواليك. بعض المتنفذين من هؤلاء يظنون أنهم يستطيعون، بالإعلام الكاذب، أن يفرضوا واقعاً جديداً، خاصة بعد أن وضعوا في صدارته وجوهاً ثورية صارت تطبل وتوالس بكل براعة، كاشفة عن مؤهلات ثقافية وبلاغية لم تكن لدى مطبلي العهود البائدة، فضلاً عن موهبة مفاجئة في الانحطاط، يجعلها لا تجد غضاضة في أن توجه للقلة التي تعارض ما يجري، الآن، نفس التهم التي كانت توجه لها عندما كانت تجلس في مقاعد "الأقلية المندسة".
حالة الإنكار يعيشها، للأسف، كل مواطن "شريف"، يظن أنه يشتري أمانه ورزق عياله بالسكوت على الظلم والعقاب الجماعي، ويتخيل أن عودة الاستقرار المنشود ستكون بتسليم عقله على بياض للاستراتيجيين الذين لا يكفون عن وعده بجناتٍ، تجري من تحتها المساعدات، إذا هو واصل التفويض المجاني، بلا هوادة، وسلّم أمره لولي الأمر، وليس لصاحب الأمر، وتوقف عن التساؤل والتبين والنقد واكتفى برفع شعار (تمام يا فندم).
لست مصاباً بحالة إنكار، تجعلني أعتقد امتلاك الحقيقة المطلقة، أو أظن أنني يمكن أن أغير واقعاً، يرفض كثيرون فيه أن يغيروا ما بأنفسهم، أولاً، لكنني لا أملك إلا أن أسأل الله أن يعين مصر وشعبها على بلوغ اليوم الذي يدرك فيه معظم المصابين بحالة الإنكار أنهم لن يضعوا أقدامهم على أول طريق الخلاص، إذا استمروا في ادعاء الإنكار، فالإنكار جريمة، والجريمة لا تفيد.
(نشرت هذه السطور ضمن مقال لي بالعنوان نفسه بتاريخ 22 سبتمبر/أيلول 2013 وما زالت للأسف صالحة للنشر).