ربما تكون الأزمة التي يمر بها فن الإنشاد الديني المصري أعمق وأظهر من تلك الأزمة التي يعيشها فن تلاوة القرآن، فأحكام التجويد التي لا يمكن للقارئ أن يتجاوزها استبقت قدراً، ولو ضئيلاً، من الالتزام بالنمط الموروث عن كبار القراء المصريين. وإذا كانت ذاكرة المستمعين تحفظ أسماء القائمة الذهبية لأعلام المنشدين في القرن الماضي، فإن تلك الذاكرة لا تكاد تعرف اليوم أحداً يسير على خطى الأسلاف الكبار، أو يتعامل مع هذا الفن باعتباره تراثاً نفيساً له معالم جديرة بالحفص والصون، لا بالإهمال والتضييع.
في العقود الأولى للقرن العشرين، كان مجرد الالتحاق بجوقة المنشد "البطانة" يستلزم حداً أدنى من الحفظ والدراية وجودة الصوت والأداء. كانت هذه هي الشروط الأولية للانضمام إلى بطانة أحد المنشدين المتوسطين أو المغمورين في قرى الدلتا أو أحياء القاهرة. وكلما اتسعت شهرة المنشد، وعلت مكانته بين أهل الفن، ازدادت الشروط صعوبة، وعملت قيم الفرز عملها، وارتفع المستوى المطلوب من الفرد المقترح ليكون عضواً في بطانة المنشد. وفي المتواتر من حديث الفن، يذكر المؤرخون بطانة الشيخ علي محمود، التي مرّ عليها أعلام اشتهروا وارتفعوا. وفي المتداول من تسجيلات الإنشاد تتبدّى بطانة الشيخ طه الفشني، وكأن أعضاءها بنيان مرصوص يشدّ بعضه بعضاً. كما نتذكر بطانات أخرى، ربما لم تكن بالمستوى المذهل لبطانتي علي محمود وطه الفشني، لكنها ظلت قوية جميلة متماسكة، يحفظ أعضاؤها اللحن بدقة ويؤدونه بتمكن بالغ. ومنها: بطانات الشيخ كامل يوسف البهتيمي، ومحمد الفيومي، وعبد السميع بيومي، ومحمد الطوخي. فإذا عدنا من هذا الماضي إلى حقائق يومنا، اكتشفنا أن أكثر المنشدين المطروحين على الساحة الفنية غير مؤهلين لأن يكونوا ضمن بطانة قوية لمنشد من القدماء. وهو أمر يضع أيدينا على مدى الهوة التي انحدر إليها هذا الفن، بعد أن بقي عقوداً طويلة مشرقاً مزدهراً، بل ومصدراً من مصادر الإلهام الموسيقي والغنائي، والتدريب على فنون الطرب المتين.
وفي السنوات القليلة الماضية ظهرت عدة فرق جديدة للإنشاد، ولاقت حفاوة جماهيرية كبيرة، تمثلت في الأعداد الغفيرة من الشباب الذين يحرصون على حضور حفلات هذه الفرق، وأيضاً في درجة التجاوب مع ما يقدمه المنشدون الجدد من أعمال. لكن المؤكد أن هذه الفرق لم تكن لتحصد هذا النجاح الجماهيري، إلا في ظل التراجع الكبير لمدرسة الإنشاد الديني المصرية العريقة، واختفاء الأصوات العبقرية والمواهب الفذة التي شكلت العمد الرئيسة للإنشاد المصري لنحو قرن كامل.
مع دخول عام 2011 واشتعال الأحداث في سورية، انتقلت عدة فرق من هناك إلى القاهرة، وبدا أنها تقدم لوناً جديداً من الإنشاد الذي تغلب عليه الإيقاعات النشطة، ويتجاوب معه الجمهور بالتصفيق والتمايل. اختارت هذه الفرق نصوصاً ذات كلمات سهلة، وألحاناً خفيفة للغاية، وحرصت على أن يكون جزء كبير مما تقدمه صالحاً لتردده الجماهير مع الفرقة، وأعادت تلحين عدد من الموشحات القديمة لتصبح سهلة الأداء، وتلائم الأصوات الضعيفة التي تغلب على الساحة حالياً. وعرف المصريون المهتمون بالإنشاد عدة فرق سورية، منها "المرعشلي"، وتشتهر أيضاً باسم "فرقة الرضوان"، وهي من أهم الفرق التي حققت نجاحاً كبيراً في مصر، أسسها عبد القادر المرعشلي في دمشق عام 1982. وحرصت على تقديم أعمال مصرية بجانب ما تقدمه من التراث السوري، فاختارت أغاني دينية مشهورة، مثل "عليك صلاة الله وسلامه" لأسمهان، أو "القلب يعشق كل جميل" لأم كلثوم، أو "لأجل النبي" لمحمد الكحلاوي. كما تقدم بعض الأعمال المعروفة للمنشدين المصريين من أمثال الشيخ طه الفشني وسيد النقشبندي ونصر الدين طوبار.
اقــرأ أيضاً
وكذلك فرقة "أبو شعر"، وتأسست في سورية عام 1983، وتتكون من عشرة أعضاء، منهم 6 إخوة، وتقدم ألواناً مختلطة من الإنشاد السوري البسيط، وبعض الأغاني الدينية المصرية. وقدمت أعمالها على عدد من المسارح في القاهرة.
وقد شجع النجاح الجماهيري الذي حظيت به الفرق السورية على ظهور فرق مصرية مماثلة، من أشهرها فرقة "الحضرة"، التي أنشئت عام 2015، على يد الشاب نور ناجح، وتتكون من أحد عشر عضواً، أكثرهم ينتمون إلى طرق صوفية مختلفة. وبالرغم من أن الفرقة مصرية، إلا أنها سارت على خطى الفرق السورية، في طريقة أدائها، واختيار أناشيدها. وحققت الفرقة نجاحاً كبيراً، لا سيما في حفلاتها التي تقدمها بمركز الربع في شارع المعز. تحرص الفرقة على إنشاد قصائد أعلام التصوف، كما تنشد أيضاً كلمات بالعامية، تلقى تجاوباً كبيراً من الجمهور، لا سيما الأعمال التي تتضمن مديح آل البيت في مصر، مثل "مدد يا سيدة" و"هنا الحسين".. ولعل "الحضرة" تتميز حتى الآن بالاقتصار على آلات موسيقية شرقية، وتتجنب استخدام آلات الإيقاع الكهربائية التي تستخدمها الفرق السورية في مصر. أحيت الفرقة حفلات عديدة على مسارح القاهرة، ومنها المسرح المكشوف بدار الأوبرا، وساقية الصاوي، ومركز الربع.. كما أحيت حفلات على مسرح سيد درويش بالإسكندرية، وأوبرا دمنهور.
تفتقد هذه الفرق جميعاً إلى الأداء المشيخي التجويدي، وإلى الألحان القوية المتماسكة التي تحمل سمات هذا الفن، ويؤدي أفرادها أناشيدهم بنفس طريقة الغناء الحديث، فلا تكاد تسمع منهم توشيحاً دينياً على أصوله، من ذلك الطراز الفخم الصعب، الذي عرفناه عبر أصوات أعلام كبار، على رأسهم الشيخ علي محمود، وطه الفشني، ومحمد الفيومي، وإبراهيم الفران، ومحرز سليمان، وعبد السميع بيومي، وكامل يوسف البهتيمي وسيد النقشبندي.
وبينما تتميز المدرسة الإنشادية المصرية بالأداء التجويدي، والبطانة القوية المتماسكة، والثراء النغمي مقامياً وإيقاعياً، تقدم هذه الفرق ألواناً من الإنشاد السهل، المفتقر لأي شكل من أشكال التعقيد النغمي أو الأدائي، بهدف التجاوب الجماهيري، بعد أن أصبح ترديد الحضور مع المنشد من دلائل النجاح والتفوق. صحيح أن ما تقدمه هذه الفرق هو في الأخير لون من ألوان الإنشاد، لكن الإشكال يكمن في سيطرة هذا اللون السطحي الفقير وسيادته، لا سيما بين الأجيال الجديدة، مقطوعة الصلة بالتراث الغني الكبير الذي امتلكته مصر في هذا الميدان.. لذلك نجد بين جمهور هذه الفرق حالة من الانبهار الشديد بأي حركة نغمية، أو أي صعود صوتي إلى درجات أعلى، حيث المقاطعة بالتصفيق وكلمات الإشادة والاستحسان. وكان البعد التجاري حاضراً ليفاقم الأزمة، فالفرق السورية التي جاءت إلى مصر جعلت مزاج الجمهور بوصلة لأعمالها وطرائقها، وخالف منشدوها أصول الإنشاد الحلبي الممتاز، فلم يكن لهم دور في تعريف الجماهير المصرية بألوان مهمة جداً من الإنشاد لأعلام هذا الفن في حلب وحمص ودمشق. ويمكن القول إن هذه الفرق تمددت في فراغ كبير، وساحة خلت من الفرسان، وبالطبع، لا يمكن ولا يعقل أن نطالب المنشدين الجدد بأن يملأوا مكاناً تركه الفشني أو الفيومي أو حتى نصر الدين طوبار ومحمد عمران.. فلا خبراتهم النغمية ولا طاقاتهم الصوتية تسمح بذلك.
لكن النجاح الجماهيري الذي حققته الفرق الجديدة يفرض علينا أن نطالبها بأن تجعل في إنشادها مساحة للأداء الأصلي القديم، والحفاظ على ألحان الموشحات كما هي دون تغيير في مقاماتها أو إيقاعاتها، وأن تبذل مزيدا من الجهد والتدريب لتقترب من طرائق الأداء الراقي وفق الأصول العريقة لهذه المدرسة الكبرى، التي يمثلها "يا نسيم الصبا تحمل سلامي" لعلي محمود.. أو "يا أيها المختار" لطه الفشني، أو "أمدح المكمل" لمحمد الفيومي، أو "شهدت على الربا زهرا نديا" لكامل البهتيمي.. لا تلك الأغاني الخفيفة، من نوع "قمر".. و"سيدنا النبي يا جماله".. أو تبديل كلمات أغنية الريس متقال "يا حلوة يا شايلة البلاص" لتصبح "بص على أنوار نبينا".
وفي السنوات القليلة الماضية ظهرت عدة فرق جديدة للإنشاد، ولاقت حفاوة جماهيرية كبيرة، تمثلت في الأعداد الغفيرة من الشباب الذين يحرصون على حضور حفلات هذه الفرق، وأيضاً في درجة التجاوب مع ما يقدمه المنشدون الجدد من أعمال. لكن المؤكد أن هذه الفرق لم تكن لتحصد هذا النجاح الجماهيري، إلا في ظل التراجع الكبير لمدرسة الإنشاد الديني المصرية العريقة، واختفاء الأصوات العبقرية والمواهب الفذة التي شكلت العمد الرئيسة للإنشاد المصري لنحو قرن كامل.
مع دخول عام 2011 واشتعال الأحداث في سورية، انتقلت عدة فرق من هناك إلى القاهرة، وبدا أنها تقدم لوناً جديداً من الإنشاد الذي تغلب عليه الإيقاعات النشطة، ويتجاوب معه الجمهور بالتصفيق والتمايل. اختارت هذه الفرق نصوصاً ذات كلمات سهلة، وألحاناً خفيفة للغاية، وحرصت على أن يكون جزء كبير مما تقدمه صالحاً لتردده الجماهير مع الفرقة، وأعادت تلحين عدد من الموشحات القديمة لتصبح سهلة الأداء، وتلائم الأصوات الضعيفة التي تغلب على الساحة حالياً. وعرف المصريون المهتمون بالإنشاد عدة فرق سورية، منها "المرعشلي"، وتشتهر أيضاً باسم "فرقة الرضوان"، وهي من أهم الفرق التي حققت نجاحاً كبيراً في مصر، أسسها عبد القادر المرعشلي في دمشق عام 1982. وحرصت على تقديم أعمال مصرية بجانب ما تقدمه من التراث السوري، فاختارت أغاني دينية مشهورة، مثل "عليك صلاة الله وسلامه" لأسمهان، أو "القلب يعشق كل جميل" لأم كلثوم، أو "لأجل النبي" لمحمد الكحلاوي. كما تقدم بعض الأعمال المعروفة للمنشدين المصريين من أمثال الشيخ طه الفشني وسيد النقشبندي ونصر الدين طوبار.
وكذلك فرقة "أبو شعر"، وتأسست في سورية عام 1983، وتتكون من عشرة أعضاء، منهم 6 إخوة، وتقدم ألواناً مختلطة من الإنشاد السوري البسيط، وبعض الأغاني الدينية المصرية. وقدمت أعمالها على عدد من المسارح في القاهرة.
وقد شجع النجاح الجماهيري الذي حظيت به الفرق السورية على ظهور فرق مصرية مماثلة، من أشهرها فرقة "الحضرة"، التي أنشئت عام 2015، على يد الشاب نور ناجح، وتتكون من أحد عشر عضواً، أكثرهم ينتمون إلى طرق صوفية مختلفة. وبالرغم من أن الفرقة مصرية، إلا أنها سارت على خطى الفرق السورية، في طريقة أدائها، واختيار أناشيدها. وحققت الفرقة نجاحاً كبيراً، لا سيما في حفلاتها التي تقدمها بمركز الربع في شارع المعز. تحرص الفرقة على إنشاد قصائد أعلام التصوف، كما تنشد أيضاً كلمات بالعامية، تلقى تجاوباً كبيراً من الجمهور، لا سيما الأعمال التي تتضمن مديح آل البيت في مصر، مثل "مدد يا سيدة" و"هنا الحسين".. ولعل "الحضرة" تتميز حتى الآن بالاقتصار على آلات موسيقية شرقية، وتتجنب استخدام آلات الإيقاع الكهربائية التي تستخدمها الفرق السورية في مصر. أحيت الفرقة حفلات عديدة على مسارح القاهرة، ومنها المسرح المكشوف بدار الأوبرا، وساقية الصاوي، ومركز الربع.. كما أحيت حفلات على مسرح سيد درويش بالإسكندرية، وأوبرا دمنهور.
تفتقد هذه الفرق جميعاً إلى الأداء المشيخي التجويدي، وإلى الألحان القوية المتماسكة التي تحمل سمات هذا الفن، ويؤدي أفرادها أناشيدهم بنفس طريقة الغناء الحديث، فلا تكاد تسمع منهم توشيحاً دينياً على أصوله، من ذلك الطراز الفخم الصعب، الذي عرفناه عبر أصوات أعلام كبار، على رأسهم الشيخ علي محمود، وطه الفشني، ومحمد الفيومي، وإبراهيم الفران، ومحرز سليمان، وعبد السميع بيومي، وكامل يوسف البهتيمي وسيد النقشبندي.
وبينما تتميز المدرسة الإنشادية المصرية بالأداء التجويدي، والبطانة القوية المتماسكة، والثراء النغمي مقامياً وإيقاعياً، تقدم هذه الفرق ألواناً من الإنشاد السهل، المفتقر لأي شكل من أشكال التعقيد النغمي أو الأدائي، بهدف التجاوب الجماهيري، بعد أن أصبح ترديد الحضور مع المنشد من دلائل النجاح والتفوق. صحيح أن ما تقدمه هذه الفرق هو في الأخير لون من ألوان الإنشاد، لكن الإشكال يكمن في سيطرة هذا اللون السطحي الفقير وسيادته، لا سيما بين الأجيال الجديدة، مقطوعة الصلة بالتراث الغني الكبير الذي امتلكته مصر في هذا الميدان.. لذلك نجد بين جمهور هذه الفرق حالة من الانبهار الشديد بأي حركة نغمية، أو أي صعود صوتي إلى درجات أعلى، حيث المقاطعة بالتصفيق وكلمات الإشادة والاستحسان. وكان البعد التجاري حاضراً ليفاقم الأزمة، فالفرق السورية التي جاءت إلى مصر جعلت مزاج الجمهور بوصلة لأعمالها وطرائقها، وخالف منشدوها أصول الإنشاد الحلبي الممتاز، فلم يكن لهم دور في تعريف الجماهير المصرية بألوان مهمة جداً من الإنشاد لأعلام هذا الفن في حلب وحمص ودمشق. ويمكن القول إن هذه الفرق تمددت في فراغ كبير، وساحة خلت من الفرسان، وبالطبع، لا يمكن ولا يعقل أن نطالب المنشدين الجدد بأن يملأوا مكاناً تركه الفشني أو الفيومي أو حتى نصر الدين طوبار ومحمد عمران.. فلا خبراتهم النغمية ولا طاقاتهم الصوتية تسمح بذلك.
لكن النجاح الجماهيري الذي حققته الفرق الجديدة يفرض علينا أن نطالبها بأن تجعل في إنشادها مساحة للأداء الأصلي القديم، والحفاظ على ألحان الموشحات كما هي دون تغيير في مقاماتها أو إيقاعاتها، وأن تبذل مزيدا من الجهد والتدريب لتقترب من طرائق الأداء الراقي وفق الأصول العريقة لهذه المدرسة الكبرى، التي يمثلها "يا نسيم الصبا تحمل سلامي" لعلي محمود.. أو "يا أيها المختار" لطه الفشني، أو "أمدح المكمل" لمحمد الفيومي، أو "شهدت على الربا زهرا نديا" لكامل البهتيمي.. لا تلك الأغاني الخفيفة، من نوع "قمر".. و"سيدنا النبي يا جماله".. أو تبديل كلمات أغنية الريس متقال "يا حلوة يا شايلة البلاص" لتصبح "بص على أنوار نبينا".