يوم الجمعة الماضي، أعلنت وزارة التجارة الأميركية أن الاقتصاد الأميركي، معبراً عنه بالناتج المحلي الإجمالي، نما بمعدل سنوي 4.1% خلال الربع الثاني من العام الحالي 2018، ممهداً الطريق لمعدل النمو هذا العام ليكون الأفضل خلال العقد الأخير، فعلق ترامب الزينات على موقع تويتر، وغرد معرباً عن سعادته بأرقامٍ يراها فاقت ما حققه أي رئيس أميركي من قبل.
وقد يكون ترامب مبالغاً بعض الشيء في رؤيته لما تحقق، إلا أن الأرقام تشير إلى أن هناك بعض الإنجازات بالفعل، حيث انخفض معدل البطالة إلى 4%، وهو أقل مستوى له منذ ثمانية عشر عاماً، كما أنه من أقل المستويات التي تحققت خلال الخمسين عاماً الأخيرة.
ولم ينخفض معدل البطالة في الولايات المتحدة عن هذا المستوى إلا في فترات استثنائية، مثلما حدث وقت فقاعة الانترنت في بداية الألفية الثالثة، وفي أعقاب الحرب العالمية الثانية وحرب فيتنام.
كما ارتفعت معدلات التوظيف إلى أعلى معدلاتها، بخاصة توظيف الأميركيين من أصول أفريقية أو لاتينية، وبلغت معدلات التوظيف في المصانع الأميركية أعلى معدلاتها في عقدين.
أضف إلى ذلك أن فترة حكم الرئيس السابق باراك أوباما، والتي امتدت لثماني سنوات (32 ربع سنة)، لم يتجاوز معدل النمو خلالها 4% إلا في 4 منها فقط، بينما يسجل ترامب هذا المعدل المرتفع في الربع السادس له في البيت الأبيض.
ولو اقتصرت إنجازات إدارة ترامب الاقتصادية على معدلات البطالة والتوظيف والنمو لَكَفَت، حيث إن منح المواطنين الفرصة للعمل والتكسب، مع زيادة ما تنتجه الدولة هو غاية المراد من الحكومات، لكن الأرقام تشير أيضاً إلى العديد من الإنجازات الأخرى، مثل تقليل العجز التجاري، وزيادة الصادرات الأميركية، وارتفاع قيمة الدولار الأميركي، بالإضافة إلى مكاسب ضخمة تحققت في سوق الأسهم خلال العامين الماضيين، ودفعت بأسعار العديد من الأسهم، كما المؤشرات إلى أعلى مستويات لها على الإطلاق.
وبالطبع اعتبر ترامب أن كل هذه الأرقام الجيدة هي نتيجة مباشرة لسياساته، بخاصة ما يتعلق بالإعفاءات الضريبية، وزيادة الإنفاق الحكومي وأيضاً فرض التعريفات الجمركية على واردات بلاده من عدة دول، على رأسها الصين والاتحاد الأوروبي وكندا والمكسيك.
وعلى الرغم من الإنجازات الظاهرة التي يراها أنصار ترامب تصب في مصلحة المواطن الأميركي، فمن الواضح أن البعض لا يرى نصف الكوب الممتلئ الذي يراه ترامب، حيث اعتبر بعض المحللين أن معدل نمو الناتج المحلي الإجمالي للربع الثاني الذي ظهر يوم الجمعة الماضي، والذي كان قريباً من ضعف ما تحقق في الربع الأول، جاء أقل من التوقعات.
كما رجح مكتب الموازنة التابع للكونغرس الأميركي، وبنك الاحتياط الفيدرالي، عدم استمرار معدل النمو عند هذا المستوى المرتفع في السنوات القليلة القادمة، إذ اعتبرا أن ما تحقق في الربع الثاني كان في أغلبه بفعل عوامل لن تتكرر مرة أخرى على المدى القريب، مثل قانون الإصلاح الضريبي وزيادة الإنفاق الحكومي، بالإضافة إلى تأثير زيادة استيراد المنتجات الأميركية خلال الربع الثاني بصورة استثنائية، بعد أن عجلت بعض الدول من شرائها المنتجات الأميركية، قبل أن يتم تطبيق تعريفات جمركية انتقامية عليها.
لم يبع ترامب أراضيَ أميركية ويهدر حصيلتها، ولم يقفز رقم الدين الخارجي لبلاده إلى ضعف ما كان عليه قبل توليه، كما أنه يسمح لإدارته بالإعلان عن الديون الأميركية لحظة بلحظة، ولم يحصل على ودائع بمليارات الدولارات ويضيعها على مشروعات "الهدف منها جمع المواطنين حول مشروع قومي"، ولم يستخدم احتياطي النقد الأجنبي القليل في بلاده لكسب شرعية، من خلال صفقات سلاح مع دول كبرى، ورغم كل ذلك لم يبتلع الأميركيون إنجازاته دون أن يعربوا عن قلقهم من عدم استمراريتها أو من كونها كانت نتيجة قرارات لن تتكرر في السنوات القليلة القادمة!
لم يأمر ترامب بزيادة مرتبات فئات معينة في الدولة دون أخرى، ولم يضطر لشراء دعم الجيش والشرطة والقضاء والوزراء بمنحهم أية امتيازات استثنائية، ولم يطلب من شعبه التقشف وتحمل ظروف غلاء المعيشة الصعبة، وتدني مستوى الخدمات الصحية والتعليمية، بينما يشيد هو ورفاقه مقرات جديدة لهم في مختلف ربوع البلاد، ولم يسخر من شعبه الذي يعاني من ارتفاع أسعار الوقود في أي من مؤتمراته، كونه يعلم مدى حساسية تلك النقطة ومدى تأثيرها في مستوى معيشتهم.
ورغم كل ذلك، فقد اتهمه البعض بالاهتمام بالأغنياء على حساب الفقراء، وبأن قانونه للإصلاح الضريبي قد أفاد الشركات الكبرى أكثر مما أفاد الطبقات الأقل دخلاً، وأنه يعمل من أجل مصلحة الفئة التي ينتمي إليها، دون مراعاة المصلحة العامة للولايات المتحدة!
ما يحدث مع ترامب ليس ترصداً، ولا تصيداً للأخطاء، لكنه الأمر الطبيعي الذي ينبغي أن يسود في كل دول العالم التي تحترم شعوبها.
فالأرقام لا تؤخذ دون دراسة وتحليل، وما يعتبره الرئيس إنجازاً قد يحمل في طياته فشلاً وخيبة، وما تظهر ثماره على المدى القصير لا بد أن نتأكد من عدم وجود تبعات سلبية له على المدى الأطول، وما يبدو أن فيه منافع لبعض الفئات يجب أن يؤخذ بمنتهى الحذر حتى لا يكون على حساب فئات أخرى، وإلا أحدث انقساماً في الوطن، وتسبب في ضغينة بين الشعب وبعض أهم الجهات التي يفترض أنها تعمل من أجله.
ما أطلبه ليس مستحيلاً، ويحدث في بلدان كثيرة لا في المدينة الفاضلة وحدها. وكل ما يتطلبه الأمر أن يدرك الرئيس أن الشعب يحق له محاسبته على ما يفعل. أما ادعاؤه أن حسابه سيكون فقط أمام الله عز وجل (ونعم بالله!)، لكن عفواً، ليس هكذا تدار الأمم.