الإمتاع والمؤانسة في مصر القديمة (2 – 2)

27 فبراير 2017
جزء من برديّة تُورين الأصليّة (Getty)
+ الخط -
في غُرف الإله "بِس" التي تم اكتشافها في سقّارة، كانت الجدران تصوِّر راقصات وعازفات للموسيقى بوشوم على أفخاذهن تمثّل صورة الإله. وأكثر ما أكّد أن الطقوس التي كن يمارسنّها في هذه الغرفة تتضمّن اتصالاً جنسياً، هو طبق أزرق من الفسيفساء، مصوّر عليه عازفة موسيقيّة عارية إلا من حزام حول وسطها، ويظهر على فخذها وشم الإله "بِس"، وحولها توجد رموز جنسيّة أخرى، مثل زهرة اللوتس، التي ترمز إلى الرغبة والتجدُّد والبعث، والنسناس الذي يرمز إلى الفحولة والقوّة الجنسية، في ترابط متكامل، للموسيقى مع الخصوبة مع المتعة الجنسيّة.

وعلى ذِكر اللوتس والنسانيس، نذهب إلى "برديّة تورين" المُترعة بهم، وأوضح ما وصلنا عن الجنس في مصر القديمة، هي البرديّة رقم 55001، يعود وقت كتابتها إلى حوالي عام 1150 قبل الميلاد، واكتشفت في أوائل القرن التاسع عشر في دير المدينة، وتقبع الآن في المتحف المصري بـ "تُورين" في إيطاليا.


عانت البرديّة
بعد اكتشافها من محاولة ترميم خاطئة، ثم بعد ذلك عدّة محاولات ترميم ناجحة، حتّى وصلت التكنولوجيا إلى صورة متخيّلة عن شكل البرديّة الحقيقي، وهي تتكوّن من قسمين، قسم يصوّر الأوضاع الحميمية بين الرجل والمرأة، وقسم آخر يصوّر حيوانات تقوم بأعمال بشر، الوثائقي في الرابط السابق، تفصيل عظيم لمن يريد أن يعرف أكثر.

الأوضاع الجنسيّة المصوّرة تتميّز بتعدّدها، وهنا تظهر المرأة على قدم المساواة مع الرجل في التجاوب والمشاركة والمبادرة بالأفعال الجنسيّة، وتطلب المتعة لنفسها حين لا يمنحها لها الرجل، حيث يظهر في رسم منهم، امرأة تنادي على عشيقها المُلقى على الأرض من فَرط التعب، يحاول أن يزحف متسللاً هارباً، فتسأله "هل فعلت لك أي شيء خاطئ؟" محتجّة على إرهاقه السريع، في أحد الرسوم أيضاً نرى رجلاً يرفع يده ويشيح بوجهه متمنِعاً، فيما لا يزال عضوه منتصباً، والرسم الأهم والأكثر حداثة بمفاهيمنا الحاليّة، وهو الذي يوضح امرأة تمتّع نفسها بالجلوس على لعبة جنسيّة وهي إناء "أمفورا"، ويساعدها في المداعبة رجل جالس على الأرض بجانبها، فيما تبدو هي غير مهتمة، وتمسك بأحمر شفاه لتزيّن شفتيها مجدداً ناظرة في المرآة التي تحملها، كما أنها توجه كلامها للرجل في النص المصاحب، وتتهمه بأنه لم يشبعها جنسياً، لذلك فهي تُمتع نفسها بهذه الطريقة، ويُقال إن كليوباترا صنعت لنفسها إناءً مُشابهاً، ولكنه مملوء بالنحل، لكي يهتز ذاتياً من دون الحاجة لحركتها.

ثمة رسم، أيضًا، لشكل خلفي يبدو مليئًا بالسعادة، بطريقة تُشبه كثيرًا وضع آلهة السماء والأرض "نُوت" و"جِب" أثناء عملية خلق العالم، حيث انفصلا عن بعضهما لترتفع السماء وتنبسِط الأرض.

البرديّة مليئة بزهور اللوتس فوق رؤوس النساء، بدلالتها الجنسيّة التي أشرنا إليها، وربّما في محاولة لإثارتهن أكثر، ومع اللوتس يوجد نبات اللبلاب وحيوان النسناس وبعض الرجال في المشهد كانوا يمسكون بقوارير، غالباً ما كانت بيرة مصريّة تقليديّة.


هناك بعض الأدوات الأخرى المصاحبة المرسومة في البرديّة، والتي تعطي انطباعاً بالأهمية التي كان المصريون القدماء يولونها لتهيئة الأجواء والظروف لهذه الممارسة الممتعة، مثل عجلة للارتفاق عليها، وسرير، وكرسي بوسادة خاصة لتسهيل المضاجعة - يوحي هذا بصناعة الأثاث القائمة اليوم على تصميمات خاصّة ومقاييس معيّنة لتسهيل المتعة الجنسيّة - بالإضافة إلى بعض الآلات الموسيقيّة في إشارة متجدّدة في الآثار المصريّة على ارتباط الموسيقى بالمتعة، وأدوات التجميل والزينة التي لا تتخلّى عنها المرأة منذ قديم الأزل.

لقد ظهرت النساء في هذه البرديّة، أكثر جمالاً وشباباً من الرجال، عاريات تماماً وواثقات من أنفسهن، فيما كان الرجال أكبر سناً وصُلعًا ويبدو على أجسادهم بعض الترهّل، صانعات للمُتعة مع الرجل وطالبات لها بمنتهى العاديّة والقوّة.

الجنس بالقطع كان أمراً مهماً لهذه الحضارة، وليس فقط للغرض التناسلي والحفاظ على النوع، أو المُتعة في الحياة الدُنيا، لقد توقّع المصريون القدماء مواصلة النشاط الجنسي بعد الموت، مصدّقين أن فِعل الإيلاج مع الزوجة في الحياة الأخرى، يُمكِّن المتوفّي من إعادة خلق نسخة أكثر فتوّة من نفسِه.

ومن أهم ما وصل من هذهِ الرمزيّة، صندوق من مُلك توت عنخ آمون، في المتحف المصري بالقاهرة، وقد صوّر على جانب هذا الصندوق، الملك جالساً على عرشه، مُمسكاً بقوس في وضع الاستعداد، وزوجته الملكة "عنخ إس إن آمون" تجلس عند أقدامه وفي يديها سهم، والمشهد بأكمله مُرمّز جنسياً، فكلمة "ساتي" التي تعني قوساً، تعني أيضاً "يقذف"، ويساهم في تأكيد هذا وجود زهرة اللوتس فوق رأس الملك، ووجود الملكة ممسكة بسهم مع الملك المُمسك بقوس، يعني تكامل العمليّة الجنسيّة، التي لن تصبح كذلك إلا بالرجل والمرأة، كما القوس لن يصبح كاملاً إلا بالسهم، والبعث في العالم الآخر لن يحدث بدون هذا الاكتمال.

لقد آمن المصريّون القدماء أنه في الحياة الأخرى، كما في الدُنيا، يجب أن يتحد الرجل والمرأة كي يتم الخلق الجديد، حتّى تتمكّن الروح من مفارقة هذه الحياة إلى الخلود، والقوّة الحسيّة المتولدة عن هذا الاتحاد العظيم المُمتع، هي التي ستعبر بها البرزخ بين العالمين.

وفي سياق مُتصل، فبرديّة "تورين" كُتبت قبل الكاماسوترا الهنديّة بحوالي ثمانمائة عام، والكاماسوترا دليل الحب الهندي معروف، ولكن استدراكاً عليه في القرن الخامس عشر تقريباً، "لأنه لم يُعطِ النساء حقّهن في المُتعة والاستمتاع" هوَ حديث المقال القادم.

المساهمون