الإمارات تجرّ أتباعها باتجاه إسرائيل: تطوُّع أم تكليف؟ [1/5]

13 يوليو 2020
الوزيرة الإسرائيلية ميريت ريجيف في أبوظبي عام 2018 (فرانس برس)
+ الخط -

لا تترك سياسة الإمارات وأداء الإعلام الناطق باسمها حيال إسرائيل، مجالاً عريضاً أمام عمل صحافي يكشف أسراراً أو يفضح نوايا صارت بمعظمها علنية لجهة ما بدأ بتطبيع للعلاقات بين أبوظبي وتل أبيب على الأقل منذ عام 2003، وتحوّل بسرعة قياسية إلى تحالف وعلاقات صداقة وفرص متبادلة بتعابير مسؤولين إماراتيين وإسرائيليين عديدين. والمجاهرة من قبل المسؤولين في الحكومتين بتلك العلاقة صار عمرها سنوات، في ظل تقصُّد سلطات أبوظبي عدم نفي وجودها، لا بل الحديث عنها بحرارة أحياناً كثيرة، على هيئة تصريحات وتغريدات ومقالات ومواقف لمسؤولين رفيعي المستوى (ربما يكون أبرزهم ضاحي خلفان وأنور قرقاش وعبد الله بن زايد ويوسف العتيبة). لكن ما يمكن التعاطي معه كمادة صحافية دسمة ومثيرة للمتابعة، هو محاولة فهم مفارقة مدّ خطوط تواصل مباشرة أو غير مباشرة بين حكام ومسؤولين عرب معروف أنهم تابعون للإمارات في القرار السياسي العام من جهة، وبين دولة الاحتلال من جهة ثانية. ففي فترة قصيرة زمنياً، أذيعت تفاصيل لقاء رئيس مجلس السيادة في السودان (الحاكم الفعلي منذ إطاحة عمر البشير العام الماضي) عبد الفتاح البرهان ورئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو، في فبراير/شباط الماضي، في أوغندا، وفتحت الأجواء السودانية أمام طائرات إسرائيل. حصل ذلك بترتيب إماراتي، وفق ما كشفته وكالة "أسوشييتد برس" الأميركية، من دون صدور أي نفي من أبوظبي أو من الخرطوم أو من تل أبيب، وذلك بعد أشهر من تمهيد تولته وزيرة الخارجية السودانية السابقة، أسماء عبد الله، عبر إعلانها انفتاح الخرطوم على العلاقات مع إسرائيل "في التوقيت المناسب" على حد تعبيرها في حينه. كذلك لم تنقطع التصريحات العلنية عن استعداد اللواء الليبي المتقاعد خليفة حفتر ومساعديه للتعاون مع تل أبيب وطلب مساعدتها. وصارت رائجة مواقف مسؤولي المجلس الانتقالي الجنوبي في اليمن، خصوصاً هاني بن بريك، المقيم في أبوظبي معظم الوقت، حول عدم وجود مشكلة بينهم وبين دولة الاحتلال. المشترك بين الحالات الثلاث المذكورة أعلاه، هو طبعاً الوجود الضمني أو الصريح للإمارات، بما أنه ليس سراً أن كلا من المكون العسكري في السودان، وتحديداً البرهان، وخليفة حفتر في ليبيا ومساعديه، ومسؤولي المجلس الانتقالي الجنوبي في اليمن، من عيدروس الزبيدي وهاني وأحمد بن بريك وغيرهم، تربطهم بأبوظبي علاقات يتراوح وصفها بين التحالف الوطيد والتبعية الكاملة.


لا مجال للاستعانة بالصدفة إذاً في تفسير ظاهرة تسابق أطراف عربية ثلاثة محسوبة على النفوذ الإماراتي في المنطقة، على إنشاء علاقات مع إسرائيل، أو على الأقل للتمهيد نفسياً وسياسياً لإعلان انطلاق قطار التطبيع العلني لتلك العلاقات. وربما يعتبر حكام أبوظبي، الإمارة والعاصمة، أن قدرتهم على توسيع رقعة التطبيع العربي مع تل أبيب، هي أحد نقاط قوتهم في عيون مسؤولي الإدارتين الإسرائيلية والأميركية، وأنه لا بد من أن تُترجم نتيجة جهودهم تلك، على شكل حصص نفوذ تتغاضى بموجبها واشنطن خصوصاً، والغرب عموماً، عن أدوار إقليمية تؤديها الإمارات، أكان في اليمن أو ليبيا أو السودان وسورية وفي منطقة الخليج نفسه، في إطار طموحاتها لتكون دولة إقليمية أساسية تحظى بدعم أميركي كبير، بغض النظر عن هوية ساكن البيت الأبيض، أكان ديمقراطياً أم جمهورياً، بعد التجربة المريرة التي عاشها محور السعودية ــ الإمارات خصوصاً مع كل من باراك أوباما (حيال إيران خصوصاً) ودونالد ترامب، الذي كان ولا يزال يرهن دعم حلفائه في الخليج بابتزاز مالي علني. بالتالي، ربما تكون الخدمات الكبيرة التي تقدمها الإمارات لجهة توسيع رقعة التطبيع العربي مع إسرائيل، والتخلص من عبء ما تبقى من مقاومة جهود تصفية القضية الفلسطينية، حلاً مهماً بالنسبة لحكام الإمارات للخروج من وطأة ذلك الابتزاز الدائم والمهين الذي يربط الدعم الأميركي بصفقات بالمليارات فقط، على أمل أن تصبح أبوظبي بالنسبة لواشنطن ولتل أبيب، حاجةً حقيقية في المنطقة، وحليفاً متمكناً، لا مجرد دفتر شيكات.

من هنا، يمكن لأي عمل يحاول تتبع جذور تلك العلاقات أن يلاحق سؤالاً مركزياً: هل إن نسجَ الإمارات علاقات بين وكلائها/حلفائها/أتباعها في البلدان العربية من جهة، وإسرائيل من ناحية ثانية، هو دور تطوّعت هذه الدولة الخليجية لتأديته من تلقاء نفسها؟ هل هو ترجمة لـ"النظرية" التي تروجها هذه العاصمة عن أن الحل السحري للمشاكل الداخلية للبلدان العربية، من فقر وبطالة وأزمات أمنية وسياسية، يكمن في الانفتاح على إسرائيل لكسب رضا شاغل البيت الأبيض، خصوصاً في ظل رئاسة دونالد ترامب، وذلك لكي يحسم كل مسؤول سياسي النزاع الداخلي في بلده لمصلحته؟ أم أنه بمثابة تكليف مطلوب منها تلبيته في إطار الحلف الذي تسعى واشنطن وتل أبيب إلى إرسائه ضد إيران خصوصاً، ليشمل إسرائيل وعواصم ما يسميه كل من المسؤولين الإسرائيليين والأميركيين "محور الاعتدال العربي"؟ أم أن الأمر يتعلق بتطوّع إماراتي لأداء هذا الدور، وبتكليف معاً؟ فوفق هذه الفرضية، ربما يكون الدور الذي تطمح أبوظبي إلى تأديته في المنطقة عبر تصوير نفسها كرائدة "السلام" و"الإصلاح الديني" و"الانفتاح" و"الاعتدال" ونقيض لـ"اللغة الخشبية" الخاصة بفلسطين، و"التعايش" بين سكان المنطقة (طبعاً تُستثنى دول مثل تركيا وقطر وأحياناً إيران من هذا التعايش الذي تنادي به الإمارات)، ربما يكون متكاملاً مع رغبة أميركية وإسرائيلية لجهة توسيع رقعة التطبيع العربي الحكومي والشعبي مع إسرائيل، لا بل التحالف معها بعدما تم إيجاد العدو البديل: إيران.

لكن يبقى الأساس، هو العلاقات بين إسرائيل والإمارات، فهي المنطلق لتصدير التطبيع أو التحالف أو الصداقات المستجدة إلى بلدان عربية أخرى لم يكن العقل الصهيوني يحلم بنسجها، السودان وليبيا واليمن في الحالة الراهنة. والعلاقات مع الإمارات حققت لإسرائيل ما لم تحققه ربما أربعة عقود من السلام مع مصر منذ توقيع اتفاقية كامب ديفيد، وعقدان ونصف العقد مع الأردن منذ وادي عربة، تحديداً لجهة جعل التطبيع مع الاحتلال وكأنه أمر عادي، طبيعي، وهو ما ترافقه أجواء تحريض وعداء حدّته غير مسبوقة في بعض الإعلام العربي التقليدي والحديث وفي مواقع التواصل الاجتماعي، ضد الفلسطينيين وقضيتهم وتصويرهم بشكل نمطي مسيء وكاذب على كل حال، وتبني آلاف الحسابات الحقيقية أو الوهمية سرديات صهيونية حول مسؤولية الفلسطينيين عن نكبتهم، جرياً على مقولة تكررها أبواق إعلامية موالية للسعودية وللإمارات، وحرفيتها أنه "لولا وجود المقاومة، لما كانت هناك إسرائيل"، وهو ما يمكن تطويره وفق الفرضية المريضة تلك للقول إنه لولا وجود الفلسطينيين، لما كانت هناك مشكلة ولا قضية فلسطينية أصلاً.

إذاً، العلاقات الإسرائيلية ــ الإماراتية كانت ولا تزال الأساس لمد جسور التواصل بين تل أبيب وعرب آخرين، في السودان وليبيا واليمن في الفترة الحالية. وقد قامت تلك العلاقات، منذ عام 2003، على محددات ثلاثة: استراتيجية أميركية هدفها إيجاد عدو جديد للعرب هو إيران بدل إسرائيل. ورغبة حكام الإمارات في جعل بلدهم حليفاً ثابتاً لأميركا في المنطقة، لا بل وكيلاً، لا تتغير مكانته بتغير السياسات الأميركية الخارجية بين ديمقراطيين وجمهوريين. وأخيراً إنشاء تحالف مصالح لكل من يرفض موجات التغيير الديمقراطي المحتملة في المنطقة العربية، إن لم تعلن سلفاً، رغبتها في تطبيع العلاقات مع إسرائيل، أو على الأقل عدم ممانعتها في فعل ذلك. بناءً على هذه المحددات الثلاثة، تطورت العلاقات الإسرائيلية الإماراتية بسرعة قياسية لتشمل قطاعات أمنية وسياسية واقتصادية وصحية (كورونا) ورياضية ودينية حتى، لا ينقصها سوى فتح سفارات واعتراف إماراتي بعلاقات دبلوماسية "رسمية" مع تل أبيب، وقد وصلت تلك العلاقات اليوم إلى مستوى قول السفير الإماراتي في واشنطن، يوسف العتيبة، في مقال نشره بتاريخ 12 يونيو/حزيران الماضي في صحيفة "يديعوت أحرونوت"، إن "إسرائيل فرصة وليست عدواً" بالنسبة لبلده. هي "فرصة" تفسر ربما اعتبار أبوظبي كل حركة تحارب إسرائيل أو تعلن نيتها مقاومتها، "إرهابية"، على قاعدة أن أعداء إسرائيل هم أنفسهم أعداء الإمارات، في الكثير من الأحيان على الأقل. لكن كل ذلك لم يمنع استمرار العلاقات الإماراتية ــ الإيرانية، خصوصاً اقتصادياً، إذ ظلت الإمارات الشريك التجاري الأكبر لإيران من بين جميع دول مجلس التعاون الخليجي الست. وحتى في ظل التوتر الأمني الكبير الذي شهدته منطقة الخليج صيف العام الماضي، ومطلع السنة الحالية، سُجلت زيارات إماراتية رفيعة المستوى إلى طهران، حيث تم توقيع اتفاقيات أمنية مشتركة في ما وصف في حينها إعلامياً ببوادر مصالحة إماراتية ــ إيرانية. كل ذلك من دون الحديث عن مفارقة تولي الإمارات التسويق عربياً لإعادة تعويم نظام بشار الأسد بما يرمز إليه من أحد أركان الأذرع الإيرانية في المنطقة، وإعادة افتتاح سفارتها في دمشق، وجرّ عواصم أخرى إلى حذو حذوها.

ولا يمكن فصل تسارع وتيرة نسج الإمارات علاقات بين حلفائها/ وكلائها/أتباعها، وبين دولة الاحتلال، عن خطة دونالد ترامب - وبنيامين نتنياهو لتصفية القضية الفلسطينية والتي تقوم في جزء أساسي منها على تطبيع العلاقات بين أكبر عدد ممكن من الدول العربية ودولة الاحتلال، بما يشكل ضغطاً إضافياً على الفلسطينيين يساهم في محاولة إجبارهم على التنازل عن حقوقهم والقضاء رسمياً على قضايا الحل النهائي. أصلاً، كانت المباركة الإماراتية لخطة ترامب ــ نتنياهو علنية، تُرجمت بحضور يوسف العتيبة إياه، المؤتمر الصحافي لترامب ولنتنياهو في واشنطن نهاية يناير/كانون الثاني الماضي لإعلان خطتهما المشتركة التي تسمى زوراً "صفقة" تحتاج إلى طرفين في العادة، وهو ما لا يتوفر في خطة إملاءات ترامب ونتنياهو.
وتحضر السياسة الأميركية كعامل رئيسي موثر ودائم في العلاقات بين دول عربية (بما في ذلك الإمارات) وإسرائيل، إذ إن أحد أسباب التحول في العلاقات بين الطرفين يعود إلى الاعتقاد الذي ساد لدى حكام أبوظبي في عهد الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما بوجود توجه لإعادة صياغة العلاقة بين أميركا ودول الخليج من جهة، وبين أميركا وإيران من جهة ثانية. وتعززت المخاوف الخليجية (السعودية – الإماراتية خصوصاً) على نحو واضح بعد الموقف الأميركي من الانتفاضات العربية، والذي فُسر ضمناً على أنه تخل عن حلفاء رئيسيين في المنطقة (حسني مبارك في مصر نموذجاً) والمفاوضات التي جرت مع إيران ومهدت لتوقيع الاتفاق النووي في صيف 2015، والذي انفردت الإمارات والسعودية وإسرائيل، برفضه بشدة.

وتشير ورقة منشورة على موقع مؤسسة كونراد أديناور (كاس) في إبريل/نيسان 2020 بعنوان العلاقات الخليجية مع إسرائيل وخطة ترامب للسلام، للزميل الباحث ومدير البرنامج محمد ياغي، إلى أن ثلاثة أسباب تفسر موقف دول الخليج من إسرائيل في الفترة السابقة لعام 2011: أولها أنه "حتى انتخاب الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما عام 2008، كان هناك حشد عسكري أميركي في دول الخليج أدى إلى إنشاء 18 قاعدة عسكرية في الدول الست لمجلس التعاون... إلى جانب العقوبات الاقتصادية المفروضة على إيران بعد الكشف عن برنامجها النووي عام 2002. وقد خلقت القواعد العسكرية إحساساً بالأمن في دول الخليج، مما يعني أنها لم تكن بحاجة إلى القيام بمبادرات تجاه إسرائيل". وثاني الأسباب أنه "على الرغم من تهديد العديد من رؤساء الوزراء الإسرائيليين مراراً وتكراراً بضرب المنشآت النووية الإيرانية، إلا أنهم لم يتلقوا ضوءاً أخضر أميركياً، كما لم يوافق كبار المسؤولين العسكريين والأمنيين في إسرائيل على مثل هذه الضربة. وإدراكاً لهذه القيود، لم تعتقد دول الخليج أن إسرائيل يمكن أن تضيف الكثير نوعياً إلى أمن هذه الدول". وأخيراً يقول الكاتب إن مجموعة من الأسباب الجيوسياسية والوطنية والثقافية منعت دول الخليج من إقامة علاقات مع إسرائيل. وبحسب الورقة، فإن "هذه القيود، التي منعت دول الخليج من تطبيع العلاقات مع إسرائيل، لم تتغير. لكن جاء التحول من مكان آخر: فما تغيّر، واستفز بعض دول الخليج لتطوير علاقاتها مع إسرائيل كان التحوّل في السياسة الأميركية تجاه الشرق خلال فترتي حكم أوباما" (2008-2016). أولاً "اعتقدت بعض دول الخليج، لا سيما الإمارات، وفي ما بعد السعودية، أنه خلال الانتفاضات العربية عام 2011، لم تمانع إدارة أوباما في استبدال الولايات المتحدة حلفاءها التقليديين بأنظمة جديدة، حتى لو تبنّت هذه الأنظمة أيديولوجية الإخوان المسلمين". أما العامل الثاني فلخصه الباحث بأن "حكّام دول الخليج اكتشفوا أن إدارة أوباما كانت تجري سراً مفاوضات مع إيران حول برنامجها النووي من دون إبلاغهم، في ملعبهم الخلفي، في سلطنة عُمان. شعروا بالخيانة والإهانة". وأخيراً، والكلام للباحث نفسه، "اعتقدت دول الخليج أن الولايات المتحدة كانت تخطط لانسحاب عسكري من المنطقة، لا سيما أنه في ذلك الحين، باتت أقل اعتماداً على نفط دول الخليج. علاوة على ذلك، كانوا مقتنعين بأن الولايات المتحدة كانت تخطط لترتيب أمني جديد لمنطقة الخليج يشمل إيران".
وترافقت هذه المخاوف لدى الرياض وأبوظبي مع تحولات على صعيد القيادة في البلدين: في السعودية تولى الملك سلمان بن عبد العزيز الحكم، وبدأ عملية تجهيز نجله محمد لتولي القيادة في 2015. في موازاة ذلك، كان ولي عهد أبوظبي محمد بن زايد، يقود مهمة توسيع الدور الإماراتي في المنطقة لتشمل تدخلات سياسية وعسكرية مباشرة وأخرى من خلف الكواليس في أكثر من دولة عربية، دعماً لتمرد المجلس الانتقالي الجنوبي الذي تأسس برعاية ودعم إماراتيين في مايو/أيار من ذلك العام، ورعاية مطلقة للواء المتقاعد خليفة حفتر ودعم محاولته إسقاط المدن الليبية، بما في ذلك العاصمة طرابلس. وفي السياق، يشير الباحث المتخصص في شؤون الشرق الأوسط في معهد بايكر للسياسة العامة في جامعة رايس في تكساس، كريستيان كوتس أولريشسن، في حوار أجراه معه مدير تحرير في مركز كارنيغي للشرق الأوسط مايكل يونغ بعنوان: الإمارات "تحمّل نفسها أكثر من طاقتها" منشور في 1 يوليو/تموز 2020 إلى أن جذور صعود الإمارات كلاعبٍ أساسي في الشؤون الإقليمية وحتى الدولية تعود إلى ما قبل اندلاع الربيع العربي. فقد بدأ هذا الدور يتبلور في مرحلة التسعينيات (من القرن العشرين) والعقد الأول من القرن الحادي والعشرين. وأحد أسباب ذلك هو التحوّل على مستوى الجيل الذي يتولى زمام القيادة، إذا أصبح محمد بن راشد آل مكتوم في دبي ومحمد بن زايد آل نهيان في أبوظبي أكثر بروزاً في مجال صنع القرار، بعد وفاة والديهما في عامَي 1990 و2004 على التوالي. ويوضح أن ولي عهد أبوظبي محمد بن زايد، عمد "في إطار مقاربته للاضطرابات التي شهدتها المنطقة في عام 2011، إلى إعادة ترتيب العلاقات الإماراتية مع السعودية، بعدما كانت مصدراً مستمراً للتشنجات في العقد الأول من القرن الحالي. وتولّى زمام المبادرة في محاولة احتواء وردع التهديد الذي اعتبر أن الإسلاميين والتيارات المناهضة يشكلونه على الاستقرار الإقليمي. لكنه يجيب رداً على سؤال حول ما هي عوامل الخطر التي تترتب على اتّباع الإمارات سياسة ناشطة في مختلف أنحاء المنطقة، بأنه تخطر في البال على الفور عوامل خطر عدة، أحدها أن الإمارات خلقت لنفسها أعداء في مختلف أنحاء المنطقة، وهؤلاء قد يكونون لها بالمرصاد يوماً ما، خصوصاً إذا مُنيت المناورات على النفوذ بالفشل، كما حصل في ليبيا أخيراً، ويُرجَّح أن يحدث أيضاً في اليمن. قد يؤدّي التدخل التركي واسع النطاق في ليبيا إلى تورّط الإمارات على نحوٍ أكبر في نزاع يتعذّر على الأرجح الانتصار فيه، ومن الممكن أن يتحوّل إلى مصدر استنزاف كبير لمواردها. العامل الثاني هو "أنه بعدما ركّزت الإمارات كثيراً على إظهار قطر بأنها تتدخل في الشؤون الداخلية للبلدان الأخرى وتُهدّد الاستقرار الإقليمي، تجد نفسها الآن معرّضة بقوة للتهمة نفسها، والأدلة وافية على ذلك".

في ظل هذه الأجواء، تسلم دونالد ترامب الحكم في يناير/كانون الثاني في 2017، وتبنّى سياسات أكثر تشدداً تجاه إيران (مصدر القلق الرئيسي لدول الخليج العربية)، ونسجت الإمارات علاقات قوية مع إدارته، بحسب ما كشفته التسريبات الخاصة ببريد السفير الإماراتي في الولايات المتحدة يوسف العتيبة، بما في ذلك وعد مستشاري ترامب للسفير بأنهم سيضعون مصالح دولته في قلب سياسة الإدارة الأميركية الجديدة المتعلقة بالشرق الأوسط، وأن العلاقة بين الإماراتيين والدائرة المقربة من ترامب قد نسجت في وقت أبكر مما كان يعتقد، وهو ما تبين أنه تم بالفعل في ما يتعلق بأكثر من ملف. إلا أن ذلك كله لم يكن كافياً لطمأنة دول خليجية، بعد اعتماد ترامب مقاربات متقلبة على نحو سريع، واعتماده على مبدأ الابتزاز في إدارة العلاقات الأميركية مع الدول، بغض النظر عن حجم المصالح التي تجمع واشنطن بأي منها. وهو ما جعل الإمارات خصوصاً تعتقد أن التحالف مع إسرائيل هو الخيار الأنسب، لأن ذلك وفق منظورها قادر على حمايتها، وفي نفس الوقت ضمان استمرار التأثير داخل واشنطن، خصوصاً بعدما أغرقت نفسها في أكثر من دولة عربية وبات نفوذها مهدداً بالتراجع أكثر من أي وقت مضى. وعمدت إلى الاستثمار بعلاقاتها القديمة والحديثة مع شخصيات إسرائيلية من "الصف الأول"، فصارت أخبار لقاء يوسف العتيبة مع بنيامين نتنياهو في واشنطن، وتغريدات وزير خارجية الإمارات عبد الله بن زايد عن "التحالف الإسرائيلي الإماراتي"، أخباراً "عادية"، لتنتقل تدريجياً من العلاقات السرية إلى العلنية، إلى جانب تبرع الإمارات بتأدية دور ربط حلفائها ووكلائها في المنطقة، مع دولة الاحتلال.
 

غداً: الإمارات وإسرائيل: نحو عقدين من العلاقات العلنية