فعلى مدار العقود الثلاثة الماضية، تقدمت دول نامية اقتصادياً وتنموياً، مما ساعد على تغير شكل الخرائط الاقتصادية إقليمياً ودولياً، ومن أبرز هذه التجارب، تجربة دول جنوب شرق آسيا والصين والهند، ولكن بقيت المنطقة العربية فقيرة اقتصادياً وتنموياً، بل على عكس باقي تجارب الدول الأخرى، يتراجع الوضع التنموي والاقتصادي بالدول العربية، بشكل كبير، وفشلت التجربة العربية في تحقيق تعاون أو تكامل اقتصادي.
ومؤخراً أصدرت منظمة الأسكوا دراسة بعنوان "سيناريوهات لاستشراف حال الاقتصاد العربي بحلول عام 2025"، تناولت مستقبل الاقتصاد العربي في إطار سيناريوهين، الأول الإقلاع الاقتصادي، ووضعت لذلك شروطاً منها تفعيل المؤسسية والحوكمة، ووجود سياسات تصنيعية تحدث نقلة تنموية، والدخول في التكامل الإقليمي، أما السيناريو الثاني الذي تناولته الدراسة وهو التشاؤمي والذي يفترض تدهور مستويات التنمية للأسوأ.
ونظراً للطابع النظري لمثل هذه النظريات، فإننا بحاجة لإسقاط نتائجها على أرض الواقع، فكما ذكرت الدراسة في بداية سطورها أن التجارب الناجحة والتي حققت الإقلاع الاقتصادي، مثل دول جنوب شرق آسيا اتسمت بسمتين مهمتين، هما الظروف الملائمة، والسياسات النشطة الفاعلة. وهما شرطان تفتقد إليهما الدول العربية في أغلبها.
إذا ما تناولنا سيناريو التفاؤل بالوصول إلى حالة إقلاع اقتصادي عربي في عام 2025، فنجد أنفسنا أمام تحد زمني لا يتجاوز 8 سنوات، ومتطلبات هذا السيناريو كما ذكرت الدراسة، تفعيل الحوكمة والديمقراطية، وهو أمر شبه مستحيل عربياً في ظل الواقع المعيش.
وكون الدول العربية تنجح في تحقيق ذلك خلال 8 سنوات، فإن ذلك لا يكون إلا من خلال معجزة، تحطم النظم العسكرية الاستبدادية، وتجمع شتات نحو خمس دول تعيش نزاعات مسلحة (سورية، واليمن، وليبيا، والعراق، والصومال) فضلاً عن تخلف الإدارة الحكومية في غالبية الدول العربية، واستحالة دخول النظم الديمقراطية لبلدان النظم الملكية والتي تضم نحو 8 دول عربية.
فكل الدول العربية لا تعرف طرق التداول السلمي للسلطة، أو تنظيم انتخابات عامة تتسم بالنزاهة والحرية، ويغيب بشكل كبير وجود دور فاعل للأجهزة الرقابية على الأداء الحكومي، حيث تسيطر السلطة التنفيذية في معظم الدول العربية على الأجهزة الرقابية، وبالتالي فهذه الأجهزة بلا سلطات.
والمتطلب الثاني لسيناريو الإقلاع الاقتصادي العربي في عام 2025، هو دعم سياسات التصنيع، وإن كانت الدراسة أشارت إلى نسب متفاوتة بين الأقاليم العربية (الخليج، المغرب الغربي، المشرق العربي) فإن الواقع يشير إلى تبني كل الدول العربية لبرامج للإصلاح الاقتصادي برعاية المؤسسات المالية الدولية، تفرض التخلص من الاستثمارات العامة، عبر برامج الخصخصة، وترك المجال للقطاع الخاص، الذي تحول إلى استيراد السلع الجاهزة أو في أحسن الأحوال قيام صناعات تجميعية.
كذلك تفترض الدراسة أن يتم دعم الاستثمارات بقطاع التصنيع بنسبة 10% في دول المغرب العربي، وفي منطقة الخليج بنحو 20%، بينما لم تضع أي نسب لدول المشرق العربي.
وثمة قيد على دعم الاستثمارات في قطاع التصنيع من خلال برامج الإصلاح الاقتصادي التي تتبناها جميع الدول العربية، بغض النظر عن الإمكان المالي المتوفر مثلاً في حالة الخليج.
ويتطلب الأمر كذلك زيادة الإنفاق على البحث والتطوير بنسبة 50%، وهو أمر تفتقده الدول العربية، ولا تمتلك له خططا أو برامج، فضلًا عن أن العديد من موازنات الدول العربية تعاني من عجز بما فيها الدول النفطية، وتضع اهتمامات الإنفاق على البحث والتطوير في ذيل اهتمامتها.
أما المتطلب الثالث للإقلاع العربي، فوضعت له الدراسة شروطاً ثلاثا مهمة، وهي ما فشلت في تحقيقه الدول العربية خلال الفترة الماضية، أو إن صح التعبير لم تسع لتحقيقه، وهي خفض تكلفة النقل بين الدول العربية بنحو 50%، وتحقيق ذلك يتطلب استثمارات كبيرة في البنية الأساسية، خاصة في مجال النقل البري والبحري من إنشاء موانئ وتطوير القائم منها، أو إنشاء طرق برية سريعة أو خطوط سكك حديدية، كما أن الدول العربية لا تنتج وسائل النقل، وبالتالي فتكلفة هذه الوسائل خارج نطاق سيطرتها.
كما يفرض سيناريو الإقلاع الاقتصادي على العرب ضرورة الوصول لاتحاد جمركي عربي يتكامل مع سياسات حماية الصناعات العربية الوليدة، ومن عجب أن ما تحقق بشكل جزئي من تجربة دول الخليج بشأن الاتحاد الجمركي، يتفكك الآن في ظل أزمة حصار دول خليجية وعربية لقطر.
وثالث المستحيلات التي يضمها مطلب التكامل العربي هو وجود سلوك تكاملي فيما يخص الطلب على العمالة. فبعد أزمة انهيار أسعار النفط، أصبحت دول الخليج باعتبارها دولا مستوردة للعمالة العربية، طاردة للعمالة بشكل عام ومن بينها الدول العربية.
في الواقع هناك مجموعة من الأرقام التي تؤيد استحالة تحقيق سيناريو الانطلاق الاقتصادي، بل وترجح تدهور مستويات التنمية العربية.
- تراجع معدل النمو الاقتصادي للعالم العربي إلى 2.9% بنهاية 2016، مقارنة بـ 5.5% في المتوسط خلال الفترة (2000 ـ 2012)، بسبب أزمة انهيار أسعار النفط في السوق الدولية، التي بدأت في منتصف 2014.
وإذا كان معدل الزيادة السكانية بلغ 2.6%، أي يقترب من معدل النمو الاقتصادي، فمعنى ذلك أن فرص تحقيق تنمية اقتصادية منعدمة، فتحقيق التنمية يتطلب وصول معدل النمو الاقتصادي لثلاثة أضعاف معدل الزيادة السكانية.
ـ وصول الدين الخارجي للدول العربية إلى 1.03 تريليون دولار في 2016، وهو رقم قريب من قيمة احتياطيات الدول العربية من النقط الأجنبي في نفس العالم، والجديد أن الدول النفطية تتقدم الدول العربية من حيث ارتفاع مديونيتها الخارجية، الإمارات 225 مليار دولار، قطر 204 مليارات دولار، السعودية 109 مليارات دولار، وهو ما يغلق المجال لفرص توجيه تمويل عربي نحو الاستثمار أو إقامة مشروعات للبنية الأساسية للانطلاق العربي.
ـ تحول المؤشر العام لأداء الموازنات العامة للدول العربية، حيث تشير إحصاءات المؤسسة العربية لضمان الاستثمار إلى أن الدول العربية ككل حققت عجزاً في موازناتها بلغ في 2016 نحو 250 مليار دولار، بعد أن كانت تحقق فائضا في المتوسط بنحو 43 مليار دولار خلال الفترة 2000 ـ 2012.
وسيظل هذا العجز في تصاعد بسبب أزمة انهيار أسعار النفط، وكذلك ما تعيشه المنطقة من حالة النزاعات المسلحة، أو الأزمة الخليجية ذات السيناريوهات المفتوحة، والتي تستنزف الموارد المالية والاقتصادية لأطرافها.
المؤشرات السلبية كثيرة على الصعيد الاقتصادي والاجتماعي العربي، ولكن الواقع يؤيد المسلمة أو النتيجة التي توصلت إليها كافة الدراسات الخاصة بالعمل العربي المشترك، وهي أنه لا اقلاع اقتصادي عربي، أو مشروع تكاملي عربي إلا بتوفر الإرادة السياسية كقاطرة لبقية المقومات الأخرى.