07 يونيو 2019
الإقصاء الكبير
سليمان موسى باكثير
خريج كلية العلوم/ قسم بيولوجي، يعمل في التحاليل الطبية، ويجد بعض العزاء في القراءة والكتابة.
هند، المُهرَة الناعمة، قَدُّها برج عاجي صعب المنال، تتوه فيه العيون وتتعقب آثاره. في مشيتها عنفوان أنوثة طاغية، تلفح الخدود والشفاه بلهيب النشوة المنشودة، وجهها ليس ملائكياً، لكنه أشبه بإناء الحليب الطازج المحلوب مع شروق الشمس. شفتاها عناقيد العنب الأحمر، ونهداها نافران في هياج دائم يشعلان نار الشبق في نظرات المشتاق المحروم، سطوة جمالها وأنوثتها تأسر قلوب وألباب أعتى الرجال وأفتلهم شاربا، فينخون كما تنخ الجمال عند قدميها، وهذا جزء بسيط من حال زوجها الخاضع بفعل السحر لرغباتها، ولسان حاله: إن لي زوجة تعجز قوة ألف رجل في قوتي عن ترويضها بسهولة، فصرت مجذوب أساليب وفنون غوايتها التي لا تنضب.
إني لأقتلهم وأرثيهم معاً، لكن الظفر بلذتها فوق الأهل والأصحاب والأحباب، هذا وقد عارض البيت، وعلى رأسه الأم، منذ البداية أية خطوة نحو الزواج من تلك المرأة، إذ حاولت بشتى السبل منعه وعرقلته، لكن الابن لا حول له ولا قوة، ولا حول للأم ولا تأثير على ولدها المجذوب الذي وقع في شباكها، ولا مفر لديه سوى أن يتحللها لنفسه، رَضِي من رَضِي وأبى من أبى، فاستسلمت الأم نازلةً عند رغبته لعله يجد سعادته في الزواج منها.
زوج هند هو الابن الثاني لتلك الأم، التي كافحت، مع زوجها المُتَوَفى، في تربية أبنائها الأحد عشر بين ذكور وإناث أيما كفاح. أما ولدها الكبير فقد نفحته إحدى نفحات ثورة يوليو، أتاحت مجانية التعليم لأبناء الفلاحين أن يتعلموا، فاستطاع أن يتعلم ويحتل وظيفة مرموقة ذات وجهة اجتماعية عظيمة. وهنا وجب التأليه وصناعة الصنم ليصير رمز الارستقراطية الحاكمة في العائلة ونموذج البكويه والباشويه المعاصرة، والثالث رجل متدين ورع حافظ لكتاب الله، أما إمام فهو آخر حظها في الدنيا، وكان حظه بلا حظ مع عامة الشعب.
هناك مقولة يرددها إمام دائما "في بلدنا اللي بيتسمى بيتسمى، وعمرك ما تعرف تغير التسمية دية بعد كدا حتى لو بقيت طور في ساقية عشان تغيرها مستحيل تتغير".
وجد إمام نفسه خادما للعائلة بأسرها من إخوة وأخوات وأبنائهم، فبعد أن هيّأ الجميع لنفسه الحياة التي تروقه واختار الأنسب والأوجه بالنسبة له، لم تجد الأم سوى ابنها الأصغر كي تجعله عصاها التي تتكئ عليها، فسخرته لها في إدارة شؤون العائلة، وما أدراكم ما شؤون عائلة ريفية كبيرة، مناسبات أفراح ومآتم، مواسم وولائم، وهلم جرا، فصار الفلاح الذي يزرع ويقلع ويربي المواشي والطيور، ويبيع الجبن والسمن ويشتري الخضار والفاكهة، وكله يذهب في سبيل العائلة والتضحية من أجلها، وأصابه الجحود وإنكار الجميل، وعلى رأيه "ولا فلوس ولا حتى كلمة حلوة، إيه الأهر ده"، بكثير من الغضاضة والمرارة، فتارة يركن إلى الحزن وتارة يتظلم لدى أمه، فتنظر إلى ولدها بشكل حانٍ محاولة طمأنته، انطلاقا من قدسية الأم وعظمة مكانتها عند ولدها قائلة: "بكرا تكسب يا إمام وابقي افتكر كلامي وقول أمي قالت"، فهل يكسب إمام وينتصر؟
مع الوقت، خاصة بعد وفاة الأم التي كانت أحياناً حجر عثرة في طريق نهم أبنائها وجورهم على أخيهم الأصغر، بدأت الطبقية الاجتماعية تزداد فجوتها وبدت واضحة جلية داخل تلك العائلة، وأدرك إمام أنه يحتل أدنى تلك الطبقات وأكثره تهميشا.
تمثلت الطبقة الحاكمة الارستقراطية في الأخ الكبير، وللإنصاف التاريخي، لم يكن ديكتاتوراً أو مستبداً أو أنانياً من المنبع، لكن الحاشية من حوله أكثروا له المداهنة والرياء والكلام المعسول ليل نهار، فأعجب بنفسه وأخذته العزة عن قول الحق الذي ربما يقلب الدنيا رأساً على عقب ويهشم صنمه فتلاهى عنه حتى نساه تماماً، تأتي بعد ذلك طبقة الكهنة، كما أطلق عليهم إمام دائماً، والتي شملت القوى الناعمة بزعامة هند، تلك المهرة العربية الأصيلة التي استحالت عظام الأمور والأهداف الشامخة بين يديها، بسحر كلامها وربما بعض من دموعها إذا تتطلب الأمر، أشياء بسيطة سهلة البلوغ، ثم رجال الدين يتقدمهم الأخ الثالث الذي لم يتورع إمام أن يسميه مرةً ، إبليس، وأخرى، كاهن.
سمع إمام يوماً، وهو على حماره، عبارة "ما نيل المطالب بالتمني"، فرنّت الجملة على لسان أحد المارة في أذنيه، وصار يلوكها باستمرار بمناسبة ودون مناسبة حتى ضجرت منه زوجته، فألقت في وجهه حجراً أسكته تماما: "أشوف كلامك أصدقك، أشوف أمورك أستعجب"، ومما زاد الطين بله، تبسّم بعض أبنائه.
هاجت هائجته: "أنا عمري ما هنتكم ولا قصرت معاكم، الواقع والقدر فرض أكون خدام العيلة حظي كدا، وبعدين مزعلين نفسكم ليه، خادم القوم سيدهم".
هدأ إمام قليلاً، وأحس أن حاله ينافي كلامه، فهو من سادة المقهورين والمضطهدين وأئمة المظلومين، إنه جذام أكبر بكثير من أن تحتمله العاصمة، إنه وعاء يَقطُرُ بشاعة وخسة، ونريد أن ننتصر! وكيف ننتصر؟! ونحن نهلك أرواحنا لنجد مبرر لكل شيء، فهانت نفوسنا علينا وصرنا ملكيين أكثر من الملك بل مازوخيين نتلذذ العذاب.
زوج هند هو الابن الثاني لتلك الأم، التي كافحت، مع زوجها المُتَوَفى، في تربية أبنائها الأحد عشر بين ذكور وإناث أيما كفاح. أما ولدها الكبير فقد نفحته إحدى نفحات ثورة يوليو، أتاحت مجانية التعليم لأبناء الفلاحين أن يتعلموا، فاستطاع أن يتعلم ويحتل وظيفة مرموقة ذات وجهة اجتماعية عظيمة. وهنا وجب التأليه وصناعة الصنم ليصير رمز الارستقراطية الحاكمة في العائلة ونموذج البكويه والباشويه المعاصرة، والثالث رجل متدين ورع حافظ لكتاب الله، أما إمام فهو آخر حظها في الدنيا، وكان حظه بلا حظ مع عامة الشعب.
هناك مقولة يرددها إمام دائما "في بلدنا اللي بيتسمى بيتسمى، وعمرك ما تعرف تغير التسمية دية بعد كدا حتى لو بقيت طور في ساقية عشان تغيرها مستحيل تتغير".
وجد إمام نفسه خادما للعائلة بأسرها من إخوة وأخوات وأبنائهم، فبعد أن هيّأ الجميع لنفسه الحياة التي تروقه واختار الأنسب والأوجه بالنسبة له، لم تجد الأم سوى ابنها الأصغر كي تجعله عصاها التي تتكئ عليها، فسخرته لها في إدارة شؤون العائلة، وما أدراكم ما شؤون عائلة ريفية كبيرة، مناسبات أفراح ومآتم، مواسم وولائم، وهلم جرا، فصار الفلاح الذي يزرع ويقلع ويربي المواشي والطيور، ويبيع الجبن والسمن ويشتري الخضار والفاكهة، وكله يذهب في سبيل العائلة والتضحية من أجلها، وأصابه الجحود وإنكار الجميل، وعلى رأيه "ولا فلوس ولا حتى كلمة حلوة، إيه الأهر ده"، بكثير من الغضاضة والمرارة، فتارة يركن إلى الحزن وتارة يتظلم لدى أمه، فتنظر إلى ولدها بشكل حانٍ محاولة طمأنته، انطلاقا من قدسية الأم وعظمة مكانتها عند ولدها قائلة: "بكرا تكسب يا إمام وابقي افتكر كلامي وقول أمي قالت"، فهل يكسب إمام وينتصر؟
مع الوقت، خاصة بعد وفاة الأم التي كانت أحياناً حجر عثرة في طريق نهم أبنائها وجورهم على أخيهم الأصغر، بدأت الطبقية الاجتماعية تزداد فجوتها وبدت واضحة جلية داخل تلك العائلة، وأدرك إمام أنه يحتل أدنى تلك الطبقات وأكثره تهميشا.
تمثلت الطبقة الحاكمة الارستقراطية في الأخ الكبير، وللإنصاف التاريخي، لم يكن ديكتاتوراً أو مستبداً أو أنانياً من المنبع، لكن الحاشية من حوله أكثروا له المداهنة والرياء والكلام المعسول ليل نهار، فأعجب بنفسه وأخذته العزة عن قول الحق الذي ربما يقلب الدنيا رأساً على عقب ويهشم صنمه فتلاهى عنه حتى نساه تماماً، تأتي بعد ذلك طبقة الكهنة، كما أطلق عليهم إمام دائماً، والتي شملت القوى الناعمة بزعامة هند، تلك المهرة العربية الأصيلة التي استحالت عظام الأمور والأهداف الشامخة بين يديها، بسحر كلامها وربما بعض من دموعها إذا تتطلب الأمر، أشياء بسيطة سهلة البلوغ، ثم رجال الدين يتقدمهم الأخ الثالث الذي لم يتورع إمام أن يسميه مرةً ، إبليس، وأخرى، كاهن.
سمع إمام يوماً، وهو على حماره، عبارة "ما نيل المطالب بالتمني"، فرنّت الجملة على لسان أحد المارة في أذنيه، وصار يلوكها باستمرار بمناسبة ودون مناسبة حتى ضجرت منه زوجته، فألقت في وجهه حجراً أسكته تماما: "أشوف كلامك أصدقك، أشوف أمورك أستعجب"، ومما زاد الطين بله، تبسّم بعض أبنائه.
هاجت هائجته: "أنا عمري ما هنتكم ولا قصرت معاكم، الواقع والقدر فرض أكون خدام العيلة حظي كدا، وبعدين مزعلين نفسكم ليه، خادم القوم سيدهم".
هدأ إمام قليلاً، وأحس أن حاله ينافي كلامه، فهو من سادة المقهورين والمضطهدين وأئمة المظلومين، إنه جذام أكبر بكثير من أن تحتمله العاصمة، إنه وعاء يَقطُرُ بشاعة وخسة، ونريد أن ننتصر! وكيف ننتصر؟! ونحن نهلك أرواحنا لنجد مبرر لكل شيء، فهانت نفوسنا علينا وصرنا ملكيين أكثر من الملك بل مازوخيين نتلذذ العذاب.
سليمان موسى باكثير
خريج كلية العلوم/ قسم بيولوجي، يعمل في التحاليل الطبية، ويجد بعض العزاء في القراءة والكتابة.
سليمان موسى باكثير