الإقامة في عمامة الطيب صالح

18 فبراير 2015
+ الخط -

لسنوات، عبَّر كتاب سودانيون كُثر، وفي مناسبات مختلفة، عن ضيقهم بالبقاء "القسري" تحت سقف الطيب صالح الذي تحلّ اليوم ذكرى رحيله السادسة، وهو ما فَسَّر - في ما بعد - ردود الأفعال التي تجلَّت في محاولات عجولة لرفع بعض الأسماء، جزافاً، إلى مستوى أدب الطيب صالح، علماً أن تلك المحاولات باءت بالفشل، ولم تصمد أمام اختبار القارئ.

رغم كل ما كُتب عنه؛ لم يفهم السودانيون حتى الآن ما الذي يميّز أدب الطيب صالح ليجد كل ذلك الاهتمام. لذا لم تأتِ محاولات إنتاج أدب فلكلوري ساذج بالنتائج المنتظرة، ممن ظنوا أنهم ينتجون ما أعجب "الآخر" في أدب صاحب "عرس الزين".

ظلت الحيرة حاضرةً في نظرة الأدباء السودانيين إلى أعمال الطيب صالح، وهي حيرة تتجلّى في مواقف متناقضة يتّخذونها، مدحاً بإغداق، أو قدحاً بحذر، حين تجيء سيرة الرجل، أو حين النقاش عن سرّ اهتمام الآخر، العربي والأوروبي، بجوانب لا يرونها ذات بال في أعماله، على حساب جوانب أخرى لا يُنظر إليها.

تتعالى الأصوات بنفي اتهامات تَسبُّب الطيب صالح في الضعف والقصور والكسل الأدبي عند الكتاب السودانيين؛ لكن لا يمكن التعامي عن أن أكثر المنتج السردي السوداني، حتى اليوم، يعدّ ضعيفاً بالفعل، لدى مقارنته بأدب الطيب صالح.

ومع اعتبار أدب هذا الكاتب، بل رواية "موسم الهجرة إلى الشمال" بالذات، النموذج الأكثر كمالاً للكتابة في السودان، رغم أنها كُتبت في الستينيات؛ يبدو جلياً أن هناك معضلةً، قد يكون لها الإسهام الأكبر في كبح تطور الرواية السودانية.

من جانبٍ، كانت هذه "النمذجة" لعمل كلاسيكي يصنفه بعضهم ضمن "أدب ما بعد الاستعمار"، بأسئلته وقضاياه البعيدة بالضرورة عن الحراك الحديث؛ سبباً مباشراً في سَجْن السرد السوداني، حتى اليوم، تحت سقف الطيب صالح، بينما تغذّي القوة والسلطة التي اكتسبتها "موسم الهجرة إلى الشمال" في المشهد الأدبي العالمي هذه السيطرة المطلقة.

فحين نُشر هذا العمل، منتصف الستينيات، كانت الرواية في السودان لا تزال تحبو نحو التأسيس، فجاءت الهالة العظيمة التي حصَّلتها "الموسم" لتغطي على فرص التطور الطبيعي لفن السرد كما يجدر به؛ أي بعتبات متصاعدة وراسخة، وليس كطفرة مثل التي أحدثها الكاتب الراحل.

هناك جانب آخر يتعلق بنوع من الصراع يختلف عن ذلك الذي اشتغلت عليه "موسم الهجرة إلى الشمال". حيث يقودنا النظر إلى النفوذ الذي يتمتع به أدب الطيب صالح، في السودان على الأقل، إلى أن السبب الذي عزّز هذا النفوذ ليس بعيداً عن أزمة الهوية السودانية، وما يتبعها من تركيز من الهامش (السودان) على "مركز الهوية"، بانتظار أي شكل من أشكال الاعتراف به.

ظهر الطيب صالح في وقت كان السودانيون بحاجة إلى "بطل" يلتفون حوله، ويزاحمون به الشعوب، في ظل الفشل الذريع للنخب السودانية في ترك أثر يُعتدّ به قبل الطيب صالح.

لقد انبهر العرب، ثم الغرب به، فانبهرنا بمن بهرهم، وتشبثنا به، ومجَّدناه، واكتفينا به، وحتى حين أفاق العالم من انبهاره به لم نفق نحن، ولم نُفلت أيدينا ممن نتباهى حتى الآن بحصوله على اعتراف الجميع به/بنا.

من غير هذا السياق التاريخي، نشكّ في أن "موسم الهجرة إلى الشمال" كانت لتجد هذا "التقديس التابوي" الذي كرّسها على مدى عقود في السودان، سقفاً تُقاس عليه جميع الأبنية.

شاء أم أبى، فإن الطيب صالح مدمِّر ومعطِّل لتطور السرد السوداني، بتلك الحدود المقدّسة التي رسمها قبل نصف قرن، فدفعت الأكثرية إلى البقاء داخلها من أجل ضمان السلامة، ودفعت البعض إلى التوهّم أنهم قفزوا خارجها، ناسين أن الخروج ليس صعوداً دوماً.

إن المشهد الأدبي في السودان حديثٌ، وهشٌّ، لا يزال سائلاً في طور التشكّل. إنه ليس مثل الوضع في مصر مثلاً، حيث لا وجود لكاتبٍ واحد يحكم المشهد وتدور حوله كل الحياة الأدبية، بل نجد أسماءً كثيرةً وكبيرةً، وخيارات متوافرة للصاعدين، بينما توجد في السودان أيقونة واحدة أقوى من غيرها، مسيطرة، وأحادية، وقاهرة، حتى إن الكاتب يجد، وهو يكتب، رقيبين عليه: الطيب صالح، وذاته.

الآن، في ظل التغيرات الحادة والسريعة في الرؤى والمفاهيم، التي يشهدها السودان، ويمتد تأثيرها إلى أجيالٍ ورثت الأسئلة الإشكالية ذاتها، هل ننتظر أن تسفر الكثافة السردية الحادثة الآن، بغثّها وسمينها، عن انفجار سردي حقيقي يمثّل ثورة على سقف الطيب صالح، ويؤسّس من جديد لسردٍ يشبه قرنه الجديد هذا؟

إن الطيب صالح هو الأب الذي لا يريد أبناؤه قتله، أو لا يستطيعون، من أجل أن يمضي الجميع قُدماً خارج ظله الدافئ، قبل أن يصبح الحال شبيهاً بقول الشاعر خالد حسن عثمان في إحدى قصائده: "من يأسه قال السلطان لنا: ما خلقتكم أنا/ من يأسنا قلنا له: خلقتنا".

المساهمون