الإعجاز العلمي في القرآن: الكون في نص؟

23 يونيو 2017
عمل نحتي للأخوين مهدي ويحيى قطبي
+ الخط -

فتح الشيخ الأزهري طَنطاوي جَوهري (1870-1940) باباً جديداً في التفسير والدراسات القرآنية، حين أصدر طيلة السنوات الممتدّة بين 1922 و1935 موسوعةَ "الجَواهر"، والتي افتتحها بقولٍ سيصير دستورَ تأويلٍ لِمَن بَعده:

"خُلقت مُغرماً بالعجائب الكونية، مُعجباً بالبدائع الطبيعية، مَشوقاً إلى ما في السماء من جَمال، وما في الأرض من بهاءٍ، وكَمال آيات بيّناتٍ، وغرائب باهرات، ثم إني لمَّا تأملت الأمة الإسلامية وتعاليمَها الدينية، ألفيت أكثر العقلاء وبعضَ جلة العلماء عن تلك المعاني مُعرضين، وعن التفرُّج عليها ساهين لاهينَ، فقليلٌ منهم مَن فَكَّر في خَلْق العَوالِم، وما أودِعَت من الغرائب، فأخذت أؤلف لذلك كتابي".

ولم يُغلق هذا البابُ إلى حَدِّ الساعة، بعد أن سار في الناس ضرباً من ضروب التفسير، يستمدُّ إغراءه من إثبات التطابق بين إشارات النص القرآني واختراعات العلم الحديث، تَأكيداً لوَحدة المصدر الرباني تَنزيلاً وخَلقاً.

وقد دَرج مِن بعده المفسرون، بل وعامة المفكرين على التباهي بأنَّ القرآن كان سبّاقاً إلى اكتشاف القوانين العلمية وحقائق الظواهر الفيزيائية، وجهدوا في إظهار التوافق بين فحوى الآيات وغرائب الاكتشافات، وبَعضُ ذلك التوافق مُذهلٌ بالفعل، ولا مناص من التفكير فيه بعمقٍ، ومن أمثلته الشهيرة آيات تكوُّن الأجنَّة وتطوّرها، التي ذكرت في سورة "المؤمنون".

وتحوَّل تدريجياً هذا المنحى في التعليق على دقائق العلوم إلى جنسٍ من الخطاب على القرآن، ونهجٍ في المحاضرة عنه، أطلِق عليه عنوانُ: الإعجاز العلمي في القرآن، وموضوعه شرح آيات الكتاب، ولا سيما المتصلة بظواهر الطبيعة وقَوانين الحركة في الأكوان، على ضوء نَظريات العلوم الحديثة وما توصّلت إليه الأبحاث التجريبية، مع التأكيد على سبقِ القرآن إلى اكتشافها، والإشارة إليه ولو عبر تلميحاتٍ لم يفهمها المسلمون من قبلُ.

واشتهر في هذا الشأن الكاتب والطبيب المصري مصطفى محمود (1921-2009) في برنامجه "العلم والإيمان" الذي امتد لسنوات قَدَّم خلالها زهاء أربعمائة حلقة، وعالم الجيولوجيا زَغلول النجَّار (ولد سنة 1933) في تسجيلاته ومقالاته، بالإضافة إلى الطبيب الفرنسي موريس بوكاي (1920-1998) الذي نَشر سنة 1976، كتابَ "الإنجيل والقرآن والعلم"، يدافع فيه عن توافق الفرقان مع علوم العصر، مظهراً في ذات الآن ما اعتبره أخطاء الإنجيل، وبيعت منه ملايين النسخ بلغات العالم جُلِّها.

وهكذا سَاهمت الأشرطة المرئية والحلقات المُنتظمة في تثبيت هذه القناعة الإيمانية-العلمية، وصار استعراض المظاهر الطبيعية، أكانت متناهية في الكبر أو الصغر، تجسيداً لإعجاز القرآن العلمي، وشاعت مشاهد الكواكب والمَجرَّات والمحيطات والحيوانات والأجنة لدى جُمهور المشاهدين، أكثر من انتشارها بين القراء، لأنَّ البَرهنة انصبت على عرض المشاهد الكونية وربطها بالآيات.

ودعَّم أصحاب هذا المنزعَ رأيهم بمجموعة من الأدلة خلاصتها أنَّ اطرادَ التطابق الكلي بين مَضامين الآيات والوقائع العلمية الثابتة دليلُ ربانية القرآن، وهو ما يدَعو، في نظرهم، إلى القبول بتعاليمه ومبادئه، فالنبيَّ محمد ما كان قادراً، في بادية الجزيرة، على استكناه هذه المظاهر المُعقَّدة، الموغِلة في الصِّغَر كَالذَّرَّات، أو المفرطة في الكِبَر كالمَجَرَّات، في ظل المعارف البسيطة المتوفرة وقتها.

ويضيفون أنَّ الإعجاز العلمي، وإن ظهَر متأخراً، لا يناقض ما قاله المفسرون القدامى بل يعاضده، إذ "القرآنُ حمَّالُ أوجهٍ" كما جاء عن عليّ بن أبي طالب، في "نَهج البلاغة"، وهو زاخرٌ بتجليات التفرد، وبَعضها بياني، والآخرَ علميٌّ، ولا تعارضَ.

ومما يقوّي موقفهم، أنَّ هذا التوجه في التفسير يسمح بمخاطبة المؤمنين وغير المؤمنين، على حد سواء، بلغة العَقْل ونتائج العِلم، التي يستوي في تعقلها والقبول بنتائجها كلُّ أحد، مهما كانت قناعاته الدينية. وعندهم، خطابُ العلم من أقوم المسالك في نَشر الدين وتبليغه، ولاسيما حينَ يتصالح مع نصوص الدين، فيغدو اعتماده عينَ الحكمة.

وأما صمت القدامى عن فنّ الإعجاز العلمي، فكان بسبب عدم وصول الإنسانية آنذاك إلى هذه الاكتشافات، ولا تزالُ حقائق التنزيل ومعانيه تتكشف على مرِّ العصور، ولا تنقضي منه العجائب، بما هو نَصُّ يتعالى على التاريخ، ولا يُربط فحسب بأسباب النزول، شأنُه في التعالي شأنَ الأدب الخالد الذي يخاطب العقول مهما تغيَّرت الأزمان.

في مقابل ذلك، نَشط تيار يرفض هذا المَنزع في التفسير ويردّه. ودافع مؤيدوه بأنَّه لا يتيسّر شرح القرآن بفرضياتٍ، وإن كانت علمية، قد يَتَبَيَّن مع الأيام خَطؤها، وتتجاوزُها النظريات المتطورة باستمرارٍ، فضلاً عن تضاربها، فما يكون اليومَ حقيقة علمية، يمكن أن يُتجاوَزَ غداً، فيصير وهماً من العوائق الابستمولوجية، التي نَظَّر لها الفيلسوف الفرنسي غاستون باشلار (1884- 1962).

ويرفض هذا التيارُ طريقة الإسقاط والمغالطات، حين يُقرأ النص القرآني بمفاهيم غريبة على روحه وبيئته الدلالية، فلسانه عربيٌّ مبين، ولا يصحُّ تأويل كلماته بمعان حديثةٍ، لا صلة لها بمدلولات الآية، ولا بفحواها.

كما يشكك أصحاب هذا التيار في قدرة هؤلاء المحاضرين على تبليغ النظريات العلمية بدقةٍ ووفاءٍ لخطاب العلم الصارم، وليس جلُّ المفسرين من العلماء بالمعنى التجريبي للكلمة، وهو ما يجعل كلامهم تقريبياً انتقائياً. وهو ما يفضي إلى تشويه طبيعة النص القرآني، فتتلاشى فخامةُ الهدي والإرشاد الروحي، ويصبح أقرب ما يكون إلى أمشاجٍ من عقلياتٍ وتخمينات، ولا سيما تلك المتعلقة بحضور الأرقام بين السور والآيات، لا تَتَأتى إلا بعمليات ضربٍ وجمعٍ تُعيي متابِعَها ولا تَهديه.

واستندوا أيضاً إلى موقف المفسرين القدماء، ولا يخلو من وجاهةٍ، ومفاده قصر الإعجاز على خمسٍ وثلاثين ضرباً لم يُذكر بينها "الإعجاز العلمي"، أحصاها وأمتع بتفصيل ضروبها جلال الدين السيوطي (1445-1505) في كتابه "مُعترك الأقران في إعجاز القرآن". وجلهم يرى اختصاصَ الإعجاز بالنظم البياني ضمن مدرسة عبد القاهر الجرجاني وجار الله الزمخشري، وابن عاشور (1868-1973) وهو من مُعاصرينا.

وقد انتقدَ الأخير، دون هوادةٍ، هذا التسرّع، في مقدمات تفسيره "التحرير والتنوير" بالقول "تَهافَت الناس في تفسير القرآن، فَمنهم من يَضع الآية ثم يركض في أساليب المقالات تاركاً معنى الآية جانباً، جالباً من معاني الدعوة ‏والموعظة ما كان جالباً" مؤكداً أنَّ "العلوم العقلية إنما تبحث عن أحوال الأشياء على ما هي عليه، وإن كان فيما زاد على ذلك فذلك ليس من التفسير، لكنه تكملة للمباحث العلمية واستطراد في العلم لمناسبة التفسير ليكون متعاطي التفسير أوسع قريحة في العلوم".

احتدم جدل العلاقة بين العلم الحديث والقرآن في عصر النهضة العربية، ودافع جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده عن الوئام التام بين العقل والنقل، ودحضا اتهامات المستشرق الفرنسي أرنست رينان، وتطوّر بعدها هذا الجدل الذي اكتفينا بعرض أطرافه إلى ضربٍ من الخطاب عن صلات الأنا بالآخر، وصار استعراض نتائج العلوم الطبيعية، مَصدرَ افتخار، يعزِّي الهُوية المخذولة في تقابلها مع الغرب المتطوّر، وصار القرآن وما انطوى عليه من الحقائق، ذريعة لمقولة اللحاق بركب العلوم، عسى يعود للمسلمين مجدهم الغابر في مضمارها.

المساهمون