الإشارات بدل الكلمات

19 مايو 2016
جامعة الدول العربية بذلت محاولاتٍ مستميتةً لتوحيد المصطلحات(فرانس برس)
+ الخط -
هنالك أشياء تبقى في الذاكرة، وفي المخزون الثقافي للأمة، لا تضيع بضياع الحال، وتفرق الأحوال، وتبديد الأموال، وضياع الأجيال.
وقلت مرة ضاحكاً في مجمع من الخلاف: هنالك بوادر وحدة في الوطن العربي، فرئيس الوزراء المغربي اسمه العراقي، ورئيس وزراء الأردن اسمه المصري، ورئيس وزراء مصر اسمه الحجازي، ورئيس وزراء سورية اسمه الجزائري، فهذا يعني أننا أمة واحدة، أصولها تمتد من بعضها لبعض.
وقد بذلت جامعة الدول العربية، إن كنتم تذكرونها، محاولاتٍ مستميتةً من أجل توحيد المصطلحات، فالمنظمة العربية للعلوم الإدارية سعت إلى توحيد المصطلحات الإدارية، وبذلت مؤسسات أخرى جهداً جباراً لتوحيد المصطلحات المالية والمصرفية. ونجحنا في ذلك، إلى حد ما.
ولكن، هنالك أمثلة صارخة من حياة الناس العادية. خذ مثلاً فاكهة البطيخ. والبطيخ يسمى بطيخاً في بلاد الشام، ورقّي في العراق، وحبحب في السعودية، ودلّاع في المغرب العربي، خصوصاً تونس، ويسمى شماماً في بعض الأماكن. ولكن العنب والتين والزيتون والرمان، الفواكه المذكورة في القرآن، تبقى كما هي عند كل العرب.
ونجد أن جهابذة الكتّاب العرب والمسلمين ممّن صنّفوا كل شيء، ولكنهم قلّما التفتوا إلى تصنيف الفاكهة. ففي كتابه "الحيوان"، صنّف الجاحظ كل الحيوانات بأسمائها المختلفة. وفي "معجم البلدان" لياقوت الحموي صُنّفت المدن، وفي كتابه "وفيات الأعيان"، صنّف ابن خلكان أعيان قومه. وفي "مجمع الأمثال"، صنف النيسابوري الأمثال حسب موضوعاتها. وهكذا، فعل "القاموس المحيط" و"لسان العرب" المفردات حسب تواتر الأحرف الأبجدية.
وصنف ابن البيطار النباتات، وصنف آخرون النجوم، وهلّم جراً. ولكن الفواكه لم تصنف، علماً أن الجنة التي وعد الله بها عباده الصالحين الموحدين مليئةٌ بكل صنوفها مما تشتهي الأنفس.
يأخذ تعريب المصطلحات، أحياناً، وقتاً طويلاً، حتى يستقر عند معنىً متفق عليه، فالحاسوب أخذ وقتاً، قبل أن يُقبل اسمه ترجمة لكلمة "كمبيوتر". وكلمة مذياع بديلة لكلمة "راديو"، وقبلت. لكن كلمة "مرناه" للتلفزيون لم تُتداول بين الناس إلا بقدر قليل جداً.


هنالك مصطلحات مثل الحاكمية، أو الحكمانية أو الحكم الرشيد. وتجد أناساً يقضون ساعاتٍ يجادلونك حول أي من هذه الألفاظ هو الأدق لترجمة كلمة "غفرنانس"، بالانجليزية. ولكن أعجب هذه الترجمات، حسب ما تسعفني به الذاكرة، تحويل كلمة "برافيتايزيشن" إلى العربية. وقد تُرجمت إلى خصخصة، وتخصيص، وخصوصه، وخاصخصه، وخوصصه، وتخاصيه، وفردنه، وأهلنه. ودارت مشادات كلامية كبيرة، حتى استقرت عند واحدٍ من لفظين، هما الخصخصة أو التخاصية.
في الشرق، تستعمل كلمات للإشارة إلى الطرق، فنقول شارع، وزقاق، ودرب. أما في المغرب العربي فيستعملون مفرداتٍ أقرب إلى التراثية، مثل نهج، وجادّة، وزنقة.
مصطلح "التدريب" في المشرق العربي هو "تكوين" في المغرب، وحتى تركيبة الجمل أحياناً تختلف. والسؤال، هنا، هل نقبل هذه الفروق في الألفاظ والمصطلحات، أم أن نبذل جهداً كبيراً قدر المستطاع، وبكلف عالية من أجل توحيدها؟
لا شك أن التوسع والانتشار في استخدام التخاطب والتراسل الإلكتروني ووسائط التواصل الاجتماعي سوف تنقلنا إلى عالمٍ جديدٍ له لغته ومصطلحاته.

كم من شباب الجيل الجديد من هو مستعد لكي يقضي ساعةً، مثلاً، يستمع لأغنيةٍ واحدةٍ من أم كلثوم، وهي تردّد عشرات المرات "وحطيت على الخد إيدي ونا بودع وحيدي". إن أطول أغنية هذه الأيام لا تزيد عن أربع دقائق، إلا في حالات قليلة، بسبب الفواصل الموسيقية.
انتقلنا من الكتابة على ورق وصفحات طويلة متعدّدة إلى كتابة رسائل وردود فعل في سطر واحد. وفي أحيانٍ كثيرة، تسعفنا الصور المخزنة على الهاتف الذكي في التعبير عن رأينا. فإذا أعجبنا شيء، رفعنا إبهام اليد المضمومة، وإذا أضحكنا شيء عبّرنا عنه بصورة وجهٍ على شكل البدر وابتسامة. وهلم جراً.
هكذا، نعطّل لغة الكلام، حسب رأي أحمد شوقي في قصيدة "جارة الوادي"، إلى لغة العيون. وتصبح الألسنة بدون فائدة نطقية، حيث تنوب عنها إشارات اليد. وهكذا، يصبح التخاطب بالإشارة "البانتوميم" الأسلوب الدارج مستقبلاً.
إذا وصلنا إلى هذا المستقبل، فهذا يعني أننا عدنا إلى ما بدأ به أجدادنا من ألوف السنين، وهو التعبير الهيروغليفي بالصورة بدل الكلمة. إذا وصلنا إلى هذه الحالة، فماذا سيكون حال العالم كله؟ هل هذا يعني أن الشعر والكتابة سوف تموت. هل هذا يعني أن الأغاني ستصبح مجرد حركاتٍ تعبيريةٍ ساخرة، وصور بلا صوت؟ إذا كانت التكنولوجيا قد ضيّقت المساحات التي نكتب عليها، وضيق الوقت مع الكسل لا يسعفنا إلا باستخدام الرموز بدل الكلمات، فهل سيصبح التعبير الحركي وسيلتنا مستقبلاً للتواصل؟
أتت التكنولوجيا لتسهّل حياتنا، لكنها جعلتها أكثر مطلبيةً وإلحاحاً. لما كنا نستخدم الهاتف الثابت ابتدعنا أعذاراً لعدم الكلام مع شخصٍ لحوح. أما الهاتف الجوال فعذرك مقبول، إن أجلت الرد، لكنه غير مقبول إن قلت إن المكالمة لم تصل إليك.
يؤكد استخدام الغمامة الحاسوبية أن المعلومة تصل إليك أينما كنت، وأي جهاز استخدمت. وسهولة التطبيق والتوسع في التطبيقات الكثيرة يجعل مهمة الرد والقراءة والمتابعة مستهلكةً وقتاً كثيراً. وهكذا، صار الاتصال الآن سريعاً، غير إنشائي، ومستخدماً مفردات ورموزاً جديدة.
هذه الدورة في حياتنا تلزم علينا في الوطن العربي أن نزيد المحتوى اللغوي ونعمّقه، وأن نجد الوسائل لتعليم أطفالنا لغة التواصل المباشر، حتى لا يصبح العرب في عين شباب المستقبل مجرد أرقامٍ وشخوصٍ بلا وجوه.

المساهمون