الإسمنت المُخصّب

12 نوفمبر 2014

بات الإسمنت في غزة معادلاً موضوعياً لليورانيوم (Getty)

+ الخط -

بات الإسمنت في غزة معادلاً موضوعياً لليورانيوم المُخصّب في إيران. هناك الكثير مما استُثنيت منه غزة، سلباً، في حياتها المعذّبة. فهي المستثناة كهربائياً، باثنتي عشرة ساعة انقطاع، تقابلها اثنتا عشرة ساعة من الدوران. وهي المستثناة، سلباً، في المياه، إذ تتمخض الصنابير عن ماء من البحر. وهي المستثناة سلباً في حركة الناس، إذ يكون انفتاح منافذها، سويعات، الاستثناء، والقاعدة هي الإغلاق البليغ. وهي المستثناة سلباً، في الإغاثة الوطنية، أو الداخلية الفصائلية، إذ يُمارس عليها التقتير، بالقدر نفسه الذي أغضب، يوماً، فرع حزب المؤتمر الصومالي في هرجيسيا، مدينة الشمال، وأنام ريح الزعيم محمد فرح عيديد، إذ تحولت تلك إلى عاصمة لدولة موازية هي "دولة أرض الصومال". فعندما تتطلب حاجات تنظيم "المؤتمر" في منطقة منكوبة خمسين مليوناً، مثلاً، ويتلقى الحزب خمسين ألفاً، ولديه حصة من الشهداء، عددها 850، وتكون كُلفة القبور وحدها 85 ألف دولار، بواقع 100 لكل قبر.

ليس للإسمنت في أي بقعة من الدنيا الأبعاد التي له في غزة. فهو سلاح استراتيجي، يُرام نزعه. هو ملاط غزة المُخصّب. وكان المحتلون أول من اتخذه سلاحاً في النزاعات، حصل هذا مع والدي المرحوم. فقد ورث أبي وعمي السجل التجاري عن أبيهما الذي استشهد في 1956، وفيه توكيل للإسمنت الذي تنتجه حيفا. وبعد انتهاب فلسطين، حصلا على حق استيراده من مصر التي كانت مهد العجينة الأولى منه، أيام الفراعنة. ولما احتُلت غزة؛ فوجئ والدي بوصول ما يساوي 86 جنيها فلسطينياً، كان أبوه قد أرسلها ثمناً مسبقاً لطلبية إسمنت. فقد بات المصنع إسرائيلياً، وتريد إدارته تأسيس علاقة مع الزبائن في الأراضي المحتلة. وكان ذلك إيذاناً بأن استيراد الإسمنت ما زال متاحاً لنا. لكن المرحوم والدي رغب في استيراده من رومانيا، وهكذا كان.

في أوائل السبعينيات، أبلغ المحتلون والدي أنه ممنوع من استيراد الإسمنت، لأسباب أمنية، وعليه أن يقعد ويؤم الدواوين، وكان السبب محسوبكم، لأنه من فدائيي "فتح". كان المرحوم أبو عدلي رقيقاً، يزن كلماته، ويختبر وقع كل كلمة في عيني متلقيها، كمن يطمئن إلى حُسن وقعها، قبل أن يرفدها بالكلمة التالية. لم يشأ، وتلك سجيّته، أن يبلغني في زيارات السجن، بعدئذٍ، أنني كنت سبباً في انقطاع رزقه. كأنما استعاض عن احتباس الرزق بميّزة الاعتزاز بابنه المحارب الأسير. لكنني صُدمت صبيحة يوم، وحزنت، وتألمت ألماً عميقاً. كان "الصليب الأحمر"، في زياراته السجن، يطلبني للترجمة. قبل أن نبدأ جولتنا على الغرف في ذلك اليوم، جلسنا نحتسي القهوة في غرفة مخصصة للصليب الأحمر، تضم ملفات السجناء لدى المنظمة الدولية. تناولت ملفي للاطلاع عليه، وإذا فيه شكاوى عديدة على سلطات الاحتلال التي قطعت رزقه بسبب ابنه الذي غادر صغيراً إلى الأردن، في 1967!

تخرج شقيقي عادل من كلية الصيدلة في المنصورة، وتقدم إلى وظيفة في الصحة، فجاءه كتاب الرفض الذي ما زال في حوزته، مُعللاً بـ"أسباب أمنية"، معطوفة على أسباب الإسمنت. ولأننا شعب مثابر وطموح، ارتاد شقيقي آفاق عمل آخر، وواصل تحصيله العلمي إلى درجة الدكتوراه، فأخطأت رمية المحتلين للأسرة، بالإسمنت، هدفها. 

عندما تأسست السلطة الفلسطينية، استبشر إخوتي خيراً، فطلبوا استعادة الحق في استيراد الإسمنت. لكنهم فوجئوا بأن هذه المادة تعادل اليورانيوم المُخصّب عند حكومتنا أيضاً. فقد جعلته مادة في يدها حصراً عن طريق شركة أسسها محمد رشيد. أبرزوا رسالة المنع الإسرائيلية وسببها الوطني، دونما جدوى. لم يبلغني إخوتي، ولم تُتح لي العودة إلا بعد خمس سنين من "أوسلو". كنت سأقلبها على رأس رشيد ومن يشدّ على يده، لو أنني علمت. ونسينا حكاية الإسمنت المُخصّب!