الإسلاميون والحُكم وعيشُ الآخرة

03 ديسمبر 2014
السياسة في التُّراث الإسلاميّ، هي القيامُ بمصالح العباد (Getty)
+ الخط -

زعموا أنّ أردوغان، زمن ترشّحه لرئاسة بلدية إسطنبول، كبرى بلديات تركيا، قدّم لجمهوره برنامجًا انتخابيًا بسيطًا وواضحًا، قال: "سأجعلُ إسطنبول مدينةً نظيفة"! وكانت إسطنبول إذ ذاك غارقةً بين أكوام القمامة، ومياه "بسفورها" الجميل ملوّثة قذرة، ومعالمُها التاريخية يُغيّبها الإهمال والفساد!

لم يَعِد الرجلُ الناسَ بسيادة العالم، ولا بنهضة الأمة، ولا بإعادة الأمجاد، ولا بصناعة المعجزات! إنما قدّم لهم عرضًا زهيدًا لحلّ مشكلةٍ يُعاني منها كلُّ فردٍ منهم!

غابت هذه الحصافة عن أغلب طروحات الإسلاميين حين قدّموا أنفسهم للناس عقب الثورات العربية، ولعلّ ظروف الثورة، وطموح الناس بعدها كان له دورٌ، وفيه بعضُ العذر للإسلاميين حين رفعوا السقف عاليًا فيما عرضوه، وظنّوا أن بإمكانهم أن يصنعوه، مجاراةً للناس وتفاؤلًا! نظروا إلى النجوم، فسقطوا أسفل أقدامهم!

تحتوي الأدبياتُ التقليدية لدى الإسلاميين قدرًا لا بأس به من أفكار احتقار الدنيا وامتهانها، اعتمادًا على ظواهر آياتٍ وأحاديث تذمّ التكالب عليها، والطمع فيها، فأثّر هذا في طروحاتهم وطموحاتهم وخططهم لإقناع الناس بهم، واستمرارهم في الحكم، إذ سبّبَ هذا البُعد الأيدولوجي (كراهية الدنيا) خلطًا في أولوياتهم، وترتيب واجباتهم تجاه الناس، فلم يجعلوا الحياة المعيشية للناس على رأس مهمّاتهم.

يُعاني الناسُ في العالم العربيّ كثيرًا في حياتهم المعيشية، بل في تحصيل أبسط حاجاتهم الإنسانية، ولعلّه تبيّن بعد النجاحاتِ الكُبرى لقوى الثورة المضادّة، أن خُبز الناس والاستقرار المزعوم أهمّ عندهم من حُريّتهم، وأنّ الحاجات أكثر إلحاحًا بكثيرٍ في قلوب الناس من الأفكار! وبينما كان الإسلاميون غارقين في أحلامهم الأيدولوجية، كان الناسُ ينصرفون عنهم، ويتذمّرون منهم، وينقلبون عليهم، وكان شياطينُ الثورة المضادّة يوسوسون، ويعملون بجدّ واجتهاد!

المُشكلة الأخرى لدى الإسلاميين أنّ هذه النظرة الأُخرويّة لم تُلقِ بظلالها على كثيرٍ منهم في حياته الخاصّة، بل عاش بعضهم بعيدًا عن هموم الناس ومشاكلهم، ولم يُعانِ –في ظلال السلطة وما توفّره من مزايا- معاناة غيره من عموم الشعب، فزاد ذلك الطين بِلّة، وأظهرهم أكثر تناقضًا، وإن كانت الدنيا تبدو صغيرةً لدى أكثرهم من خلال استعدادهم للتضحية بكلّ غالٍ في المحن.

لقد تخيّل الإسلاميون النّاس أصبحوا بمجرد تصويتهم لهم جنودًا في مشروعهم، مستعدّين للصبر عليهم، والانتظار طويلًا ليروا الفرق يحصلُ على أيديهم، ورُبّما توّهموا أن عموم الناس يشتركون معهم في قناعة، "اللهم لا عيشَ إلا عيشُ الآخرة"! وإذا كان أكثرُ الإسلاميين لم يلتزم هذه الكلمة النبويّة النيّرة في حياته الخاصّة، فكيفَ يُتصوّر من العامّي أن يرضى بها!

إنّ السياسة في التُّراث الإسلاميّ، هي القيامُ بمصالح العباد، وقد غفل الإسلاميون عن أهمّ معاني السياسة الشرعيّة حين ساسوا النّاس، فلم يعرفوا أنّ فشلهم في تحقيق أيّ تقدّمٍ ملموسٍ في الحياة المعيشية لمحكوميهم سيكون الثغرة التي يلجُ منها أعداؤهم لهدم مشروعهم كلّه على رؤوسهم، برضًا من أكثر الناس الذين راهن عليهم الإسلاميون وظنّوا أنّهم قد امتلكوا قلوبهم!

لقد ركّز أعداءُ الثّورات وأربابُ الثورة المضادّة تحديدًا في هذه النقطة التي أغفلها الإسلاميون، وسعوا في الأرض إفسادًا وتخريبًا وتدميرًا لحياة الناس، وجعلوهم يعانون في كلّ تفصيلٍ من تفاصيل حياتهم، وقد نجحوا بالفعل في تحريضهم، وصرفِ وجوههم عن الثورة إلى الحنين إلى الطواغيت، ولعن الثوار، وذمّ الحُريّة وطُلّابها.

سارت خُطّتهم على أحسن وجهٍ في مصر، ولم تكن تونس بعيدةً، وقد سمعتُ بعض أهلها يتذمّرون من تأخر ثمار الثورة في حياتهم اليومية، بل وظهور بعض الخلل منذ قيامها، وتوهّم إصلاح الأمور بعودة فلول "بن علي" من جديد، ولولا تعثّر النظام الجديد في مصر بعد الانقلاب، لفاز السبسي في الانتخابات من الجولة الأولى.

ولئن نجّى الله القلعة الأخيرة للربيع العربيّ (تونس) من مصيرٍ بائسٍ في انتخابات الإعادة، أو أسقط أيًا من الحكام الظلمة في غيرها، فإنّه سيكون لزامًا على من سيتولّى الحُكم، إسلاميًا أو غيره، أن يضع حياةَ النّاس اليوميّة نُصب عينيه، ومشاكلهم المعيشية أعلى سُلّمه، وأن يُقدّم سريعًا برهانه فرقًا واضحًا بين الحياة تحت حكمه، والحياة في كنف حكام الجور، فإذا ما فعل ذلك، وحاز ثقة الناس، التفت إلى مشروعه وطموحاته النهضوية الشاملة.

ولئن لم ينتبه الإسلاميون إلى هذه الثغرة، ويعيدوا ترتيب أولوياتهم وفق ما جرّبوا، فإنّهم لن يكون لهم عيشٌ فعلًا إلا عيشُ الآخرة، لا عن اختيار، وإنّما رغم أنوفهم، وبأيدي أعدائهم!

المساهمون