الإسرائيليون أمام جدل الجغرافيا المحدودة والديموغرافيا المتكاثرة
عُرف الصراع الفلسطيني – الإسرائيلي صراعاً شاملاً بامتياز، وقد أعطي من طرفيه طابع الصراع الوجودي، حتى وإن زُعم أنه حدودي أحياناً. وقدم في جوانبه المركزية صراعاً على الجغرافيا وصراعاً عبر الديموغرافيا، الأول محدود بحدود الجغرافيا الفلسطينية، وما تخللها، وهي لا تنتج تكاثراً بل تعدداً، والثاني صراع عبر الديموغرافيا غير محدود، بل مفتوح وممتد عبر الأجيال التي ينتجها التكاثر الديموغرافي، وتقوم بدور في خوض الصراع وآفاقه، وحتى في أجزاء جغرافياته ومصائره.
احتلت الجغرافيا والديموغرافيا مكاناً مركزياً في التفكير الصهيوني والإسرائيلي الاستراتيجي، قبل إنشاء إسرائيل وبعدها، وصولاً إلى زمننا الراهن، كما تكشف عن ذلك محاور أبحاث وتوصيات مؤتمرات هرتزليا الاستراتيجية السنوية، وتوصيات غيره من مؤتمرات وندوات مراكز الأبحاث الاستراتيجية في إسرائيل.
وقد حرصت الحركة الصهيونية (جغرافياً) على عدم تعيين حدود الكيان، أو الوطن الذي سعت إلى إقامته على أرض فلسطين وجوارها، بسبب الخلافات بين أجنحتها، إلى أن صدر وعد بلفور عام 1917 بإقامة وطن قومي لليهود في فلسطين التي وضعت تحت الانتداب البريطاني، في وقت كانت فيه المفاوضات جاريةً بين الخبراء البريطانيين والفرنسيين، على تفاصيل تعيين الحدود السياسية لكل من العراق وسورية والأردن ولبنان وفلسطين، ولم تنته تلك المفاوضات، حتى منتصف القرن العشرين تقريباً.
الحدود والاحتلال
أدرك قادة الحركة الصهيونية مبكراً أن أمر تعيين حدود الدولة التي يريدون لن يكون بقرار منهم، أو بيدهم، وإنما بقرار ويد الدولة الواعدة والراعية لإنشاء هذه الدولة، خصوصاً بعد أن أعلنت بريطانيا بعيد سنوات على صدور وعد بلفور عن إنشاء إمارة شرق الأردن، وتولية الأمير عبد الله بن الحسين أميراً عليها، ما اعتبره صهيونيون كثر إخراجاً لشرق الأردن من حدود الوطن الموعود، وقد اختلفوا مع بريطانيا بشأنه، ورفضوا الاعتراف أو الإقرار به، عقوداً بعدها. ثم عادوا واختلفوا مع بريطانيا، في نهاية ثلاثينات القرن الماضي، عندما أصدرت الكتاب الأبيض الذي اقترح تقسيم فلسطين الانتدابية إلى دولتين، فلسطينية ويهودية. واستمر الأمر كذلك إلى أن تم إقرار تقسيم فلسطين في الأمم المتحدة عام 1947، بضغوط أميركية، وإلى أن أعلن في تل أبيب في الخامس عشر من مايو/ أيار 1948 عن إقامة إسرائيل (بدون تعيين حدود لها)، والتي سيطرت عليها في أثناء حرب 1948 وبعدها على معظم أرض فلسطين (78 % منها)، وقد جرى الاعتراف الدولي بإسرائيل، غداة الإعلان عن تأسيسها في الحدود التي أقيمت واستقرت بها، بعيد حرب 1948، وقدم البيان الثلاثي (الأميركي والبريطاني والفرنسي) الذي صدر عام 1951 الحماية لها في تلك الحدود.
وعلى الرغم من احتلال إسرائيل الضفة الغربية، بما فيها القدس الشرقية، وقطاع غزة عام 1967، والذي شكل بمفهومها استكمالاً لاحتلال أراضي فلسطين الانتدابية، إلا أن قادة إسرائيل لم يستطيعوا تسويق هذا الاحتلال، بوصفه استكمالاً للسيطرة على الأرض الموعودة، أو تحريراً لها، خصوصاً بعد أن ادعى رئيس وزراء إسرائيل السابق، ورئيس حزب حيروت وتكتل الليكود المتطرف، مناحيم بيغن، (عام 1977)، أن أراضي الضفة والقطاع أراض إسرائيلية محررة، وأنه سيمنح سكانها الفلسطينيين حكماً ذاتياً، يشمل السكان دون الأرض الموصوفة بأنها إسرائيلية وملك لليهود وليس للفلسطينيين. وقد رفض المجتمع الدولي ادعاءات بيغن وغيره من قادة إسرائيل، وأصر على اعتبار الضفة والقطاع أراض فلسطينية تحتلها إسرائيل، وعليها إنهاء احتلالها واستيطانها غير الشرعي فيها.
لم يستطع قادة إسرائيل فرض ما يريدون من حدود، حتى على حلفائهم، ولم يستطيعوا فرض تلك الحدود بقوتهم الذاتية، عبر استيطانها وتهويدها بالكامل، واضطروا للإذعان (أقله حتى الآن) بأن حدود إسرائيل مع دول الجوار هي التي رسمت في زمن الانتدابين الفرنسي والبريطاني، وأن حدودها مع الضفة والقطاع هي التي كانت قائمة عشية حرب يونيو/حزيران 1967 (ما يعرف بالخط الأخضر)، بما في ذلك القدس الشرقية، وأن الدولة الفلسطينية ينبغي أن تقام في هذه الحدود.
حقائق الديموغرافيا وتحدّيها
وبقدر ما توقف القادة الصهاينة والإسرائيليون عند البعد، أو المكون الجغرافي والحدودي لمشروعهم، توقفوا، أيضاً، عند البعد أو المكون المركزي والاستراتيجي الثاني له، وهو البعد الديموغرافي. فقد كان الطموح الثاني لهم أن يتم جمع يهود العالم في الدولة التي يسعون إلى إقامتها، بعد طرد الفلسطينيين منها، لكنهم، وبعد مرور أكثر من قرن على انطلاقة الدعوة والنشاط الاستيطاني الصهيوني، ومرور 64 عاماً على إنشاء إسرائيل، وما حققته عسكرياً واقتصادياً، وما احتلته من أراض عام 1967. وبعد ما قدمه الحلفاء لها من دعمٍ متعدد الأشكال لاستجلاب اليهود إليها من مختلف دول العالم، وتمكينهم من العيش فيها في ظروف اقتصادية واجتماعية جيدة، لم تستطع إسرائيل، بعد ذلك كله، اجتذاب يهود العالم. فتعداد اليهود الذي يقيمون فيها، الآن، لا يزيد كثيراً عن ستة ملايين يهودي، أي أقل من نصف عدد اليهود في العالم، والبالغ 14 مليون يهودي (ستة ملايين يقيمون في إسرائيل، وأكثر من خمسة ملايين في أميركا، وأقل من نصف مليون في فرنسا وكندا، والباقي في بريطانيا وروسيا والأرجنتين وألمانيا ودول أخرى).
ويواجه حكام إسرائيل، اليوم، أكثر من معضلة على صعيدي الجغرافيا والديموغرافيا والجدل المحتدم بينهما:
أولاً-أن العالم، بما فيه الحلفاء لإسرائيل يعترف للفلسطينيين بالحق في إقامة دولة لهم في الضفة والقطاع، ويعتبر الوجود الإسرائيلي فيهما وجوداً احتلالياً، وأن على إسرائيل الانسحاب منهما، لتمكين الفلسطينيين من إقامة دولتهم.
ثانياً-تعداد الفلسطينيين في الضفة والقطاع يبلغ نحو 4.5 مليون نسمة، وتعداد الفلسطينيين في الأراضي التي احتلتها إسرائيل عام 1948 يبلغ نحو مليون ونصف مليون نسمة. وبذلك، يبلغ مجموع الفلسطينيين الموجودين، الآن، على أرض فلسطين التاريخية ستة ملايين نسمة. وإن عدد اللاجئين الفلسطينيين خارج الأراضي الفلسطينية يبلغ نحو ستة ملايين نسمة (40 % منهم في الأردن و20% في لبنان وسورية).
ثالثاً - تقول الدراسات والتوقعات الديموغرافية إن عدد السكان اليهود والفلسطينيين في إسرائيل وفي الضفة والقطاع سيتساوى، بعد عام ونصف، أي في نهاية 2016 (6.4 مليون فلسطيني ومثلهم من اليهود)، وإن عدد الفلسطينيين سيزيد عن عدد اليهود فيها بعد أقل من أربع سنوات (عام 2020) حيث سيبلغ عدد الفلسطينيين 7.2 مليون نسمة، مقابل 6.9 مليون يهودي (51.2% فلسطينيين و48.8 % يهود).
رابعاً - التكاثر الديموغرافي الفلسطيني واليهودي مستمر، على الرغم من محدودية الجغرافيا. فهذه الملايين من الفلسطينيين واليهود (أكثر من 12 مليون نسمة) تعيش، حالياً، على أرض فلسطين الانتدابية، والتي تبلغ مساحتها 27 ألف كلم مربع. وقد استولت إسرائيل عام 1948 على 78% منها (20.770 كلم مربع) ويعيش عليها، الآن، ستة ملايين يهودي، ومعهم نحو مليون ونصف مليون فلسطيني. بينما يعيش نحو 4.5 مليون فلسطيني على 22 % من مساحة فلسطين (مساحة الضفة والقطاع)، مما يعني أن ثمة اكتظاظاً سكانياً عالي النسبة، الآن، وأن الأمور ذاهبة إلى اكتظاظ أكبر في السنوات والعقود القليلة المقبلة.
خامساً - ما يزيد الاكتظاظ السكاني هو الحقيقة الجغرافية القائلة إن مساحة فلسطين تبلغ 27 ألف كلم مربع، وإن إسرائيل أقيمت على 20.770 كلم مربع، وإن مساحة الضفة والقطاع تبلغ 6.220 كلم مربع (5.860 كلم مربع للضفة و360 كلم للقطاع)، والأهم، على هذا الصعيد، أن مساحة إسرائيل البالغة 20.770 كلم مربع ستضيق كثيراً (إلى الثلث تقريباً)، إذا ما حسمت منها مساحة صحراء النقب البالغة 14 ألف كلم مربع، بوصفها أرضاً صحراوية قاحلة غير مسكونة، على الرغم من الجهود الحكومات الإسرائيلية، خصوصاً في منطقة بئر السبع (عدد سكان مدينة بئر السبع 194 ألف نسمة، بما فيه من بدو فلسطينيين)، وفي مدينة إيلات ومينائها على البحر الأحمر (عدد سكان إيلات نحو 46 ألف نسمة)، فمساحة النقب تساوي أكثر من نصف فلسطين الإجمالية بقليل. وإذا ما تم حسم مساحة النقب، يصبح المتبقي من مساحة فلسطين 13 ألف كلم مربع، منها 6.220 كلم مربع للضفة والقطاع، و6.880 كلم مربع لإسرائيل. وتوضح هذه الأرقام الجغرافية والديموغرافية أن عدد الفلسطينيين والإسرائيليين في إسرائيل والضفة والقطاع، والبالغ حالياً نحو 12 مليون نسمة، يعيشون على مساحة تقدر بـ 13 ألف كلم مربع (أي ما يقرب من مليون نسمة على كل ألف كيلو مربع).
ويكتشف قادة إسرائيل، الآن، محدودية الجغرافيا والديموغرافيا الإسرائيلية، وأن هذه الجغرافيا بالكاد تستوعب الديموغرافيا اليهودية الموجودة عليها، إن لم نقل إنها (أي الديموغرافيا اليهودية) أصبحت أكبر من قدرة الجغرافيا على تحملها واستيعابها.
وربما يدرك قادة إسرائيل، أو على الأقل المفكرون الاستراتيجيون الإسرائيليون، أن قوة إسرائيل، ومعها قوة الحلفاء، لم تمنحها الجغرافيا التي أرادتها وطمعت بها، ولم تمنحها حتى أرض فلسطين الانتدابية بالكامل، وهذه القوة لم تجلب لها ديموغرافيا يهودية، أكبر مما هو موجود عند الخصم الفلسطيني المقاوم. وربما يدركون أنهم للخروج من المأزق الاستراتيجي الذي تذهب إليه إسرائيل، عبر جدل الجغرافيا والديموغرافيا، لا بد من العودة، عاجلاً أو آجلاً، إلى التفاوض مع الفلسطيني، للانسحاب من الضفة والقطاع، وإقامة دولة فلسطينية مستقلة، قبل الاضطرار إلى العودة عن قرار حل الدولتين، والذهاب باتجاه ما يعرف بحل الدولة الواحدة.
وتقول حقائق الجغرافيا والديموغرافيا أن المأزق استراتيجي وكبير، أيضاً، للفلسطينيين، إذا ما احتسبنا اللاجئين الفلسطينيين، بملايينهم الستة حالياً، وحقهم في العودة، سواء عبر حل الدولتين، أو حل الدولة الواحدة.