08 نوفمبر 2024
الإخوان والأزمة السياسية في مصر.. مراجعة نقدية
بينما تتفاقم الأوضاع الإنسانية في مصر، يحاول ممثلو جماعة الإخوان المسلمين ترويج انطباع بوجود انتصاراتٍ لا تدفعهم إلى البحث عن تسوية للأزمة السياسية. ومن دون النظر في مآلات رفضهم الوضع القائم أو البدائل المتاحة، وهو ما يثير النقاش بشأن طبيعة توجهات الجماعة بعد الانتخابات الداخلية في 2009، وانعكاس صعود الأيديولوجيا المحافظة/ الراديكالية وهيمنتها على القدرات التصحيحية والتفاوضية، في ظل تغيرات متسارعة في المجتمع والدولة.
بين السرية والعلنية
أعلن المرشد السابق، مهدي عاكف، عن سياسته لمكافحة السرية داخل حركة الإخوان المسلمين. وعلى الرغم من النجاحات المحدودة في تفكيك الطابع السري، فإنه لم يستطع إكمال مشواره بعد عام 2007، حيث لقي قيودا وعقبات كثيرة حالت دون المضي في مشروعه لطرح الجماعة حركة علنية، وتبلورت ولاءات حارج النسق الإداري الرسمي، ونشأت حالة من الازدواج، أدت في النهاية إلى تهميش المرشد العام والسيطرة على صنع القرار.
كان التردد ما بين السرية والعلنية السمة الرئيسية لمناخ ما قبل الانتخابات، ولم تظهر الانتخابات مسألة خلافية حتى منتصف أكتوبر/ تشرين الأول 2009. ولكن مع توجه مهدي عاكف إلى تفويض صلاحياته، ثار على إثرها جدل، أدى إلى سحب فكرة التفويض، وقد شكلت الحادثة نقطة الانقلاب في التركيبة الداخلية لحركة الإخوان المسلمين، وسارت الأحداث التالية في اتجاه تغليب إجراء الانتخابات قبل منتصف يناير/ كانون الثاني 2010.
وفي سياق الخلاف على كيفية إجراء الانتخابات، ظهرت ثلاثة بدائل؛ إجراء الانتخابات قبل يناير 2010، أو تأجيلها ستة أشهر، أو تأجيلها لمدة عام، كما وقد جاءت النتائج 37 و32 و16 صوتا على الترتيب، وظهر اختلاف في تفسير النتائج، فهناك اتجاه رأى أن الأغلبية مع التأجيل، فيما رأى اتجاه آخر أن الأغلبية النسبية مع الإجراء الفوري، وهذا ما يبدو على خلاف القواعد العامة لاحتساب النتائج التي تقوم على أساس الأغلبية المطلقة في كل المستويات التنظيمية.
كان العيب الرئيسي في تصميم الاستطلاع الداخلي، حيث طرحت ثلاثة خيارات في مسألة واحدة، من دون أن يعطي مدلولا محدداً لتعريف كل منها، سواء بالإجراء الفوري أو التأجيل، وهو ما أثار الجدل بشأن مرامي تشتت أصوات مؤيدي التأجيل بين خيارين، لا معنى لهما من الناحية الواقعية، ليجري استطلاع آخر على المسألة نفسها، وفي ظروف استقطاب حادة، وفي ظل تفاقم الجدل بشأن الالتزام بحرية المعلومات، ظهر خلاف آخر. وفي هذا السياق، تم استدعاء آراء قانونية. وجاء رأي القانوني فتحي لاشين تأجيل الانتخابات متفقاً مع المبادئ العامة للقانون. وعكس رفض مكتب الإرشاد هذا التفسير جوانب اختلال السلطة الداخلية، وهي صيغة تماثل استدعاء محمد الراشد وإصدار رأيه بالاعتماد على رواية مفردة، وهو تدخلٌ لا يخلو من العيب، حيث بدا الرأي من دون توافر العناصر الكاملة لبحث الخلاف، ما يرجح أن العودة إليهما كانت في نطاق الاستظهار وطلب المساندة.
بعد شغل الراديكاليين المواقع الحيوية، أوجدت انتخابات 2009 نوعا من الأزمة الداخلية الممتدة، وظلت آثارها مستمرة منذ 2010، حيث شهدت الجماعة سلسلة من حالات الاستبعاد والانقسام والاستغناء. وعلى الرغم من أن اتجاهات التصويت ظلت تعكس التنوع داخل "الإخوان المسلمين"، لم يظهر لها أثر في السياسات الداخلية والخارجية، وكما ظهرت حالة الوحدة في إدارة الحزب، وفرض الدخول في انتخابات الرئاسة، والانفراد باختيار المعاونين لرئاسة محمد مرسي، اتجهت كل السياسات إلى تعزيز فرص الصدام والاستقطاب على مدى الفترة، وهي مسألة مثيرة للاهتمام، وذلك من وجهة أن الانقسامات الحالية امتداد لحالة الوحدة.
وقد شكل احتكار الملف المالي، أو غموضه، إطاراً عاماً لتفسير الفساد الواسع، وإساءة اتخاذ القرار، فقد ساهم اجتماع السلطتين، التنظيمية والمالية، في سيادة النزعات الفردية والشخصية، وساعد على تكوين شبكات ولاء محورية، ساندت الإخلال باللوائح وإهدار المحاسبة، وهذا ما يفسر أنه على الرغم من الأداء السيئ، ظهرت ممانعة في التنازل عن المواقع التنظيمية.
من الجماعة إلى الدولة
على الرغم من تكوين حزب الحرية والعدالة، هيمنت حركة الإخوان على كل النشاطات السياسية، بداية من تشكيل قيادته وانتهاء بقرار دخول انتخابات الرئاسة. وبهذا المعنى، لم يمثل الحزب شخصية اعتبارية مستقلة، ما أفقده دوره السياسي، وأضعف وضعه القانوني، بحيث صار أقرب إلى حزب فئوي. ولذلك، كان في غالب حياته عبئاً إدارياً، واستمر في العمل جهة طفيلية ليس في وسعها الاقتراب من السياسة، وهذا ما يفسر الانهيار السريع لتجربته السياسية. وشهدت الفترة اللاحقة لتأسيسه هندسة نقل الموالين إلى المواقع السياسية والتنظيمية، لتكتمل السيطرة على الحزب في أكتوبر/ تشرين الأول 2011، وترشيح القوائم الانتخابية وإدارة الحملات الانتخابية، والانفراد باتخاذ قرار دخول انتخابات الرئاسة.
وعلى الرغم من الحديث عن محاولات مرسي للاستقلال بقراراته، لم تكن محاولات دخول قيادة "الإخوان المسلمين" المباشر على السلطات الرسمية طي الكتمان، بحيث يمكن القول إن رئاسة الدولة مثلت امتدادا لمواقف الجماعة، ما شكل نوعاً من السلطة الضعيفة كانت مصدراً للقلق وعدم الاستقرار، وثمّة جدل بأن تطلع القيادي في الجماعة، خيرت الشاطر، للقيام بدور سياسي كان عاملاً مهما في ارتباك عملية صنع القرار، كما يفسر تدخل الجيش في يوليو/ تموز 2013 بسبب القلق من نفاذ "الإخوان" إلى جهاز الدولة.
لم تكن الدائرة المحيطة بمرسي الشكل الوحيد للدور السياسي للشاطر، فقد كانت هناك أدوار أخرى، كاستقبال بعض الممثلين الأجانب وبعثة صندوق النقد الدولي. وبعد إقرار الدستور، ظهرت حملات من "الحرية والعدالة" ضد حكومة هشام قنديل، كما كانت هناك مساعٍ لم تكتمل لمنصب رئيس الوزراء، والقيام بدور في السياسة الخارجية (الحكومة الليبية 2013)، بحيث يمكن القول إن سلطة الدولة لم تكن في مساراتها الرسمية، وبشكل ساهم في تفكّكها وسارع من تداعيها. وبعد تدخل الجيش، ظلت علاقات الهيمنة والسيطرة متمثلة في اعتبار الشاطر وجهة التفاوض مع الوفود الأجنبية.
بشكل عام، لا يعد النمط الفردي عيبا بحد ذاته، لكنه يتوقف على القدرة على الإنجاز، وفتح آفاق جديدة، لكنه على الرغم من الجرأة بدخول نطاقات سياسية جديدة، ظهرت إساءة واضحة لتقدير الموقف ولتوظيف الموارد، حيث كانت نتائج كل الاختيارات، خلال السنوات الماضية، سلبية وكارثية. ويعد الجمود على النزيف منذ 2013 من العلامات البارزة على فقدان الديناميكية. وعلى الرغم من احتدام الأزمة، استمر موقف الجماعة بعدم إدراك حقيقة الوضع السياسي، والنظر إليه سحابة صيف عابرة.
الصدام استراتيجية
ويمكن تحليل سياسات الإخوان المسلمين في مصر منذ 2011 باعتبارها سلسة من الصدامات المتتالية. وقد ظهرت على مدى الفترة أربع أزمات، شكلت الملامح العامة للمشهد السياسي، كان رفض وجود مبادئ فوق دستورية ( وثيقة السلمي) أول هذه الصدامات، حيث انصب هدفها على إبعاد الجيش عن الشؤون المدنية والسياسية. وعلى الرغم من اتساق هذا الهدف مع الوضع السياسي، كشفت الأحداث اللاحقة أنه لم يكن توجها سياسياً، بقدر ما هو السعي إلى تشكيل المعادلة السياسية قبل الانتخابات التشريعية.
وكان الصدام الثاني متمثلاً في التحول المفاجئ ضد حكومة كمال الجنزوري، من دون التشاور مع الهيئة البرلمانية للحزب. وعلى الرغم من حدة الانتقادات للحكومة، ظلت هذه المشكلة معلقة حتى انتهاء الانتخابات الرئاسية (2012)، لم يقتصر الأمر على استبعاد عبد المنعم أبو الفتوح من "الإخوان"، وإنما تم تغيير السياسة لمزاحمته في انتخابات الرئاسة.
وقد شكّل دخول انتخابات الرئاسة واحدا من الصدامات المركّبة، فهو لم يرتبط فقط بالصراع مغ الجيش، لكنه كان وثيق الصلة بالصراعات مع الكيانات المدنية والحزبية. وهنا استندت حملة التعبئة والحشد لقرار الترشح للرئاسة على ثلاثة مكونات: القلق من حل مجلس الشعب وفقدان التأثير السياسي، رفض المجلس العسكري لإعادة تشكيل الحكومة، وبجانب مزاحمة المرشحين ذوي الخلفية الإسلامية، كان هناك قلق من زخم حملة أبو الفتوح، وقد روّجت الجماعة مقاربةً ما بين أبو الفتوح وجمال عبد الناصر، بما يوحي بتوقع سياسات عدائية، حيث ثارت الدعاية بإمكانية تكرار أبو الفتوح تجربة عبد الناصر بقمع الجماعة ونشر العلمانية ومحاربة الالتزام الديني. وتبدو هذه النقطة مهمةً من وجهة أنها شكلت المرحلة الثانية من الصراع بين الراديكاليين وأبو الفتوح لإبعاده عن المجال الإسلامي، وهو ما يكشف نوعا من الخصومة الثأرية مع ما يعتبرونه تهديدات محتملة.
وعلى مسار مواز، كانت انتخابات 2009 قد عزّزت الآراء التي تنظر إلى التجربة التركية وأفكار رجب طيب أردوغان تعبيرا عن مشروع علماني، فقد نشر "الإخوان المسلمون" ثلاثة تعليقات في بداية أغسطس/ آب 2007 لكل من جمعة أمين، علي بطيخ، محمد مرسي، تعكس أن الجماعة اتخذت موقفاً رسمياً باعتبار أردوغان حالة انشقاق، وخروجا على نجم الدين أربكان، وارتكزت في تناولها على أن حزب العدالة والتنمية علماني، يسعى إلى رضى الغرب، وله علاقات مع إسرائيل وحلف الأطلسي، ولذلك لن يستطيع الوصول إلى الدولة الإسلامية. وقد استمرت هذه القناعات بعد 2011، بشكلٍ يصنف الحزب خارج نطاق الأحزاب الإسلامية.
وظهرت مؤشرات استعلاء (برئاسة محمد مرسي)، مع بداية 2013 عندما رفض التنبيه إلى احتمالات حدوث انقلاب، وهذا ما يثير التساؤل بشأن الأشكال المحتملة للعلاقة بين تركيا وحكم "الإخوان" في مصر، وخصوصاً مع هيمنة المجموعة الراديكالية، وتبنيها فكرة أن مصر تمثل مركز الحكم أو الحركة الإسلامية في العالم.
وشكل تراكم الخلافات مع مؤسسات الدولة الأرضية الملائمة للصدام مع الجيش مع منتصف 2013، فقد تركت قيادة "الإخوان" الأزمات من دون الاقتراب من حل سياسي أو تسوية بشأنها، وتعاملت مع تصريحات القوات المسلحة وتحذيراتها بطريقةٍ تبدو غير مفهومة، لكنها لا تعفيها من المسؤولية عن الأحداث اللاحقة، حيث رأى مسؤولون الاحتجاجات انفعالات مؤقتة، وسوف تعود الأوضاع إلى طبيعتها، ولذلك لم تقبل بالانتخابات المبكرة لتهدئة الأزمة، وتفاوضت على عودة محمد مرسي كما لو كان يمارس سلطته فعلياً. وقد يفسر قصور إدراك حقيقة الأزمة تصرفاتٍ كثيرة في تلك الفترة. ولكن من المرجح أن الجماعة أدارت الدولة بخبرتها في إدارة التنظيم، واعتبرت مجرد الاستمرار في المنصب أمرا كافيا وقادرا على التصدي لكل التهديدات.
العامل المشترك بين هذه الأنماط المختلفة من الصدام غياب التفكير في الحلول البديلة، وترك الأزمة تتصاعد، فقد ارتبطت كلها بتحقيق هدف وحيد؛ إسقاط وثيقة السلمي، سحب الثقة من الحكومة، دخول انتخابات الرئاسة ولو بمرشحين، الاستمرار في السلطة على الرغم من انهيار كثير من سلطات الدولة، وهو ما يفسره المنظور الأحادي الذي تبلور بعد انتخابات 2009. ولذلك هيمنت مطالب "عودة الشرعية" على كيان الجماعة بعد إزاحتها من السلطة، وهو ما يتسق مع التوجهات العامة لبعض مسؤوليها، من دون الاهتمام بتقييم مواقفها.
أفكار سطحية
وعلى الرغم من التغيرات الكثيرة بعد 2011، لم تشهد حركة الإخوان المسلمين تغيرات مكافئة، وظلت متخلفة عن التطورات السياسية بمسافة كبيرة، حيث ظهرت الأفكار السطحية للتعامل مع الأزمة، في حالة أقرب إلى البداوة السياسية، فبغض النظر عن وقوعها ما بين السلمية والعنف، اتسمت كل مقترحاتها بالخفّة ونقص الأفق بشأن التمييز ما بين الاستحقاق السياسي والمطالب الثورية. ومن ثم، يجعل استمرار هذه التناقضات حركة الإخوان أقرب إلى تصنيفها مشكلة في النظام السياسي، فبجانب فقدان القدرة على التكيف، لم تطرح مساهمات إيجابية لتجاوز المشكلات القائمة، نتيجة الفردية المفرطة، والدخول في سلسلة صراعاتٍ لم تثبت جدارتها في أي منها.
ويرجح عدم الاهتمام بإجراء الانتخابات الداخلية، في موعدها الدوري، الآراء التي ذهبت إلى التلاعب بنزاهة انتخابات 2009، وأنها لم تتسم بالحد الملائم من الثقافة المؤسسية أو الشرعية، وهذا ما يثير الجدل بشأن مدى القناعة بالتداول على السلطة، في ظل بروز التحيز لاستمرار الوضع القائم، وهو ما يشكل أحد المداخل المهمة لفهم الأزمة الحالية بين الإخوان المسلمين والدولة المصرية، إذ سوف تفتح تسويتها أبواب المحاسبة والمراجعة، فيما ارتبط الصراع مع الحكومات بتعميق السيطرة المركزية على أفراد الجماعة، من دون وضوح أفق للحلول السياسية، سوى انتظار انكشاف الأزمة، وهو ما يلقى تربة خصبة تتسم بهيمنة ثقافة التفويض والتواكل على المسؤولين، وباتالي، فإن استمرار حركة الإخوان بهذه الصيغة لا يؤهلها لأن تكون حركة انفتاحية.
ومع تضاؤل فرص تطور الحركة، تتصرّف القيادة، بوعي أو من دونه، بشكل يؤدي إلى استمرار الأزمة السياسية، ويهدر مصالح أعضائها. ولذلك تبدو أهمية إيجاد مسارات أخرى تساعد في الخروج من الحلقة المفرغة، وتعمل على تفكيك الأزمة. وفي هذا السياق، تشكل المشاركة السياسية واحداً من مسارات الخروج من حالة الانسداد.
بين السرية والعلنية
أعلن المرشد السابق، مهدي عاكف، عن سياسته لمكافحة السرية داخل حركة الإخوان المسلمين. وعلى الرغم من النجاحات المحدودة في تفكيك الطابع السري، فإنه لم يستطع إكمال مشواره بعد عام 2007، حيث لقي قيودا وعقبات كثيرة حالت دون المضي في مشروعه لطرح الجماعة حركة علنية، وتبلورت ولاءات حارج النسق الإداري الرسمي، ونشأت حالة من الازدواج، أدت في النهاية إلى تهميش المرشد العام والسيطرة على صنع القرار.
كان التردد ما بين السرية والعلنية السمة الرئيسية لمناخ ما قبل الانتخابات، ولم تظهر الانتخابات مسألة خلافية حتى منتصف أكتوبر/ تشرين الأول 2009. ولكن مع توجه مهدي عاكف إلى تفويض صلاحياته، ثار على إثرها جدل، أدى إلى سحب فكرة التفويض، وقد شكلت الحادثة نقطة الانقلاب في التركيبة الداخلية لحركة الإخوان المسلمين، وسارت الأحداث التالية في اتجاه تغليب إجراء الانتخابات قبل منتصف يناير/ كانون الثاني 2010.
وفي سياق الخلاف على كيفية إجراء الانتخابات، ظهرت ثلاثة بدائل؛ إجراء الانتخابات قبل يناير 2010، أو تأجيلها ستة أشهر، أو تأجيلها لمدة عام، كما وقد جاءت النتائج 37 و32 و16 صوتا على الترتيب، وظهر اختلاف في تفسير النتائج، فهناك اتجاه رأى أن الأغلبية مع التأجيل، فيما رأى اتجاه آخر أن الأغلبية النسبية مع الإجراء الفوري، وهذا ما يبدو على خلاف القواعد العامة لاحتساب النتائج التي تقوم على أساس الأغلبية المطلقة في كل المستويات التنظيمية.
كان العيب الرئيسي في تصميم الاستطلاع الداخلي، حيث طرحت ثلاثة خيارات في مسألة واحدة، من دون أن يعطي مدلولا محدداً لتعريف كل منها، سواء بالإجراء الفوري أو التأجيل، وهو ما أثار الجدل بشأن مرامي تشتت أصوات مؤيدي التأجيل بين خيارين، لا معنى لهما من الناحية الواقعية، ليجري استطلاع آخر على المسألة نفسها، وفي ظروف استقطاب حادة، وفي ظل تفاقم الجدل بشأن الالتزام بحرية المعلومات، ظهر خلاف آخر. وفي هذا السياق، تم استدعاء آراء قانونية. وجاء رأي القانوني فتحي لاشين تأجيل الانتخابات متفقاً مع المبادئ العامة للقانون. وعكس رفض مكتب الإرشاد هذا التفسير جوانب اختلال السلطة الداخلية، وهي صيغة تماثل استدعاء محمد الراشد وإصدار رأيه بالاعتماد على رواية مفردة، وهو تدخلٌ لا يخلو من العيب، حيث بدا الرأي من دون توافر العناصر الكاملة لبحث الخلاف، ما يرجح أن العودة إليهما كانت في نطاق الاستظهار وطلب المساندة.
بعد شغل الراديكاليين المواقع الحيوية، أوجدت انتخابات 2009 نوعا من الأزمة الداخلية الممتدة، وظلت آثارها مستمرة منذ 2010، حيث شهدت الجماعة سلسلة من حالات الاستبعاد والانقسام والاستغناء. وعلى الرغم من أن اتجاهات التصويت ظلت تعكس التنوع داخل "الإخوان المسلمين"، لم يظهر لها أثر في السياسات الداخلية والخارجية، وكما ظهرت حالة الوحدة في إدارة الحزب، وفرض الدخول في انتخابات الرئاسة، والانفراد باختيار المعاونين لرئاسة محمد مرسي، اتجهت كل السياسات إلى تعزيز فرص الصدام والاستقطاب على مدى الفترة، وهي مسألة مثيرة للاهتمام، وذلك من وجهة أن الانقسامات الحالية امتداد لحالة الوحدة.
وقد شكل احتكار الملف المالي، أو غموضه، إطاراً عاماً لتفسير الفساد الواسع، وإساءة اتخاذ القرار، فقد ساهم اجتماع السلطتين، التنظيمية والمالية، في سيادة النزعات الفردية والشخصية، وساعد على تكوين شبكات ولاء محورية، ساندت الإخلال باللوائح وإهدار المحاسبة، وهذا ما يفسر أنه على الرغم من الأداء السيئ، ظهرت ممانعة في التنازل عن المواقع التنظيمية.
من الجماعة إلى الدولة
على الرغم من تكوين حزب الحرية والعدالة، هيمنت حركة الإخوان على كل النشاطات السياسية، بداية من تشكيل قيادته وانتهاء بقرار دخول انتخابات الرئاسة. وبهذا المعنى، لم يمثل الحزب شخصية اعتبارية مستقلة، ما أفقده دوره السياسي، وأضعف وضعه القانوني، بحيث صار أقرب إلى حزب فئوي. ولذلك، كان في غالب حياته عبئاً إدارياً، واستمر في العمل جهة طفيلية ليس في وسعها الاقتراب من السياسة، وهذا ما يفسر الانهيار السريع لتجربته السياسية. وشهدت الفترة اللاحقة لتأسيسه هندسة نقل الموالين إلى المواقع السياسية والتنظيمية، لتكتمل السيطرة على الحزب في أكتوبر/ تشرين الأول 2011، وترشيح القوائم الانتخابية وإدارة الحملات الانتخابية، والانفراد باتخاذ قرار دخول انتخابات الرئاسة.
وعلى الرغم من الحديث عن محاولات مرسي للاستقلال بقراراته، لم تكن محاولات دخول قيادة "الإخوان المسلمين" المباشر على السلطات الرسمية طي الكتمان، بحيث يمكن القول إن رئاسة الدولة مثلت امتدادا لمواقف الجماعة، ما شكل نوعاً من السلطة الضعيفة كانت مصدراً للقلق وعدم الاستقرار، وثمّة جدل بأن تطلع القيادي في الجماعة، خيرت الشاطر، للقيام بدور سياسي كان عاملاً مهما في ارتباك عملية صنع القرار، كما يفسر تدخل الجيش في يوليو/ تموز 2013 بسبب القلق من نفاذ "الإخوان" إلى جهاز الدولة.
لم تكن الدائرة المحيطة بمرسي الشكل الوحيد للدور السياسي للشاطر، فقد كانت هناك أدوار أخرى، كاستقبال بعض الممثلين الأجانب وبعثة صندوق النقد الدولي. وبعد إقرار الدستور، ظهرت حملات من "الحرية والعدالة" ضد حكومة هشام قنديل، كما كانت هناك مساعٍ لم تكتمل لمنصب رئيس الوزراء، والقيام بدور في السياسة الخارجية (الحكومة الليبية 2013)، بحيث يمكن القول إن سلطة الدولة لم تكن في مساراتها الرسمية، وبشكل ساهم في تفكّكها وسارع من تداعيها. وبعد تدخل الجيش، ظلت علاقات الهيمنة والسيطرة متمثلة في اعتبار الشاطر وجهة التفاوض مع الوفود الأجنبية.
بشكل عام، لا يعد النمط الفردي عيبا بحد ذاته، لكنه يتوقف على القدرة على الإنجاز، وفتح آفاق جديدة، لكنه على الرغم من الجرأة بدخول نطاقات سياسية جديدة، ظهرت إساءة واضحة لتقدير الموقف ولتوظيف الموارد، حيث كانت نتائج كل الاختيارات، خلال السنوات الماضية، سلبية وكارثية. ويعد الجمود على النزيف منذ 2013 من العلامات البارزة على فقدان الديناميكية. وعلى الرغم من احتدام الأزمة، استمر موقف الجماعة بعدم إدراك حقيقة الوضع السياسي، والنظر إليه سحابة صيف عابرة.
الصدام استراتيجية
ويمكن تحليل سياسات الإخوان المسلمين في مصر منذ 2011 باعتبارها سلسة من الصدامات المتتالية. وقد ظهرت على مدى الفترة أربع أزمات، شكلت الملامح العامة للمشهد السياسي، كان رفض وجود مبادئ فوق دستورية ( وثيقة السلمي) أول هذه الصدامات، حيث انصب هدفها على إبعاد الجيش عن الشؤون المدنية والسياسية. وعلى الرغم من اتساق هذا الهدف مع الوضع السياسي، كشفت الأحداث اللاحقة أنه لم يكن توجها سياسياً، بقدر ما هو السعي إلى تشكيل المعادلة السياسية قبل الانتخابات التشريعية.
وكان الصدام الثاني متمثلاً في التحول المفاجئ ضد حكومة كمال الجنزوري، من دون التشاور مع الهيئة البرلمانية للحزب. وعلى الرغم من حدة الانتقادات للحكومة، ظلت هذه المشكلة معلقة حتى انتهاء الانتخابات الرئاسية (2012)، لم يقتصر الأمر على استبعاد عبد المنعم أبو الفتوح من "الإخوان"، وإنما تم تغيير السياسة لمزاحمته في انتخابات الرئاسة.
وقد شكّل دخول انتخابات الرئاسة واحدا من الصدامات المركّبة، فهو لم يرتبط فقط بالصراع مغ الجيش، لكنه كان وثيق الصلة بالصراعات مع الكيانات المدنية والحزبية. وهنا استندت حملة التعبئة والحشد لقرار الترشح للرئاسة على ثلاثة مكونات: القلق من حل مجلس الشعب وفقدان التأثير السياسي، رفض المجلس العسكري لإعادة تشكيل الحكومة، وبجانب مزاحمة المرشحين ذوي الخلفية الإسلامية، كان هناك قلق من زخم حملة أبو الفتوح، وقد روّجت الجماعة مقاربةً ما بين أبو الفتوح وجمال عبد الناصر، بما يوحي بتوقع سياسات عدائية، حيث ثارت الدعاية بإمكانية تكرار أبو الفتوح تجربة عبد الناصر بقمع الجماعة ونشر العلمانية ومحاربة الالتزام الديني. وتبدو هذه النقطة مهمةً من وجهة أنها شكلت المرحلة الثانية من الصراع بين الراديكاليين وأبو الفتوح لإبعاده عن المجال الإسلامي، وهو ما يكشف نوعا من الخصومة الثأرية مع ما يعتبرونه تهديدات محتملة.
وعلى مسار مواز، كانت انتخابات 2009 قد عزّزت الآراء التي تنظر إلى التجربة التركية وأفكار رجب طيب أردوغان تعبيرا عن مشروع علماني، فقد نشر "الإخوان المسلمون" ثلاثة تعليقات في بداية أغسطس/ آب 2007 لكل من جمعة أمين، علي بطيخ، محمد مرسي، تعكس أن الجماعة اتخذت موقفاً رسمياً باعتبار أردوغان حالة انشقاق، وخروجا على نجم الدين أربكان، وارتكزت في تناولها على أن حزب العدالة والتنمية علماني، يسعى إلى رضى الغرب، وله علاقات مع إسرائيل وحلف الأطلسي، ولذلك لن يستطيع الوصول إلى الدولة الإسلامية. وقد استمرت هذه القناعات بعد 2011، بشكلٍ يصنف الحزب خارج نطاق الأحزاب الإسلامية.
وظهرت مؤشرات استعلاء (برئاسة محمد مرسي)، مع بداية 2013 عندما رفض التنبيه إلى احتمالات حدوث انقلاب، وهذا ما يثير التساؤل بشأن الأشكال المحتملة للعلاقة بين تركيا وحكم "الإخوان" في مصر، وخصوصاً مع هيمنة المجموعة الراديكالية، وتبنيها فكرة أن مصر تمثل مركز الحكم أو الحركة الإسلامية في العالم.
وشكل تراكم الخلافات مع مؤسسات الدولة الأرضية الملائمة للصدام مع الجيش مع منتصف 2013، فقد تركت قيادة "الإخوان" الأزمات من دون الاقتراب من حل سياسي أو تسوية بشأنها، وتعاملت مع تصريحات القوات المسلحة وتحذيراتها بطريقةٍ تبدو غير مفهومة، لكنها لا تعفيها من المسؤولية عن الأحداث اللاحقة، حيث رأى مسؤولون الاحتجاجات انفعالات مؤقتة، وسوف تعود الأوضاع إلى طبيعتها، ولذلك لم تقبل بالانتخابات المبكرة لتهدئة الأزمة، وتفاوضت على عودة محمد مرسي كما لو كان يمارس سلطته فعلياً. وقد يفسر قصور إدراك حقيقة الأزمة تصرفاتٍ كثيرة في تلك الفترة. ولكن من المرجح أن الجماعة أدارت الدولة بخبرتها في إدارة التنظيم، واعتبرت مجرد الاستمرار في المنصب أمرا كافيا وقادرا على التصدي لكل التهديدات.
العامل المشترك بين هذه الأنماط المختلفة من الصدام غياب التفكير في الحلول البديلة، وترك الأزمة تتصاعد، فقد ارتبطت كلها بتحقيق هدف وحيد؛ إسقاط وثيقة السلمي، سحب الثقة من الحكومة، دخول انتخابات الرئاسة ولو بمرشحين، الاستمرار في السلطة على الرغم من انهيار كثير من سلطات الدولة، وهو ما يفسره المنظور الأحادي الذي تبلور بعد انتخابات 2009. ولذلك هيمنت مطالب "عودة الشرعية" على كيان الجماعة بعد إزاحتها من السلطة، وهو ما يتسق مع التوجهات العامة لبعض مسؤوليها، من دون الاهتمام بتقييم مواقفها.
أفكار سطحية
وعلى الرغم من التغيرات الكثيرة بعد 2011، لم تشهد حركة الإخوان المسلمين تغيرات مكافئة، وظلت متخلفة عن التطورات السياسية بمسافة كبيرة، حيث ظهرت الأفكار السطحية للتعامل مع الأزمة، في حالة أقرب إلى البداوة السياسية، فبغض النظر عن وقوعها ما بين السلمية والعنف، اتسمت كل مقترحاتها بالخفّة ونقص الأفق بشأن التمييز ما بين الاستحقاق السياسي والمطالب الثورية. ومن ثم، يجعل استمرار هذه التناقضات حركة الإخوان أقرب إلى تصنيفها مشكلة في النظام السياسي، فبجانب فقدان القدرة على التكيف، لم تطرح مساهمات إيجابية لتجاوز المشكلات القائمة، نتيجة الفردية المفرطة، والدخول في سلسلة صراعاتٍ لم تثبت جدارتها في أي منها.
ويرجح عدم الاهتمام بإجراء الانتخابات الداخلية، في موعدها الدوري، الآراء التي ذهبت إلى التلاعب بنزاهة انتخابات 2009، وأنها لم تتسم بالحد الملائم من الثقافة المؤسسية أو الشرعية، وهذا ما يثير الجدل بشأن مدى القناعة بالتداول على السلطة، في ظل بروز التحيز لاستمرار الوضع القائم، وهو ما يشكل أحد المداخل المهمة لفهم الأزمة الحالية بين الإخوان المسلمين والدولة المصرية، إذ سوف تفتح تسويتها أبواب المحاسبة والمراجعة، فيما ارتبط الصراع مع الحكومات بتعميق السيطرة المركزية على أفراد الجماعة، من دون وضوح أفق للحلول السياسية، سوى انتظار انكشاف الأزمة، وهو ما يلقى تربة خصبة تتسم بهيمنة ثقافة التفويض والتواكل على المسؤولين، وباتالي، فإن استمرار حركة الإخوان بهذه الصيغة لا يؤهلها لأن تكون حركة انفتاحية.
ومع تضاؤل فرص تطور الحركة، تتصرّف القيادة، بوعي أو من دونه، بشكل يؤدي إلى استمرار الأزمة السياسية، ويهدر مصالح أعضائها. ولذلك تبدو أهمية إيجاد مسارات أخرى تساعد في الخروج من الحلقة المفرغة، وتعمل على تفكيك الأزمة. وفي هذا السياق، تشكل المشاركة السياسية واحداً من مسارات الخروج من حالة الانسداد.