وعلى الرغم من إعلان الأمم المتحدة في أكثر من مناسبة عن استعدادها لمساعدة العراق على إجراء التعداد السكاني، إلا أنّ أياً من الحكومات التي تعاقبت على الحكم عقب العام 2003، لم تنفذه بسبب الخلافات السياسية. وتصرّ بعض الأطراف السياسية على تضمين حقل المذهب، بين سني وشيعي، فيما تطالب أخرى بتضمين لقب العشيرة. كما تبرز مطالبات بتضمين القومية بين عربي وكردي وتركماني وآشوري. هذا بالإضافة إلى دخول أزمة المناطق المتنازع عليها ضمن ما يعرف بالمادة 140 من الدستور العراقي، إذ تتنافس حكومتا بغداد وأربيل على مسكها والسيطرة عليها، ليس لأنها عربية أو كردية، بل لكونها غنية بالنفط والثروات الطبيعية.
ورسمت المادة 140 من الدستور للحكومة الاتحادية في العراق خارطة طريق لتسوية النزاع بشأن هذ المناطق المتنازع عليها وتحديد مصيرها بضمها إلى إقليم كردستان أو البقاء تحت إدارة الحكومة الاتحادية، ضمن ثلاث مراحل، تتضمن إجراء تعداد سكاني واستفتاء تحديد مصيرها، وكان يفترض أن تنتهي في 2007، لكن تعثر ذلك بسبب الخلافات.
يبقى أن اختيار العام 2020 موعداً لإجراء الإحصاء السكاني، عبر الإعلان الأخير للأمين العام لمجلس الوزراء العراقي، مهدي العلاق، وهو رئيس لجنة السياسات السكانية أيضاً، لا يعني حلّ أزمة معرفة عدد سكان البلاد وحياتهم وتوجهاتهم وطوائفهم ومراكزهم التجارية والمستويات التعليمية، إنّما يعني رفع ستارة المشاكل مجدداً بين الإقليم والمركز، وهي الستارة التي لم تُسدل أصلاً، بحسب محللين، فيما يترقّب مسؤولو كردستان معرفة تعدادهم بالضبط، والذي يشير إلى الارتفاع، لمطالبة بغداد بمزيد من الأموال عبر رفع النسبة المائوية المخصصة لهم في ميزانية العراق المالية والتي تقدر اليوم بـ 17 في المائة سنوياً.
وقال العلاق، أخيراً، في حديثه مع وزير التخطيط في كردستان، علي السندي، إنّ "البيانات والإحصاءات التي يجمعها التعداد السكاني، ستساعد في اتخاذ قرارات مستقبليّة مهمة، وستؤمّن زيادة التخطيط لتحقيق التنمية الاقتصاديّة والاجتماعيّة وغيرها من التنمويات في العراق". وأوضح أنّ "العراق سيجري تعداداً سكانياً شاملاً يضم إقليم كردستان ويراعي في الوقت ذاته المتغيرات التي شهدتها البلاد من انهيار أسعار النفط واحتلال تنظيم داعش الإرهابي لعدد من المناطق، كما أنه سيعتمد أطرا وتقنيات حديثة تُستخدم في الإحصاءات السكانية من أجل التوزيع الأفضل للأموال الحكوميّة وخصوصاً في قطاعي التعليم والصحة". وكان موقف إقليم كردستان عبر وزير التخطيط في الإقليم مشابهاً، إذ أكّد "وجود توافق سياسي بين الحكومتين الاتحادية والإقليم لإجراء التعداد".
وتعليقاً عن هذا الموضوع، أوضح المتحدث باسم وزارة التخطيط، عبد الزهرة الهنداوي، أنّ "العراق لا يزال يعتمد بشكل رسمي على التعداد السكاني لعام 1987، كونه الرسمي الأخير الذي اشتركت فيه مدن العراق كافة". وعن آلية الإحصاء التي سيتم اعتمادها لإجراء الإحصاء المقبل، أشار الهنداوي في حديث مع "العربي الجديد"، إلى أنّ "استمارة الإحصاء لن تتضمن أي سؤال عن الطائفة أو المذهب، إنما عن الدين، وهناك سؤال عن القومية، ولكنه اختياري، إذ إن للمواطن الحق في كتابة قوميته أو عدم كتابتها. أمّا باقي الأسئلة، فتتعلّق بخصائص الحياة والسكن، وظروف المعيشة، والإصابة بالأمراض، والحصول على الخدمات، والتحصيل الدراسي، والعمل". وتابع أنّ "من يطّلع على أغراض إجراء الإحصاء السكاني، سيفهم أنّ أهداف التعداد لا تحوي جوانب سياسية ولا تترتب عليها أي تبعات أو إجراءات سيادية أو إدارية". ولفت إلى أنّ "مشكلة المناطق المتنازع عليها كانت من أسباب عدم إجراء التعداد عام 2010، إذ إن الخلاف السياسي عطّل إجراء الإحصاء، وحالياً الخلافات انتهت"، وأوضح الهنداوي أنّ "تعداد عام 2020 سيُجرى في الربع الأخير من السنة المذكورة".
في المقابل، كان للقيادية في "الحزب الديمقراطي الكردستاني" الحاكم في إقليم كردستان، أشواق الجاف، رأي مخالف للهنداوي. وقالت في حديث مع "العربي الجديد"، إنّ "البرلمانيين الأكراد في مجلس النواب العراقي كانوا يطالبون على مدى الأعوام الثمانية الماضية، بضرورة إجراء الإحصاء السكاني، كونهم يدركون أنّ حصة الإقليم من ميزانية العراق المالية أكثر من 17 في المائة، لأن أعداد الأكراد في تزايد، ونسبة حصتهم من الميزانية تعتمد على عديد أبناء القومية الكردية".
وأوضحت الجاف أنّ "التعداد السكاني إذا أجري في 2020، فإنه سيؤكد ما كنا نطالب به في مجلس النواب"، مشيرة إلى أنه "يجب الأخذ بعين الاعتبار التغييرات الديمغرافية التي حدثت ما بعد 16 أكتوبر/ تشرين الأول من العام الماضي، وتحديداً ما جرى في مدينة كركوك وباقي المناطق المتنازع عليها". وأضافت الجاف أنّ "الحكومة العراقية لم تلتزم بتطبيق المادة 140 من دستور البلاد، التي تنصّ على اتباع آلية لتطبيع الأوضاع، وعلاج التغييرات التي طرأت على التركيبة السكانية في كركوك والمناطق المتنازع عليها في عهد نظام (الرئيس العراقي الأسبق) صدام حسين وبعده، وإجراء الإحصاء السكاني في تلك المناطق، وآخرها الاستفتاء لتحديد ما يريده سكانها، وذلك قبل 31 ديسمبر/كانون الأول 2007". واعتبرت الجاف أنّ "إجراء الإحصاء سيوضح حصة كل محافظة من موازنة الدولة العراقية، ونتيجته ستكون هي الحاسمة والنهاية لأزمة بغداد وأربيل. فبالاعتماد على التعداد السكاني للإقليم، ستحدد حصتنا من الموازنة"، مضيفةً أنّ "عدم إجراء التعداد وتحقيق مطالب السكان سيُدخل العراق في أزمة سياسية، لأن كل المحافظات الجنوبية تعترض على عدم إنصافها ونيل حقوقها من الحكومة الاتحادية".
بدورها، أوضحت النائب في البرلمان العراقي، ندى شاكر، أنّ "إجراء الإحصاء السكاني ضروري لتنظيم سكّان البلد، وإقليم كردستان تحديداً، لأن الأزمات السياسية التي توالت بين بغداد وعاصمة الإقليم كانت بسبب عدم الاتفاق على آلية التعداد وتطبيق المادة 140". وقالت في حديث مع "العربي الجديد" إنّ "بعض مدن العراق تشعر بالغبن بشأن حصتها من ميزانية البلاد مثل المحافظات المنتجة للنفط في جنوب العراق، بالإضافة إلى شريط المناطق المتنازع عليها شمال البلاد"، مؤكدةً أنّ "الفيصل لإنهاء الجدال هو إجراء الإحصاء، ومعرفة العدد الحقيقي للسكان".
أما الخبير في الشأن العراقي، سرمد البياتي، فرأى أنّ "قضية التعداد السكاني ستثير أزمة سياسية كبيرة جداً"، لافتاً إلى أنّ "رئيس الوزراء الحالي، عادل عبد المهدي، له علاقات طيبة مع الأكراد، وقد يذعن لهم وينفّذ ما يطلبون بعد التأكد من ارتفاع أعداد أكراد العراق، بعد إجراء الإحصاء". وأوضح البياتي أنّ "المسؤولين الأكراد سيعاودون المطالبة بالمناطق المتنازع عليها، والتقيّد بنص قانون المادة 140 من الدستور العراقي، وقد نشهد عدم مشاركة المناطق المتنازع عليها مثل كركوك وسهل نينوى وسنجار، في الإحصاء، بسبب الخلاف على الجهة التي ستنفّذ هذا الإحصاء، أربيل أم بغداد؟ وقد يقود الخلاف إلى توتر سياسي وأمني جديد".