"أنا محبطة!". سابقة. للمرّة الأولى، تعترف بـ "إحباط".. علناً. في لحظات كثيرة خبرَتها، لحظات لم تكن ورديّة، لحظات عويصة، لم تقرّ بذلك. اليوم، تفعل.
قبل نحو عشر سنوات، لمّا حملَت ابنتها الرضيعة وتركت البلاد مع رفيق دربها الذي ترك بدوره بلاده - بلاد أخرى عربيّة أيضاً - ووجهتهما "المَهجر"، كانا يحلمان بمستقبل ورديّ لعائلتهما الصغيرة.
لمّا تركَت الوطن الذي لاحقتها لعنته طوال "سنوات الغربة" وما زالت تتلبّس بها، كانت منتفضة. عجزَت عن منح جنسيّتها لصغيرتها. لم تُحبَط. اضطرَّت إلى ترك "الوطن". لم تُحبَط. تخلَّت عن مهنة لطالما عدّتها "رسالة" و"قضيّة" بحدّ ذاتها. لم تُحبط. انتقلَت نحو المجهول. لم تُحبَط. كثيراً ما شعرَت بفراغ. لم تُحبَط. لم تكن سنوات الغربة، خصوصاً الأولى، هانئة. لم تُحبَط. كان الصمود بعيداً عن الديار عسيراً. لم تُحبَط. شعرَت بالحنين إلى تلك الديار وإلى من هم خلف البحار. لم تُحبَط. كانت وحدها ورفيق دربها وسط غرباء، عندما أبصرَت ابنتهما الصغرى النور. لم تُحبَط. كانت تستاء كلّما بلغها أنّ القضايا التي سبق وتبنَّتها والتي كانت لا تزال تنادي بها، "مكانك راوح". لم تُحبَط.
لم تُحبَط، بقيَت تأمل. بقيت تحاول إقناع نفسها وتعليلها بالآمال. بحثت عن بدائل، لا بل هي مشاغل. مشاغل تلهيها عن غربتها، في غربتها تلك. مشاغل اختارتها في إطار إنسانيّ. لطالما التزمت بالإنسان في القضايا التي سبق وتبنّتها والتي كانت لا تزال تنادي بها في ذلك الحين. اليوم، ما زالت تفعل بإيمان تلك الشابة المنتفضة، وإن اعترفت بـ"إحباط".
قبل أشهر، عادت مع ابنتَيها وزوجها إلى بلادها. عودة مؤقّتة. انتظرت ساعات طويلة في مكاتب الأمن العام لتحصل على إقامة لصغيرتَيها اللتَين لم تحصلا على جنسيّتها. لم تُحبَط. هي من أوائل الذين نشطوا قبل سنين، مطالبين بحقّ الأمّ اللبنانيّة في منح جنسيتها لأولادها. عادت إلى البلاد، وعلى جدول أعمالها متابعة "نضالها" هذا. خذلها مثلما خذل أمهاتٍ أخرياتٍ، "ناشطون" تخلّوا عن "القضيّة" لاعتبارات اختلفت طبيعتها. لم تُحبَط.
لمّا عادت إلى البلاد، كثيرة كانت القضايا المدرجة سلفاً على جدول أعمالها. اكتشفت أنّ كثيرين تراجعوا عن أحلام تقاسمتها وإياهم، وقد تبدّلت حساباتهم. لم تُحبَط. اكتشفت أنّ آخرين انكفأوا عن التزام تعهّدوا به معاً، وقد فقدوا الأمل. لم تُحبَط. أكثر من ذلك، حاولت ثنيهم عن ذلك التراجع وذلك الانكفاء. لم يستجيبوا. لم تُحبَط. لمّا عادت إلى البلاد، اكتشفت أيضاً أنّ "الوقت" كسر روابط كثيرة مع أناس كانوا مقرّبين في يوم. لم تُحبَط.
اليوم، تجاهر: "أنا محبطة!". بأسى، تفعل. بنوع من خجل، تقرّ بذلك "الإحباط". كأنّما عنادها وتصميمها على "عدم الإحباط"، انقلبا في لحمة بصر.
صديقتي، الإحباط شعور بشريّ. فلتسمحي لنفسكِ به. الإحباط حقّ لمن تلاحقهم لعنة أوطانهم.