يتحدث الكثير من المتابعين لكارثة – غزوة سنجار عما لاقاه الأيزيديون عموماً من جيرانهم في المنطقة، من اعتداءات وانتهاكات وخطف نساء ونهب ممتلكات وقتل أطفال ورجال ومهاجمة البسطاء والمدنيين العزل مع أولى ساعات الغزو في صبيحة الثالث من أغسطس/آب 2014. ففي الكثير من المقابلات واللقاءات التي أجريت مع النازحين وشهود عيان بعد ساعات الغزو الأولى والناجيات فيما بعد، كان الحديث عن الصدمة الكبيرة التي واجهتهم، تمثلت بما قام به أناس يعرفونهم حق المعرفة من أبناء الجيرة من العشائر العربية المرابطة لمنطقة سنجا،ر والتي أغلبها استوطنت هناك ضمن حملات التعريب التي قام بها حزب البعث في منتصف سبعينيات القرن الماضي أو قبلها في بداية الأربعينيات من القرن الماضي.
الصورة السيئة التي تحدثت عنها أكثر من ناجية في تعامل رجال من تلك القبائل والعشائر ترسخت في أذهانهن ومن الصعوبة محوها أو نسيانها، وخاصة بعض أهالي تلعفر إلى درجة أنهن حفظن أسماءهم ويتذكرن وجوههم وهيئتم بشكل مميز، وبعضهم كان من جيران الأيزيديين سنوات طويلة، وتربطهم علاقات "الكرافة" (في الأعراف الاجتماعية الأيزيدية، كان الأيزيديون يتخذون من جيرانهم المسلمين "كريفا" للدم من خلال ختن أحد أولادهم في حضن الرجل المسلم ليصبح بين العائلتين علاقة كرافة الدم أو أخوية الدم، وكثيرا ما كانوا يدافعون عن بعضهم في الشدائد ويساعدون بعضهم في الكثير من الأمور الاجتماعية). وبعضهم كانوا من الجيران الذين تربطهم بهم علاقات عمل بسبب تجاور مزارعهم، ففي سنجار كانت هناك الكثير من المزارع المتجاورة للأيزيديين والمسلمين، كما تقول (جلنار 17 عاماً) حيث وصفت بعض يوميات حياتها هناك بالكثير من المآسي والألم الذي لا يحتمل أبدا قائلة: "مع كل صباح كنت أشعر أن ذلك اليوم سيكون نهاية حياتي، وكل مساء كنت أموت مجددا".
وأضافت جلنار "للأسف، ما زلت لا أصدق ما رأته عيناي، عندما قام الشخص الذي خطفنا بتسليمنا إلى شخص كان سابقا أحد أصدقاء العائلة لمدة تزيد على ثلاثين عاماً. لثلاثين عاماً كان يزورنا، وفي الكثير من المواسم الزراعية حين لم يكن لديه عمال، كنا نقوم بالعمل في مزرعته من دون مقابل، كثيرا ما ساعده أبي في محن مالية كان يتعرض لها".
اقرأ أيضاً: "داعش" يبيع نساء أيزيديات لعناصره في سورية
وتقول جلنار "عندما رأيت الرجل واقفا أمام باب المنزل الذي تم نقلنا إليه بعدما سلبنا من عوائلنا في تلعفر في أطراف مدينة بعاج رأيت الشخص، عرفته وفرحت وأردت أن أصرخ بأعلى صوتي باسمه (عمو خلف – كنا نقول له عمو خلف) لأنني تصورت أنه سيساعدني بالتأكيد، ولكن للأسف تلك الهنيهة كانت قصيرة، قصيرة جدا إذ نادى باسمي بسرعة، والتفت إليه وإذا به يقول "تعالي بسرعة سيتم نقلكم إلى منزل آخر قريب من هنا، في تلك اللحظة أيضا تصورت أنه لا بد أن الأمر جاد وسيقوم بعد ذلك بتحريرنا، أنا وشقيقتي وإحدى صديقاتي، تصورت أنه سيستغل ذلك الأمر، خاصة أنني لاحظت أنه مسؤول يأمر الآخرين، وبعد لحظات تم نقلنا من ذلك المنزل الذي كان زريبة حيوانات إلى آخر قريب من المنطقة، مكون من ثلاث غرف وساحة كبيرة مليئة بالعربات والسيارات الحديثة وعلى الباب مجموعة من الحراس، أمضيت ساعتين من الانتظار الطويل حتى حلّ الليل، قدموا لنا بعض الطعام وجاءنا حارس يلقي علينا التعليمات بعدم الاقتراب من الغرفة الفلانية أو هذا الباب أو تلك النافذة وغيرها من الأمور، لم يكن يشغل بالي سوى جاري، معتقدة أنه سيأتي الآن وينقذنا من أيدي هؤلاء المجرمين، أمضيت الليل مع هذا التصور، مع ما كان يرافقنا بعد دخول سيارة للمنزل كل ساعة أو ساعتين تنقل أشياء ويأخذون أشياء من المنزل لم نكن نعرف ما هي، وبيني وبين شقيقتي وصديقتي كنا نقول إن الصبح كفيل بأن يأتي عمو خلف ليرى طريقة ليخرجنا من هنا، وكانت أختي الصغرى غير متأكدة من الأمر، وتقول "إنهم يشبهون بعضهم بعضاً، لن يفعل شيئا، وسترين"، قالتها والدموع تذرف من عينيها، إذ تذكرت مشاهد القتل التي مرت بنا خلال الأيام التي مضت، وأردفت تقول "أعرف أن مصيرنا الهلاك هنا".
بعد ليلة طويلة من الألم، وأحاديث وتفكير في كيفية الهرب، وماذا حلّ بالآخرين، تقول جلنار "انهارت أحلامي وتبددت تصوراتي وضاع حلمي بالنجاة، ففي الصباح وبعد أن قدموا لنا شيئا بسيطا من الطعام تمثل بخبز وبيضتين وثلاث قطع من الجبن، أكلناها بنهم وسرعة، سمعت صوت جلبة في باحة المنزل وصوت عدد كبير من السيارات، وأصواتاً غريبة، ورأيت سيارات ترجل منها عدة رجال، وبعد لحظات رأيت جاري واقفا أمامي ويصرخ في وجهي هيا أسرعي وحضري نفسك، فرحت كثيرا إذ بقي الحلم في داخلي وتصورت أن ساعة الخلاص قد اقتربت، وقال بحزم: هذا المنزل غير جيد، يجب أن ننقلكم إلى مكان آخر، تصورت أن الأمر انتهى، فساعدت شقيقتي وصديقتنا سمار، وأسرعنا للصعود إلى السيارة، وفي تلك اللحظة كاد يغمى علي، إذ كان جالسا في المقعد الخلفي، وحالما ركبنا السيارة، ألصق جسمه بجسمي، وأمسك بيدي ليقول: منذ زمن طويل أنتظر هذه اللحظة، وشدني إليه، فأبعدته وسكت قليلا، وصرت أنتظر اللحظة الآتية. يا ليتني مت ولم أر تلك اللحظات، كنت أقول في نفسي لو أن أبي الذي قتل دفاعا عن كرعوزير في أول ساعات الغزو كان حيا، ما كان ليتصور أن يتحول عمو خلف – أبو أحمد إلى ذلك الوحش، ولم يكن ليصدق بأن ذلك الانسان الذي كان يلعب دور العربي البسيط البريء، الآن يعتدي على بناته، كان في الخمسين من العمر ولديه خمس بنات وبنين، كان أغلب الأوقات في بعاج والموصل، تقول جلنار: "لحظتها بانت على وجهه أمارات السوء وظهرت وحشيته، ورأيت الشرر يتطاير من وجهه، وبان قبحه من كلماته".
تتابع جلنار كلامها عن الجار عمو خلف بالقول: "هي فعلاً أمور مأساوية كبيرة، لا يحتملها العقل وتتطلب جرأة كبيرة وقوة كبيرة لتحمل الموقف، ففي ذلك اليوم أهدانا لرجل قيل لنا إنه أمير المنطقة اسمه أبو دحام، الذي لم يتوان هو ورجاله في الإساءة إلينا مدة 45 يوماً، وفي أكثر من مرة كان جارنا يأتي معه يشاركهم الاعتداء على نساء كانوا يرفضون تلبية طلبات رجال داعش... وفي كل مرة كانت أختي الصغرى تقول لي ألم أقل لك إنه مجرم وحقير يشبه الآخرين، كنت لا أفعل سوى أن أتفل في وجهه وأشتمه من دون توقف وأتلقى في كل مرة ضربا مبرحا على وجهي، ولم يكن يقول سوى "تستحقون ذلك لأنكم جنيتم على نفسكم هذا الأمر".
اقرأ أيضاً: إيطاليا تعرض إعادة تأهيل الأيزيديات الناجيات من "داعش"
تقول (سيران 23 عاماً) نجوت من قبضة داعش بعد عملية درامية لا يمكن أن يقوم بها أحد، إلا من يرى أو يتصور أنه لن يرى أسوأ مما رآه: "كنت قد أصبحت جارية في منزل رجل موصلي يبلغ من العمر 53 عاما، مع فتاة أخرى في الحادية والعشرين من العمر نحيلة، ويبدو أنها كانت تعاني المرض. في الأسبوع الأول لم يقترب منا الرجل كان يأتي إلى المنزل برفقة ثلاثة رجال آخرين وأحيانا أربعة، اسمه أبو محمد، بعدما علم بمرض الفتاة الأخرى أعادها إلى الموقع الذي جلبت منه بحسب قوله، ولكن لاحقا سمعنا من أحد حراسه أنه باعها لأحد أصدقائه، رجل وحيد وكبير السن في منطقة الزهور. تابعت سيران: في اليوم التاسع ما زلت أتذكر جيدا أنه جاء وكأنه مخدر أو سكران اقترب مني، وأمسك بيدي وهجم علي وأمسك بوجهي بين يديه خفت كثيرا فصرخت بقوة، فتراجع، لا أعلم لحظتها ماذا حل به، كرر المحاولة ثانية، فأبعدته، فضربني وحاول الاعتداء علي، سُمع صوت في المنزل فتركني مسرعاً، كان صوت أصدقائه وهم يتحدثون اليه بالإسراع للخروج لأمر مهم، لحظتها تنفست بعمق، وبكيت كثيرا، وأنا أشعر بحزن كبير، وأنا وحدي في هذا المنزل الكبير، الذي كان موحشا وقذرا، في ذلك اليوم تحركت بهدوء إلى الغرفة التي كانوا يجلسون فيها ليلاً، فرأيت أن هناك الكثير من الملابس والحقائب، بحثت في جيوب سترة كبيرة، فوجدت جهاز موبايل قابلاً للاستخدام، أقفلته وأخفيته في المطبخ، وأصبحت أشعر أن فرصة نجاتي قد اقتربت.
تابعت سيران حديثها: في الليل عاد أبو محمد ومعه ثلاثة رجال، وطلبوا أن أحضر لهم طعاما، أسرعت إلى المطبخ فلحقني أحد أصدقائه ليتحرش بي، كان شابا في الثلاثينات تقريبا، قال إن اسمه سيف الموصلي، وبدأ يتكلم ليشعرني بالراحة، بأنه يعرف سنجار وأهل سنجار، ويعرف أنهم طيبون، ولكن المشكلة أنهم كفرة غير مؤمنين، ولذلك فإن الأمر المهم بالنسبة لنا هو كيف نساعدكم لتصبحوا مثلنا مسلمين. وبدأ يسألني أسئلة سخيفة مثل كم عمرك؟ من أي منطقة من سنجار أنت؟ وما رأيك بحكم الخلافة الإسلامية في الموصل؟ حاولت أن أرفض الإجابة، وفضلت السكوت في أكثر الأحيان، فكان يقترب مني فأبعده بحجة أنني منشغلة بإعداد الطعام. تسارعت نبضات قلبي، أفكر بالهرب ليلا أثناء انشغالهم بالطعام، لأنني رأيتهم يتركون الباب الخارجي للمنزل مفتوحاً.
اقرأ أيضاً: "نورهان" طفلة أيزيدية تحررت من معتقلات "داعش"