الأوغاد غير المتحمسين

06 يونيو 2015

يعد الكذب بحسب خبراء من أسهل الأشياء (Getty)

+ الخط -
أدركت أن الله وحده يعلم من أين يأتي السادة المسؤولون بكل هذه المزايا المثالية في أثناء وجودهم على سلم الوظيفة، وشئنا أم أبينا، هم أحبتنا وقدوتنا الظرفاء الحكماء العارفون المستنيرون، ولكن حقاَ من أين يأتون بهذا المقدار الفائض غير المفهوم من اليقين التام والثقة المطلقة، وأيضا التمكن والإلمام والحيوية الدائمة والسعادة الدافقة، علاوة على الإيجابية والأمل والتفاؤل والإشراق وكذلك صفو البال وراحة الضمير، إضافة إلى الحماسة المفرطة على مدار الساعة، بحيث لا يكفون عن الإصرار في خطابهم إلى الجماهير المحبطة على ضرورة التركيز على النصف الملآن من الكأس، غير منتبهين أن الكأس نفسها مشروخة، وفي أحيان كثيرة مكسورة، بل مهشمة إلى شظايا صغيرة، لا يمكن لملمتها بأي حال. 

اسمحوا لي، في هذا السياق، أن أصدمكم، معتذرة مسبقاً عن محاولة خلخلة قناعاتكم الراسخة برأيٍ قد تجدونه متهوراً بعض الشيء، وربما يبادر أحدكم إلى لومي وتقريعي بتهمة الاعتداء على المقدس والمكرس في أذهاننا، حين أقول إن هذه الجملة المضللة المعطلة للخيال، المتعلقة بالكأس نصف الملآنة إياها، ليست أكثر من كليشيه بائسة ذرائعية ماكرة مثيرة للغثيان، يتكئون عليها مداراة لتقصيرهم الفادح في حق تطلعاتنا وأحلامنا المشروعة بواقع عربي أقل سواداً.
خطرت ببالي تلك الأفكار المثيرة للكآبة، وأنا أستمع مدعية الاهتمام والاكتراث والتصديق إلى خطاب مسؤول رفيع المستوى ستيني، ومع ذلك محافظ على مظهر شبابي، ينم عن سلوك صحي متقدم ما زال في ملامح وجهه أثر من وسامةٍ بوجه حليق، وصلعة خفيفة، يحيطها شعر مصفف باعتناء، مرتدياً بدلة فاخرة بالغة الأناقة، أكد صاحبنا الرسمي الوسيم أن كل شيء على ما يرام، وأن الوطن يشهد ازدهارا غير مسبوق، في شتى مناحي الحياة، بل ذهب بعيداً وهنأ نفسه بالمنجزات الخارقة التي حققتها الدولة في زمن قياسي، وأكد أن الحياة جميلة، والدنيا ربيع والجو بديع والعصافير تزقزق! دققت ملياً في وجهه، وحاولت تطبيق ما تعلمته في ورشات متخصصة بالتنمية البشرية، محاولة التقاط أكثر إيماءات الجسد شيوعاً، والتي يطلقها الجسد بشكل لا إرادي في حالة الكذب.
حسناً، ومن باب الأمانة العلمية، لا بد من الاعتراف بأن الرجل بدا واثقاً حميماً بصوت ثابت، قادر على الإقناع وبث الطمأنينة في أكثر النفوس قلقاً، فلم تتقلص عضلات وجهه، ولم تتسع أو تضيق حدقتا عينيه، ولم يضع يده على فمه خلال الخطاب الطويل، ولم يفرك أرنبة أنفه، ولم يشد ياقة قميصه، أو يحك رقبته، ولم تتحرك قدماه بعصبية.
فعلاً، يا أخي، إن بعض الظن إثم، وكذلك ظلم لهذه النماذج القيادية التي تصل الليل بالنهار، خدمة لنا، نحن المواطنين (الأوغاد غير المتحمسين)، وأيضا (الله لا يعطيني العافية) وأمثالي من أعداء الحياة، ممن يسلطون الضوء على النصف الفارغ من الكأس اللعين. صحيح إلى متى سوف ننظر بعين الشك والريبة من حيث المبدأ لكل ما يتفوه به أي مسؤول عربي مخلص متفانٍ في خدمة وطنه. أليست تلك هي عقلية المؤامرة بعينها. لمت ذاتي بشدة على هذه السوداوية وقلة الثقة التي تكتنف رؤيتي إلى صورة الوطن البهية، وقد تطرق الخطيب المفوه إلى الأثر السلبي الفادح الذي تحدثه طروحات تلك القوى المتشائمة الانهزامية العاجزة عن التقدير والعرفان بالجميل! أوشكت على الإحساس بالندم والإقدام على (بوس التوبة)، لولا تذكّرت درساً أخيراً يعلمونه في تلك الورشات عن كيفية احتراف الكذب، وهو، بحسب خبراء، من أسهل الأشياء التي يمكنك إتقانها في وقت قصير بالتدريب الجاد! وينحصر الأمر في نقطتين، أولهما أن تدرك كل العلامات التي تبدو على الكاذب وتفعل عكسها، أو أن تقوم بتخيل ومعايشة ما تقوله، باعتباره الشيء الحقيقي، فتتفوه به باعتناق تام، وهذا ما يفعله مسؤولونا المنفصلون بالكامل عن واقعهم، كما أرجّح.
AD06A645-8A0A-4B42-9292-5FC44B5D51C6
بسمة النسور

كاتبة أردنية، تحمل الليسانس في الحقوق، صدر لها ست مجموعات قصصية، وكتبت نصين مسرحيين. تكتب في الصحافة العربية منذ 1990، وتشغل موقع رئيسة تحرير مجلة "تايكي" المتخصصة بالإبداع النسوي.