قبل أشهر قليلة، في مدينة بيل السويسرية، أطلق ناشطون حملة تضامنيَّة لجمع تواقيع، تطالب الحكومة بمساعدة فرقة مدينتهم السمفونية كي تتمكن من الاستمرار وتجاوز أزمتها المالية، حيث إنَّ الفرقة كانت تعاني من أزمة ماديّة حادّة سوف تضطرهم إلى أنّ يتوقفوا عن الاستمرار. ومهم الذكر في هذا السياق، أنَّ سويسرا من الدول التي تتمتّع بأعلى معدلات الدخل في العالم. وتتنافس المدن السويسريّة مع بعضها، على ترؤس لائحة "المكان الأفضل للعيش". وحيث يدفع المواطن السويسري العادي، لحضور أمسية موسيقى كلاسيكية، أكثر مما يدفع لحضور حفلة من حفلات النجوم الكبار.
فرقة موسيقية سمفونية في لبنان رغم الصعوبات
في سويسرا، بلد الرفاهيَّة الأشهر، تعاني فرقة موسيقيَّة عريقة خطر التوقف، بسبب الأزمات الماليّة وقلَّة التمويل. لذلك، المنطق يقول، إنَّه من غير المعقول أن نحلم بفرقة موسيقية سمفونية وطنيّة في لبنان. لكن، الواقع يقول العكس، ففي بيروت، حيث النفايات أصبحت من المشاهد الطبيعية، وحيث لا شبكة مواصلات عامّة مشتركة، ولا نظام سير حديث، وحيث موظفو القطاع العام والخاص يتظاهرون ويعتصمون منذ سنوات، بدون جدوى، لرفع رواتبهم التي تتدنّى، نسبة للمعيشة في بيروت، إلى تحت مستوى خط الفقر. وحيث الطوائف والعشائر والعصابات تعطّل البلد كرمى لتعيين موظف أو إقالته من منصبه.
هنا، في بيروت، يوجد جيش من الموسيقيين النشيطين المنخرطين في حرب صامتةٍ وغير متكافئةٍ مع التصحُّر الأخلاقي والفني الهاجم على المدينة بشراسة. من يصدِّق أنّه في لبنان توجد فرقة موسيقيّة تضم أكثر من 100 عازف، نصفهم على الأقل على درجة عالية من الاحتراف بالمعايير الدوليّة، وقد عملوا في أشهر الأوركسترات العالمية؟
اقــرأ أيضاً
وليد غلمية مؤسس "فيلا هارموني" اللبنانية
في لبنان ثمّة فرقة "فيلا هارموني" وطنية تعمل، كساعة سويسرية، بانتظامٍ وبدون توقف، حتى في أصعب الظروف الاقتصادية والأمنية التي تعصف بالبلد. وبمحاذاة هذه الفرقة، توجد أوركسترا شرقيّة حديثة، ومعهد موسيقي عصري لا يشبه أيا من المؤسسات الرسمية في البلد. لا، بل نستطيع القول إن ما يقدّمه الكونسرفاتوار الوطني إلى الأجيال، مجاناً وبإخلاص وبدون مقابل، يتفوّق على ما تقدّمه المؤسّسات الشبيهة، في الكثير من الدول الرأسمالية الغربيَّة الغنية. وقد لا نجد تفسيراً لهذا "الخَرق" ضمن رداءة السياق، سوى أنه معجزة من "المعجزات" اللبنانيّة العصيّة على الفهم. فميزانيات الوزارات الثانوية، كالرياضة والشباب والبيئة والثقافة، تُصرف، في معظمها، على مشاريع وهمية، ونشاطات مفبركة. وحتى المشاريع الجدية تكون تقليدية ودون المستوى، لدرجة يبدو معها أن كلّ ما يُصرَف على الثقافة، يدخل في دائرة لزوم ما لا يلزم.
قد يكون الحظ وقف إلى جانب وليد غلمية، مدير الكونسرفاتوار السابق، الذي تمكّن من تلك النقلات النوعية في وقت قصير نسبياً. ولكن معظم الذين يعرفونه، وعملوا معه، يقولون إنّه أجاد القيادة المؤسّساتية أكثر من إجادته لقيادة الأوركسترا. والبعض يتطرف ويقول لولا وليد غلمية، لم يكن من فرقة فيلا هارمونية، ولا أوركسترا شرقية، ولما كان في لبنان معهد موسيقي حديث. فالمتابع للحركة الموسيقية في لبنان، لا بد أن يلاحظ مدى التطور المتصاعد، بعد عصرنة الكونسرفاتوار وإنشاء الفرقتين المتصلتين به، ويلمس حجم النهضة الشاملة على مستوى نشر الثقافة والوعي الموسيقيين، التي وفرت إمكانية الدراسة للموهوبين والجادين، واستقطبت الناشئة، ووسعت الإدراك، وعملت على ترقية الذائقة الموسيقية عند العامة.
كما تم تطوير أداء الموسيقيين المحليين عبر التمارين اليومية، والحفلات الأسبوعية التي تتطرق إلى الكثير من أشكال الموسيقى الكلاسيكية و"النيو كلاسيكية" والمعاصرة، أو من خلال التفاعل مع مدارس وخبرات مختلفة، وذلك عبر استقدام عازفين وقادة فرق موسيقية من شتى أنحاء العالم.
اقــرأ أيضاً
استقدام خبرات من العالم
ولقد تمرّنت الأوركسترا اللبنانية تحت إدارة العديد من كبار قادة الأوركسترا الدوليين، كالإسباني جودي مورا، والإيطالية جانا فراتّا. ورافقت كبار نجوم الأوبرا، كالإيطالي بافاروتي، والأرجنتيني بلاسيدو دو مينغو، والإسباني خوسيه كاريراس، ما أكسبها إمكانيات تؤهِّلها لتقترب من مستوى الفرق العالمية الكبرى؛ بالرغم من افتقارها إلى الدراسة المنهجية الأكاديميّة، فحتى هذه اللحظة، ما زال قادة الأوركسترا في لبنان أقرب إلى الهواة.
لكن، في مقابل النجاح الملحوظ، على المستوى الإداري والتنظيمي، وتطور أداء الموسيقيين المتصاعد، تبرز مفارقة صارخة، فالفرقتان، السمفونية والشرقية، ما زالتا شبه غائبتين عن المشهد العام، وبالكاد تلحظ حضورهما في وسط البازار الفني والإعلامي؛ المُصادرَين من سماسرة الغناء التجاري الرديء. أو، بكلام أوضح، هو أنّ الفرقتين لا تمتلكان أي إدارة إعلامية أو جهاز تسويقي، يتناسب مع حجم الجهود والمصاريف التي تُنْفَق، إذا ما أخذنا في الاعتبار الجهد الذي يبذله ما يزيد عن الثلاثمائة موظف بين عازف وإداري ومدرِس، وما يتقاضونه من رواتب هائلة من دولة متعثرة، خاصة أن ثلثي أعضاء الفرقة الفيلهارمونية هم من الأجانب الذين يعملون برواتب مضاعفة!
من هنا نعود للمقارنة مع سويسرا "الثرية"، حيث تعاني فرقة سمفونية عريقة، عمرها يزيد عن القرن، خطر التوقف! فيما هنا، في لبنان، في "سويسرا الشرق" حيث معظم ميزانية الثقافة تذهب إلى الكونسرفاتوار الوطني، ومتفرعاته وحيث كل حفلات الفرقة السيمفونية، والأوركسترا الشرقية متاحة مجاناً للعموم. تجري النشاطات بخفرٍ مُستغرب وبخفوتٍ يدعو إلى التساؤل غير البريء. حتى تُخال أنّ تلك الحفلات تقام فقط لعائلات الموسيقيين، ولتقديم التقارير إلى الوزارة والممولين.
فرقة موسيقية سمفونية في لبنان رغم الصعوبات
في سويسرا، بلد الرفاهيَّة الأشهر، تعاني فرقة موسيقيَّة عريقة خطر التوقف، بسبب الأزمات الماليّة وقلَّة التمويل. لذلك، المنطق يقول، إنَّه من غير المعقول أن نحلم بفرقة موسيقية سمفونية وطنيّة في لبنان. لكن، الواقع يقول العكس، ففي بيروت، حيث النفايات أصبحت من المشاهد الطبيعية، وحيث لا شبكة مواصلات عامّة مشتركة، ولا نظام سير حديث، وحيث موظفو القطاع العام والخاص يتظاهرون ويعتصمون منذ سنوات، بدون جدوى، لرفع رواتبهم التي تتدنّى، نسبة للمعيشة في بيروت، إلى تحت مستوى خط الفقر. وحيث الطوائف والعشائر والعصابات تعطّل البلد كرمى لتعيين موظف أو إقالته من منصبه.
هنا، في بيروت، يوجد جيش من الموسيقيين النشيطين المنخرطين في حرب صامتةٍ وغير متكافئةٍ مع التصحُّر الأخلاقي والفني الهاجم على المدينة بشراسة. من يصدِّق أنّه في لبنان توجد فرقة موسيقيّة تضم أكثر من 100 عازف، نصفهم على الأقل على درجة عالية من الاحتراف بالمعايير الدوليّة، وقد عملوا في أشهر الأوركسترات العالمية؟
وليد غلمية مؤسس "فيلا هارموني" اللبنانية
في لبنان ثمّة فرقة "فيلا هارموني" وطنية تعمل، كساعة سويسرية، بانتظامٍ وبدون توقف، حتى في أصعب الظروف الاقتصادية والأمنية التي تعصف بالبلد. وبمحاذاة هذه الفرقة، توجد أوركسترا شرقيّة حديثة، ومعهد موسيقي عصري لا يشبه أيا من المؤسسات الرسمية في البلد. لا، بل نستطيع القول إن ما يقدّمه الكونسرفاتوار الوطني إلى الأجيال، مجاناً وبإخلاص وبدون مقابل، يتفوّق على ما تقدّمه المؤسّسات الشبيهة، في الكثير من الدول الرأسمالية الغربيَّة الغنية. وقد لا نجد تفسيراً لهذا "الخَرق" ضمن رداءة السياق، سوى أنه معجزة من "المعجزات" اللبنانيّة العصيّة على الفهم. فميزانيات الوزارات الثانوية، كالرياضة والشباب والبيئة والثقافة، تُصرف، في معظمها، على مشاريع وهمية، ونشاطات مفبركة. وحتى المشاريع الجدية تكون تقليدية ودون المستوى، لدرجة يبدو معها أن كلّ ما يُصرَف على الثقافة، يدخل في دائرة لزوم ما لا يلزم.
قد يكون الحظ وقف إلى جانب وليد غلمية، مدير الكونسرفاتوار السابق، الذي تمكّن من تلك النقلات النوعية في وقت قصير نسبياً. ولكن معظم الذين يعرفونه، وعملوا معه، يقولون إنّه أجاد القيادة المؤسّساتية أكثر من إجادته لقيادة الأوركسترا. والبعض يتطرف ويقول لولا وليد غلمية، لم يكن من فرقة فيلا هارمونية، ولا أوركسترا شرقية، ولما كان في لبنان معهد موسيقي حديث. فالمتابع للحركة الموسيقية في لبنان، لا بد أن يلاحظ مدى التطور المتصاعد، بعد عصرنة الكونسرفاتوار وإنشاء الفرقتين المتصلتين به، ويلمس حجم النهضة الشاملة على مستوى نشر الثقافة والوعي الموسيقيين، التي وفرت إمكانية الدراسة للموهوبين والجادين، واستقطبت الناشئة، ووسعت الإدراك، وعملت على ترقية الذائقة الموسيقية عند العامة.
كما تم تطوير أداء الموسيقيين المحليين عبر التمارين اليومية، والحفلات الأسبوعية التي تتطرق إلى الكثير من أشكال الموسيقى الكلاسيكية و"النيو كلاسيكية" والمعاصرة، أو من خلال التفاعل مع مدارس وخبرات مختلفة، وذلك عبر استقدام عازفين وقادة فرق موسيقية من شتى أنحاء العالم.
استقدام خبرات من العالم
ولقد تمرّنت الأوركسترا اللبنانية تحت إدارة العديد من كبار قادة الأوركسترا الدوليين، كالإسباني جودي مورا، والإيطالية جانا فراتّا. ورافقت كبار نجوم الأوبرا، كالإيطالي بافاروتي، والأرجنتيني بلاسيدو دو مينغو، والإسباني خوسيه كاريراس، ما أكسبها إمكانيات تؤهِّلها لتقترب من مستوى الفرق العالمية الكبرى؛ بالرغم من افتقارها إلى الدراسة المنهجية الأكاديميّة، فحتى هذه اللحظة، ما زال قادة الأوركسترا في لبنان أقرب إلى الهواة.
لكن، في مقابل النجاح الملحوظ، على المستوى الإداري والتنظيمي، وتطور أداء الموسيقيين المتصاعد، تبرز مفارقة صارخة، فالفرقتان، السمفونية والشرقية، ما زالتا شبه غائبتين عن المشهد العام، وبالكاد تلحظ حضورهما في وسط البازار الفني والإعلامي؛ المُصادرَين من سماسرة الغناء التجاري الرديء. أو، بكلام أوضح، هو أنّ الفرقتين لا تمتلكان أي إدارة إعلامية أو جهاز تسويقي، يتناسب مع حجم الجهود والمصاريف التي تُنْفَق، إذا ما أخذنا في الاعتبار الجهد الذي يبذله ما يزيد عن الثلاثمائة موظف بين عازف وإداري ومدرِس، وما يتقاضونه من رواتب هائلة من دولة متعثرة، خاصة أن ثلثي أعضاء الفرقة الفيلهارمونية هم من الأجانب الذين يعملون برواتب مضاعفة!
من هنا نعود للمقارنة مع سويسرا "الثرية"، حيث تعاني فرقة سمفونية عريقة، عمرها يزيد عن القرن، خطر التوقف! فيما هنا، في لبنان، في "سويسرا الشرق" حيث معظم ميزانية الثقافة تذهب إلى الكونسرفاتوار الوطني، ومتفرعاته وحيث كل حفلات الفرقة السيمفونية، والأوركسترا الشرقية متاحة مجاناً للعموم. تجري النشاطات بخفرٍ مُستغرب وبخفوتٍ يدعو إلى التساؤل غير البريء. حتى تُخال أنّ تلك الحفلات تقام فقط لعائلات الموسيقيين، ولتقديم التقارير إلى الوزارة والممولين.