في عام 1996، ومن أحد أحياء بروكلين في نيويورك، أصدر "سيا" ألبوم أغاني راب بعنوان "فيجوالز إي بي". كان "سيا" اسماً فنيّاً لفتى يهودي هو ناداڤ سامين، الذي انتقل بعد أن أنهى دراسة البكالوريوس في جامعة نيويورك في اختصاص الدراسات الشرق أوسطية والإسلامية، ليكمل دراسته في المجال نفسه، حيث نال الدكتوراه في دراسات الشرق الأوسط من جامعة برينستون.
أثناء دراسته هناك، وجد فنان الراب السابق نفسه مهتماً بتحوّلات الهويّات القبلية والدينية في القرنين العشرين والواحد والعشرين في شبه الجزيرة العربية. بعد تخرّجه في 2013، انتقل للتدريس في كلية دارتماوث، حيث يُحاضِر حول التراث وتحوّلاته في الإسلام.
في مطلع الشهر الماضي، أصدر كتابه الأول الذي جاء بعنوان "من رمل وطين: الأنساب والانتماء القبلي في المملكة العربية السعودية"، والذي يحاول فيه الإجابة عن سؤال مركزي: ما الذي يدفع نحو تأكيد الانتماء القبلي في السعودية؟ يفصّل السؤال أكثر: في دولة مشبعة بالتديّن العام -من حيث الرموز والقوانين والإدارات- لماذا نجد كثيراً من السعوديين يستخدمون الآية القرآنية "وجَعَلناكُمْ شُعوباً وقَبَائِلَ" لتأكيد انتماءاتهم القبلية، مع تجاهل كامل لتكملتها التي تؤكد المساواة بين البشر؟
المثير للاهتمام لدى مؤلف الكتاب، هو أنه بعد ثلاثة قرون من التحوّلات الدينيّة في السعودية، وبعد عقود من التحوّلات الاقتصادية الكبيرة، لا زالت الروابط القبلية مهمة ومستمرة، بل إنها توطّدت من خلال طوفان من الكتب والمؤلفات وأشجار النسب؟ يرصد الكاتب نوعاً من الإجبار نحو الاهتمام بموضوع النسب؛ إجبارٌ يشعر به السعودي فيضطرّه إلى تأكيد هويته القبلية، ولا يخلو الأمر من أبعاد سياسية واجتماعية وثقافية.
يركّز الكتاب بشكل رئيسي على الأُسر الحضرية في نجد، ويحاول التنقيب في الأسباب التي تدفع هذه الأسر إلى التأكيد على انتمائها القبلي في السعودية الحديثة. ويبدأ فصله الأول باستعراض تاريخ المملكة عبر حياة شخصية مركزية في موضوع الأنساب والانتماءات القبلية في التاريخ السعودي الحديث، الصحافي ومؤلف ومؤرخ الأنساب السعودي حمد الجاسر (1909-2000).
في استعراضه لسيرة الجاسر، يوضّح الباحث علاقاته المتوترة مع شيوخه من علماء الوهابية، وإسهاماته في تطوّر مجال الصحافة في السعودية.
بعد ذلك، في الفصل الثاني، ينتقل الكاتب لكشف الطريقة التي كان أهالي نجد يُوثّقون بها أنسابهم منذ القرن الثامن عشر الميلادي حتى القرن العشرين. يركّز الكتاب على الطريقة التي نظر بها كل من الأهالي، سواء من البدو أو الحضر أو الرحالة الغربيين، إلى موضوع النسب.
يكشف سامين عن وجود نظام يشبه النظام الهندي الطبقي في وسط الجزيرة العربية قبل العصر الحديث، وكيف أن ظهور هذه الهرمية في التاريخ السعودي الحديث مثّل نقطة تحوُّل رئيسية في الحياة الثقافية والاجتماعية.
الحجة الرئيسية للمؤلف، هنا، هي أن توثيق الأنساب المكتوب وطبعه ونشره في العصر الحديث هو ما حوّل موضوع الأنساب من مسألة هامشية إلى مكوّن رئيسي من مكوّنات الهوية السعودية الحديثة.
يخصّص الكتاب كلاً من الفصول الثالث والرابع والخامس للتنقيب في مشروع حمد الجاسر؛ حيث وضع هذا الأخير الأساسات الرئيسية لهذا المجال الضخم، باشتغاله على "معجم قبائل المملكة العربية السعودية"، وكذلك "جمهرة أنساب الأسر المتحضّرة في نجد". وإضافة إلى هذين الكتابين، أسّس الجاسر مجلة "العرب"، التي خصّصت صفحاتها للنقاش حول مواضيع الأنساب في السعودية.
يقرأ سامين في هذا المشروع صراعاً وتنافساً على الانتماءات القبلية، يجد أثره في ما كتبه الجاسر من كتب ومقالات ورسائل. ويمتد هذا الصراع إلى أبعد من التناول الثقافي والتأريخي، حيث يحدّثنا عن الصراعات التي يخوضها من يسمّيهم بـ "الباحثين عن النسب"، ويتساءل عن مدى تدخل الدولة في هذا المجال.
لعل الفصل الأخير هو أهم فصول الكتاب، حيث يحاول المؤلِّف موضعة حالة الدفع والضغط الذي يشعر به السعوديون نحو الانتماء القبلي في مكانها ضمن المؤسسات والسياسات التي تبنّتها الدولة؛ إذ إنها بمجموعها تشكّل، كما يقول سامين "طريقة نسبيّة للحكم تمثّل قاعدة الممارسة السياسية في السعودية".
هنا، يوضّح الكاتب كيف أن قيام الدولة بتقنين هويات المواطنين ضمن شروط نسبيّة، جعل من رابطة النسب مميّزة وجانباً طاغياً في الحياة الاجتماعية والثقافية. عند هذه النقطة، نلمس حساسية الموضوع؛ ما دفع الكاتب إلى حذف أسماء الأشخاص الذين يراسلون الجاسر محدّثين إياه عن مشاكلهم في موضوع النسب.
الموضوع مفتوح على أسئلة متعدّدة لم يبدأ التفات الدارسين إليها إلا في السنوات القليلة الأخيرة، ومعظمهم من مؤسسات بحث في الغرب، ما يضع هذه المسألة الحساسة بين أيدي من يمكن أن يدسّوا في بحوثهم ما شاؤوا من مغالطات قد تكون لها فرص توظيف مستقبلاً.