الأمراض النفسية: سينما واقعية وأُخرى مثيرة فقط

22 نوفمبر 2018
من كواليس فيلم "سايكو" لـ ألفريد هيتشكوك (Getty)
+ الخط -
لا أحد ينكر أثر السينما والأفلام على الآراء الشعبية للمشاهدين؛ فالصور والأفكار في المشاهد المعروضة تكون سهلة التلقّي والقبول عند المشاهد وفي مخيّلته. ولا أحد ينكر أيضًا أنه يمكن استخدام هذه الأدوات للتوعية بشأن قضية مُعينة لضمان أكبر وصول شعبي لها، ولكن وفي الوقت نفسه، يمكن أن يكون لهذه الأدوات أثر سلبي على بعض القضايا، مثل قضية الأمراض النفسية وطبيعة المرضى وكيفية التعامل معهم، ما يجعل من المرض النفسي أحيانًا وصمة عار بدلًا من حالة يمكن التعامل معها.

أحيانًا، تقدم الأفلام صورة سابقة أو قديمة من مراحل تطور علاج نفسي معين من دون إيلاء أي اهتمام لواقع ومستقبل هذا النوع من العلاج، ما يفقد الفيلم الدقة أو المصداقية في ما ينقله، حيث تميل للإثارة على حساب الحقيقة. ولا أدل على ذلك من أن بعض الأفلام الحديثة تتطرق إلى موضوع "العلاج بالتشنج الكهربائي" والمعروف بين عموم الناس باسم "العلاج بالصدمات الكهربائية"، على أنه طريقة علاج مؤلمة بدنيًّا وشديدة الخطورة، ففي بعض الحالات، كما في فيلم الرعب "منزل فوق التل المسكون" (1999) House on Haunted Hill، يعاني الأفراد الذين يوثقون إلى آلات العلاج بالصدمات الكهربائية من تشنجات عنيفة.

وعلى الرغم من أن العلاج بالصدمات الكهربائية كان خطيرًا في ما مضى، فالتقدم التكنولوجي الذي تحقق خلال العقود القليلة الماضية، مثل إعطاء المريض دواء مرخيًا للعضلات، قد جعل خطورته لا تتعدى خطورة التخدير (كتاب أشهر 50 خرافة في علم النفس – مؤسسة هنداوي).

ناقشت بعض الأفلام الأمراض النفسية على عدة مستويات، منها مستوى الخط الفاصل بين العبقرية والجنون، ومستوى القتلة المهووسين ومستوى المرضى الواقعيين المضطربين، ونناقش في هذه المقالة عددًا منها على سبيل المثال لا الحصر.

عقول جميلة
في هوليوود، هناك ارتباط وثيق بين العبقرية والمرض النفسي غالباً. فحسب الدراسات، ولأن العباقرة يميلون غالبًا للتفكير خارج الصندوق وفوق العادي، فإن هذا يكون مصحوباً عادة ببعض الاضطرابات النفسية. وعندما نأتي إلى هذا المستوى، فكثير من الأفلام تأتي إلى بال القارئ، خصوصاً الأفلام التي تناقش مرض التوحّد، معظهما يقدم البالغين من المصابين بالتوحد على أنهم يمتلكون مهارات عقلية شديدة البراعة.

من أبرز هذه الأعمال "رجل المطر" Rain Man، الذي عرض عام 1988 وحاز جائزة الأوسكار، والذي جسد فيه داستن هوفمان دور رجل بالغ مصاب بالتوحد وتظهر عليهِ أعراض "متلازمة سافانت"؛ تتسم هذه المتلازمة بقدرات عقلية مميزة، مثل احتساب التواريخ (القدرة على تحديد اسم أي يوم من أيام الأسبوع وفي أي سنة وفي أي تاريخ)، وكذلك القدرة على ضرب الأرقام الكبيرة وقسمتها، فضلًا عن معرفة بعض الأمور والتفاصيل غير المهمة، مثل متوسطات تسجيل لاعبي دوري البيسبول الأميركي الدائرة منافساته. ومع ذلك، فإن 10% فقط على الأكثر من البالغين المصابين بالتوحّد يمتلكون هذه القدرات (كتاب أشهر 50 خرافة في علم النفس)، وبالتالي، فإن فيلمًا كهذا يروّج لصورة قد يساء فهمها عند المرضى المصابين بالتوحد.



ومن الأفلام التي تأتي للبال أيضًا، فيلم "عقل جميل" Beautiful Mind. يرتكز الفيلم (من إخراج رون هوارد وبطولة راسل كرو)، على قصة عالم الرياضيات جون ناش، ليروي قصة صراعه مع مرض الذُهان. يعد فيلم "عقل جميل" واحداً من أوائل الأفلام التي صورت الواقع القاسي للأشخاص المصابين بالذهان وجنون العظمة والفُصام غير المعالجيْن. الأعراض التي تظهر في الفيلم هي الهلوسات السمعية والبصرية، وجنون العظمة والتفكير الوهمي. تدور أحداث الفيلم حول عالم رياضيات عانى من حالة شديدة من الذهان ولسنوات عديدة والذي لا يلاحظه أحد إلا عند تشخيصه. يعتقد ناش أنه يعمل سراً مع الحكومة لكسر وتفكيك بعض الرموز الروسية، ولكن في الواقع لم يكن الأمر إلا محض هلوسات.

يصور الفيلم أن علاقاته مع الآخرين مثل العائلات والأصدقاء تبدأ بالتعطل بسبب سلوكياته الشاذة وغير المفسّرة. بعد مرور بعض وقت، حاول أقرانه تناسي حقيقة إصابته بأي مرض عقلي، ولكن هذا يصير صعبًا خصوصًا بعد سلسلة من التصرفات الشاذة التي يقوم بها، ما يدفع بعائلته إلى إبقائهِ في مستشفى للأمراض العقلية.

بعد عدد من الأحداث، يتوقف الدكتور ناش عن استخدام الأدوية، ما يؤول بهِ إلى الانتكاس من جديد، وبهذا يظهر الفيلم الجوانب الإيجابية والسلبية لاستخدام الأدوية، والطريقة التي يمكن أن تساعد بها على علاج بعض الأفراد. وعلى الرغم من أن بعض مشاهد الفيلم كانت خيالية، إلا أنه أعطى صورة دقيقة عن الذهان مقارنة بالأفلام الأخرى في الماضي.



القتلة المهووسون
تضج هوليوود بأفلام الرعب التي تتحدث عن قتلة مهووسين، وتربط هذه الأفلام غالبًا بين سيكولوجية القاتل ومرضه النفسي وبين فعل القتل، أو تتعرض لفعل القتل نفسه من دون التعريج على الأصل النفسي للمرض، وأفضل مثال على هذا المستوى هو فيلم "سايكو" Psycho، لألفريد هيتشكوك، والذي غيّر صناعة أفلام الرعب وقلبها رأسًا على عقب. تلقى فيلم سايكو إشادة عالية من النقاد. وأكثر مشاهد فيلم سايكو إثارة هو مشهد قتل ماريون في أثناء استحمامها. تدور حبكة الفيلم حول ماريون والتي تسرق المال من رب عملها، ثم تذهب إلى أحد الفنادق القريبة حيث تلتقي بنورمان بيتس.



يُصَوَّر نورمان بيتس في الفيلم بوصفهِ قاتلًا متسلسلًا يسمع صوت أمه الميتة والتي تخبره بأن يقتل الآخرين، وتتشابه أعراض نورمان مع أعراض مرضى الذُهان، ولكن مرضى الذُهان لا يؤذون الآخرين كما تم تصوير نورمان، بالإضافة إلى أنه لم يكن هناك ذكر لأي مرض نفسي في الفيلم، إلّا أن الطبيب النفسي يقول إن بيتس شخصية أخرى في داخله وهي أمه الميتة، ويضيف الطبيب أن شخصية الأم أحيانًا تسيطر على بيتس وعلى تصرفاته. في ختام الفيلم، يُوضع نورمان في مستشفى للأمراض العقلية.

ونؤكد أن الطبيب في الفيلم لا يذكر أبداً المرض العقلي الذي أثر على نورمان بيتس والذي جعله قاتلاً متسلسلاً، وهو ما يمكن أن يدعو الجمهور لافتراض أن أعراض نورمان بيتس التي تظهر في الفيلم يمكن أن تأتي من شخص مُصاب بالذهان، وهو ما يضع وصمة على الأمراض النفسية/ العقلية ويجعل المشاهدين يعتقدون أن المرضى بهذا المرض قد يكونون قتلة. يجب أن يدرك الجمهور أن الأشخاص المصابين بالذهان ليسوا كما يتم تصويرهم على أنهم قتلة متسلسلون.

مزايا الخجل
كما ذكرنا، فإن هوليوود تجد في الأمراض النفسية والعقلية مادة دسمة لجذب المشاهدين سواء على صعيد أفلام الرعب التي لها جمهور محدود، أو على صعيد الأفلام النفسية الدرامية التي تتسع رقعة مشاهديها حول العالم. هذا المستوى يحتشد بالكثير من الأفلام العالمية التي حققت مبيعات عالية وإعجاباً واسعاً من فئتي الشباب والمراهقين مثل فيلم "كتاب الجوانب المشرقة/ العلاج بالسعادة" Silver Linings Playbook، من بطولة برادلي كوبر وجينفر لورنس. وفي هذا المستوى، يبرز فيلم "مزايا أن تكون خجولًا" The Perks of Being a Wallflower.

يروي الفيلم قصة تشارلي، ذلك الفتى المُنعزل في حياته، وبداية أيامه في الثانوية، بعد أن مر بطفولة صعبة وسيئة، فقد عانى الكثير من المشاكل النفسية فِي صغره والتي أدت إلى انعزاله وإصابته بالتوحد، فهو شخصية انطوائية مُنعزلة غير مشهورة ودائماً ما يُسخر منه. يخاف تشارلي من المُشاركة في أي شيء، ولا يقوى على رد الكلام لمن يتكلم إليه.

يكتم غضبه وحزنه بداخله، ولا يخرجه لا لعائلة ولا لأصدقاء، فيروي جميع ما يحصل له في دفتره الخاص مُخاطباً شخصية خيالية قد رسمها لنفسه في مُخيلته.



تعرف إلى مجموعة من الأصدقاء المُوشكين على التخرج من الثانوية في سنتهم الأخيرة، ويبدأ شيئًا فشيئًا في التغير، ويقع في حُب فتاة أكبر منه بسنتين ويحاول كتم حبه لها وسرد ما في قلبه عبر كتابته خلال الفيلم. تظهر على تشارلي أعراض اضطراب الكرب التالي للصدمة والاكتئاب، وكما ذكرنا فإن هذه الاضطرابات تعود لطفولته حيث تحرشت بهِ خالته/ عمته هيلين جنسيًا حينما كان طفلًا (اغتصبته وهو في سن الخامسة)، ولاحقًا ماتت في حادث سير عندما ذهبت لتحضر له هدية عيد ميلاده.
تمكّن فيلم "مزايا أن تكون خجولًا 2012 The Perks of Being a Wallflower" من سرد وتصوير أعراض اضطراب الكرب التالي للصدمة بنجاح وبدقة عالية، وخصوصًا أن هذا المرض يؤثر بشكل أساسي على المريض وحده دون أن يدرك الآخرون من حوله ما يمر بهِ. وفي النهاية بيّن لنا المُخرج أن عملية العلاج ليست سهلة ولا تكون سريعة، ولكن وفي والوقت نفسه، بيّن أثر وأهمية العلاج وكيف له أن يساعد في فهم وتفكيك سبب الاضطراب دون اللجوء لأي من كليشيهات هوليوود في اختتام الأفلام.
المساهمون