الأقليات في أميركا: لا تطلقوا النار أيدينا مرفوعة

26 اغسطس 2014
عمّت الاحتجاجات مدناً أميركية عدة (مانغن نغان/فرانس برس/Getty)
+ الخط -
تتّجه الأنظار، اليوم الإثنين، إلى مدينة فيرجسون في ولاية ميزوري، حيث يُشيّع جثمان الشاب الأميركي - الافريقي، مايكل براون (18 عاماً)، الذي قُتل على يد شرطي أبيض في التاسع من الشهر الجاري. وسلّط مقتله، الضوء مجدداً على العنف الذي تمارسه الدولة على المواطنين، وخصوصاً الأقليات والسود منهم.

وأعادت هذه الحادثة والتظاهرات التي تلتها، إلى الأذهان، أحداث منطقة وات في لوس أنجلوس عام 1965. إذ قامت في حينه الاحتجاجات على اعتقال سائق أسود من قبل شرطي أبيض. وأدّت الاحتجاجات التي اندلعت في أحياء السود يومها إلى مقتل 34 شخصاً وجرح أكثر من ألف آخرين. وجاءت تلك الحادثة في أوج قيام حركة "الحقوق المدنية" للأميركيين الأفارقة، بقيادة مارتن لوثر، في الولايات المتحدة، بعد سنة تقريباً من توقيع الرئيس ليندون جونسون على قانون الحقوق المدنية.

إن الفوارق في لون البشرة أو العرق تفترض وتؤدي، عملياً، إلى فوارق وامتيازات أخرى، مرئية وغير مرئية، اقتصادياً واجتماعياً. كما تعني وجود حواجز بنيوية، أنتجتها تركة العبودية الثقيلة. فبعد الأسر والعبودية وعمل أجيال بلا مقابل لمئات السنين، جاءت الحرية الرسمية من العبودية، لكن ضمن قوانين الفصل العنصري والعنف الممنهج من قبل الدولة والشرطة ومن قبل الحركات العنصرية، مثل جماعة "كو كلوكس كلان".

ولم يتم تعويض الأميركيين الأفارقة على ما أُلحق بهم من ظلم إلى اليوم. وتوالت حلقات وحركات المقاومة والاحتجاج حتى تمكنت في ستينيات القرن الماضي، بعد حصولها على زخم جماهيري، وتنظيمها مسيرات ضخمة، من إجبار الحكومة الفدرالية، على تشريع قانون الحقوق المدنية.

وشهدت العقود الخمسة الأخيرة تحسناً نسبياً على مستوى أوضاع الأقليات في الولايات المتحدة، تحديداً السود، وتمكن العديد منهم من اختراق مختلف مجالات المجتمع والوصول إلى مراكز مرموقة. لكن قصص النجاح هذه غالباً ما تستخدم في الإعلام السائد، لتغييب الصورة الأكثر قتامة، عمّا يعيشه معظم الأميركيين الأفارقة من الطبقات العاملة الفقيرة يوميّاً.

ويتحدث الخبراء عن تراجع ملحوظ في مستوى الأوضاع الاقتصادية والبطالة بين الأميركيين الأفارقة، الذين تنعكس عليهم الأزمات الاقتصادية بشكل أقسى من غيرهم. إذ لا زالت العنصرية حاضرة في التعامل المؤسساتي معهم، ولازالت المناطق التي يشكّلون الغالبية فيها، تعاني من التهميش الاقتصادي. لا بل أصبح أكثر قسوة في العقدين الأخيرين، خصوصاً بعد تقليص المعونات التي كانت تقدم لذوي الدخل المحدود من قبل اليمين المحافظ.

ولا يساعد اتساع الهوة الاقتصادية بين البيض والسود على خلق تقارب بين أطياف المجتمع الأميركي، بسبب استمرار وجود هذه الفروقات الاقتصادية وبصورة مخيفة. وتشير الاحصائيات الى أن أكثر شريحة متضررة من الأزمة الاقتصادية التي عصفت بالولايات المتحدة ومناطق أخرى من العالم عام 2008، هي العائلات السوداء.

إذ سقط معدل دخلها واقترب إلى ما كان عليه عام 1967. بكلمات أخرى وصل معدل دخل العائلة الأميركية السوداء في ذلك العام إلى 57.1 في المئة من معدل دخل العائلة الأميركية المتوسطة البيضاء. وبالرغم من أن الوضع الاقتصادي للسود شهد تحسناً في العقود التي تلت توقيع قانون الحقوق المدنية، إلا أن الأرقام اليوم باتت متشابهة مع أرقام الستينات.

تشير الأرقام الى أن معدل دخل الأسرة السوداء في الولايات المتحدة بلغ 58.4 في المئة من معدّل الأسر المتوسطة البيضاء، أي بزيادة 1.3 في المئة مقارنة بما كان الوضع عليه قبل خمسة عقود تقريباً. كما أن الولايات المتحدة تشهد ردّة فعل يمينية يحاول فيها الجمهوريون والمحافظون محو الانجازات والامتيازات التي جاءت بها حركة الحقوق المدنية.

كما أن قوانين الانتخابات والآليات التي كانت تضمن حصول الأقليات على فرص متكافئة، في التوظيف والدراسة، باتت تشهد هجمة واضحة عليها. وبالرغم من الازدياد الملحوظ في أعداد السياسيين والمسؤولين السود، ووجود أعداد كبيرة منهم في صفوف الشرطة، إلا أن مراكز القوى في كافة السلطات ما تزال، عموماً، في قبضة النخبة البيضاء.

وتمثل مدينة فيرغسون مثالاً على الحواجز البنيوية وتبعات العنصرية التي يعيشها السود. ومع أن ثلثي سكان فيرغسون هم من السود، فإن عدد أفراد الشرطة السود في مركز الشرطة التابع للمدينة هو ثلاثة، مقابل خمسين شرطياً من البيض.
وهذا يعني أن الأغلبية السوداء في هذه المدينة تواجه أقلية بيضاء غير حساسة لأوضاعها وتاريخها ومشاكلها الاجتماعية والاقتصادية.

كما يعزّز هذا شعور الكثير من الأقليات، كالسود وذوي الأصول اللاتينية، بالغبن تجاه استخدام قوات الشرطة للقوة المفرطة مع أبنائهم، وتفتيشهم، في صورة أكثر من البيض، وذلك بسبب لون بشرتهم. إضافة إلى إفلات البيض من العقاب، عندما يقومون بمخالفات ضد الأقليات على خلفيات عنصرية.

وتشير الإحصائيات في هذا الصدد، في ما يخص مدينة فيرغسون، مثلاً، الى أن حالات توقيف وتفتيش الشرطة للسود في المدينة، تصل إلى نسبة 92 في المئة من حالات التوقيف والتفتيش والاعتقالات التي تقوم بها الشرطة بين البيض، بالرغم من أن نسبة المخالفات التي يرتكبها البيض من سكان المدينة تزيد بـ37 في المئة عن السود في المدينة نفسها. وتنطبق تلك الحالة على معظم المدن الأميركيّة.

عادت إذاً مسألة الفوارق "العرقية" والممارسات العنصرية ضد الأقليات إلى الواجهة بقوة. ولا يشكل ما شهدته مدينة فيرغسون، من عنصرية مستمرة في الممارسات والتصريحات من قبل قوات الشرطة ضد المتظاهرين السود، والأقليات، بمن فيهم المسلمون، أمراً استثنائياً، مما يطرح التساؤلات حول وجود عنصرية "متجذرة" في الولايات المتحدة، لم تتمكن الدولة من اقتلاع جذورها في مؤسساتها، ومن أهمها الشرطة.

ومن المرجّح أن تزداد حدة التوتر أثناء محاكمة الشرطي الأبيض، دارين ويلسون، الذي أردى مايكل براون، الأعزل، قتيلاً بست رصاصات، واحدة منها بالرأس. وأُعلن عن أن لجنة المحلفين لمحاكمته ستتكون من تسعة أشخاص ثلاثة منهم سود وستة بيض، مما يطرح السؤال حول التعقيدات التي من المحتمل أن تنتج عن هذه التركيبة، لإدانة الشرطي.

قد يبدو التركيز على لون البشرة للوهلة الأولى غريباً ومستهجناً، إلا أن هذا التركيز نابع من الواقع الذي يفرض نفسه. فعدد لا بأس به من الرجال السود وأبناء الأقليات يُقتلون ويُستهدفون من قبل قوات الشرطة الأميركية، وخصوصاً البيض منهم، دون أن يكون هناك مبرر، في أغلب الحالات، للاستخدام المفرط للقوة.

ولأن الأمر ليس مجرد حالات شاذة، بل تترجمه ممارسات وتصريحات توجهاً لعدد لا بأس به من رجال ونساء الشرطة من البيض في الولايات المتحدة في الكثير من المدن والولايات، وتبدو حالة الغضب والغليان التي يشعر بها السود في الولايات المتحدة مفهومة ومتوقعة، خصوصاً أنه قلّما تتم معاقبات المخالفين والعنصريين من أعضاء الشرطة على أعمالهم، إذ إن هناك افتراضاً في الكثير من الحالات أن الرجل الأسود أو الإسباني أو المسلم، هو شخص عنيف وخطير حتى لو كان غير مسلح.

لكن الطامة الكبرى هي عسكرة الشرطة في العقد الأخير وصرف بلايين الدولارات من قبل الكونغرس لتجهيزها بمدرعات وطائرات وأسلحة ولباس، تبدو فيه في شوارع أميركا، وكأنها ذاهبة لاحتلال بلد آخر وليس قوات تتحرك لتدافع عن مواطنين في دولة ديمقراطية.

المساهمون