الأغنية الثورية: لم ينطق بعد لسان "الربيع العربي"

24 مايو 2016
الشيخ إمام (فيسبوك)
+ الخط -
كلّما ازدهر القمع، في نظام ما، ترافق معه ازدهار للأغنية الوطنيّة. وكلّما انطلقت ثورة أو حرب أهلية انتعشت الأغنية التعبوية. هل تتناسب الأغاني الوطنية والثورية، التي سمعناها في الستينيات والسبعينيات والثمانينيات، مع ذائقة ومشاعر مستمع ما بعد "الربيع العربي"، الذي اندلع قبل خمس سنوات من الآن؟ أو هل تتناسب، تعبيراً ومضموناً، مع الأحداث الجارية في المنطقة؟ 

حتى الآن، لم ينتج الحراك السوري ولا "الربيع العربي"، أغانٍ بمستوى تلك الأغاني التي أنتجتها الحرب الأهلية اللبنانية، أو الثورة الفلسطينية، أو الصراع العربي الإسرائيلي، لا على صعيد الأغنية الوطنية، ولا حتى الأغنية الثوريّة. وهنا، لا بد من التفريق بين هذين المصطلحين، فالأولى، غالباً ما يكون خلفها مؤسَّسات رسميّة وسلطة حاكمة، وتُصرف عليها الميزانيات لإنتاجها، كما لتعميمها، لذا تكون على قدر أعلى من الجودة، صناعيّاً، أما على المستوى الفني، فنرى أنّ الأغنية الثوريّة أكثر فطريّة وحيويّة والتصاقاً بهموم الناس. ووظيفتها مختلفة، لا بل متعارضة، غالباً، مع الأغنية الوطنية، التي تنحو صوب المبالغة في تظهير الانتماء والحس الوطني والقومي، وغالباً، ما تستخدم لإلهاء المواطن عن حقوقه وحاجاته.

بعدما تسلَّمت الديكتاتوريّات العسكرية معظم أقطار البلاد العربية، منتصف القرن الماضي، ازدهرت الأغنية الوطنية بشكل لافت، وقد ساعد في ذلك وصول الإذاعة ومن بعدها التلفزيون، ليصبح الغناء من أهم أسلحة التوجيه والتأثير في العامة. في المقابل، قمعت المحاولات التي عملت على إنتاج أغنية معترضة، ولم يسمح "بالحضور" سوى للأغاني التي كانت موجهة ضد الإسرائيلي حصراً، لا بل اختصر مصطلح "الأغنية الثورية"، بهذا النوع من الأغنيات!


أما من تجرأ على غير ذلك فكان مصيره السجن (سيرة الثنائي أحمد فؤاد نجم والشيخ إمام أسطع مثالاً) لذلك، نلاحظ أن كل أشكال الغناء التي تخاطب العقل وتنمي التوق للتحرر، كانت مغيّبة كليّاً خلال فترة طويلة من الزمن. ولأن الأغنية الوطنية لا تصلح لكل زمان ومكان، خلت الساحة وقتها لصانعي الأغنية العاطفية المطربة، التي تدور حول موضوع واحد أحد، ألا وهو الحب الرومانسي العذري.

على إيقاع "الغضب الساطع آتٍ"، ومسرحيّات، الأخوين رحباني، التاريخيّة، وأغنيات عبدالحليم حافظ ومحمد عبدالوهاب الوطنيّة، انطلقت الحرب الأهليّة في لبنان. وذلك بعد سلسلة من الهزائم العربيّة المتسارعة، التي شملت كافّة الميادين، الجغرافيّة والسياسيّة والثقافيّة والاقتصادية والمعنويّة. وقد ترافقت هذه الهزائم، مع نهر هائج من الأناشيد الهادفة إلى زلزلة الأرض تحت أقدام الغزاة. إلاّ أنّ أغنيات من وزن "يا بلدنا لا تنامي"، و"شام يا ذا السيف"، و"سمع الصباح صوت السلاح"، و"فدائي يا أهل العروبة فدائي"، لم تنجح في حفظ ماء الوجه، ولا في وقف انهيار الحلم العربي. واللافت، أنَّها غابت سريعاً بعد بدايات المعارك البيروتية، ليبرز مكانها نوع آخر من الغناء، المنفصِل كليّاً عن مفاهيم الأغنية الوطنيّة التي سوَّقتها الأنظمة.




كان اندلاع الحرب الأهلية اللبنانية عام 1975، بمثابة مرحلة انتقالية أو بداية انطلاقة نوعية للأغنية العربية الثورية أو الهادفة. ولا شك أن السبب هو تشظي مركزية السلطة، وتداخل المصالح والعداوات ضمن البلد الواحد، ما سمح بأشكال متعددة من التغطية للفنانين "المشاكسين"، وهذا ما جعل بيروت ووسائل إعلامها ومراكز إنتاجها الموسيقي، مقصداً ومرتعاً لكل ثائر. ثم أدى ذلك لاحقاً إلى نهضة مذهلة، ارتكزت على أشعار وكتابات لم تكن لترى النور أو تأخذ حقها، جماهيريّاً، لولا اندلاع الحرب. فأصبحت أشعار محمود درويش وسميح القاسم وحسن العبدالله، أغنيات "ضاربة"! وبرزت أسماء مغنين وملحنين ما زالت راسخة، حتى اليوم، كأحمد قعبور وسميح شقير ومارسيل خليفة، حتى أن الشيخ إمام انطلق نجماً من إذاعات بيروت، فيما هو يتنقل مع عوده بين سجون القاهرة.

هنا يبرز السؤال؛ إذا كانت الثورات والحروب الداخلية، تهيِّئ بيئة خصبة للأغنية الثوريّة، لماذا لم تنتج ثورات "الربيع العربي"، وبالأخصّ "الربيع السوري" أغنيتها؟ فمعظم ما صدر، حتى الآن، لا يتجاوز الردّيات والزجليات المرتجلة التي غابت بمجرد غياب التظاهرات عن الشوارع (القاشوش وعبد الباسط ساروت مثالاً)، أو بتعبير آخر لم نشهد بعد خمس سنوات على الربيع، أغنية ثورية تمتلك المواصفات الفنية، التي تجعلها تحجز مكاناً في المكتبة الموسيقية العربية!

الأرجح، أن وعي الثائر العربي اختلفَ كليّاً عن جيل السبعينيات والثمانينيات، فلم تعد الأغنية هي المحرِّك الرئيسي لاندفاعته، لا بل إن بعضهم صار يجد فيها بعضاً من التنفيس السلبي غير الفعّال، خاصة بعد حضور مواقع التواصل الاجتماعي بقوة في حياة الفرد المعاصر، ومع ما تمنحه من إمكانيات في التدخل المباشر في كل ما يحصل، ولو بمستويات مختلفة.


قد تجد مستمعاً خصوصاً، من الجيل الثوري السابق، أو جيل الأحلام اليسارية، يصعد الدم إلى وجنتيه؛ أو الأدرينالين إلى رأسه، حين يستمع إلى "أحمد العربي" أو "أجمل الأمهات" أو "منتصب القامة أمشي". قد ينتشي ويمتلئ حيوية، ولكن، بفعل الحنين لا بفعل الغضب الثوري. أو ربما يمتعض، كما يحصل مع "كاسترو"، أحد مقاتلي منظمة التحرير الفلسطينية القدامى، إذ قال لي بالحرف الواحد: "هذه الأغاني تذكِّرُني بطعم الهزائم".

المساهمون