الأستاذ إسحق

04 يونيو 2019
+ الخط -
كان العقد الأخير من القرن الفائت بسنته الثالثة، حين قررتُ أنا وصديقان أن نهرب من المدرسة تحت جنح القيظ. خططنا لأن نرمي حقائبنا من على السور المرتفع ونصعد ونقفز ثم نجري مسرعين حتى الشارع العام ما إن يقرع الجرس معلنا عن انتهاء الفرصة.
مدرستي التي أحببتها ما زالت صامدة على صحراء البادية الوسطى في مدينة الزرقاء الحبيبة، تلك المدرسة الجميلة البعيدة التي كان يحدها من الجنوب شارع خارجي كبير ومعسكرات للجيش في منطقة خَوّ. مدرستي الحبيبة هذه غالباً ما تكون خاويةً على عروشها فترة القيظ وقت الظهيرة، إلا من بعض الطلبة الملتزمين أو الجبناء، وهي صفة التي كان ينعتهم بها باقي الطلبة المتفلتين، كانت تخلو من غالب الطلبة عقب الانتهاء من نصف ساعة الفرصة التي كانت مقررة بعد الحصة الرابعة ذياك الزمن.
فوجئنا في اليوم التالي لفعلتنا المشينة نحن الثلاثة حين حضر مساعد المدير وقتها الأستاذ إسحق إلى غرفة صفنا في أثناء الحصة الأولى، وسأل ملوحاً بعصا كان يحملها: أين بشار وأحمد وقصيّ؟ فرد جميع الطلبة في الصف على قلب رجل واحد، ها هم يا أستاذ، كانت عشرات الأصابع تشير إلى ثلاثتنا، معظم من أشاروا إلينا بتشفٍّ وازدراء لم يُخامروا ألبتة طعم التعب والإرهاق والنعاس الذي كان يعترينا نحن الجبناء في أثناء الحصص الثلاث المملة والمزعجة، الخامسة والسادسة والسابعة.
لقد تملكني الرعب وخفق قلبي داخل صدري بشدة، وأحسستُ حينها بأنني أنا الوحيد الذي هرب بالأمس من المدرسة، ولُمت حالي وأنا أقول، يا إلهي ما الذي فعلته، كيف سولت لي نفسي قتل الوقت مع من يهربون؟
مشينا، نحن الثلاثة، وراء الأستاذ إسحق بخطى بطيئة من دون أن ننبس ببنت شفة، كنا نؤخر خطواتنا قليلاً عن خطوات الأستاذ كي لا يسمعنا ونحن نعاتب بعضنا بعضاً، ونتلاوم ونلقي بالمسؤولية أحدنا على الآخر، كنا نتحدث بصوت خافت أقرب إلى الوشوشة.
عبر الممر الطويل وصلنا أخيراً إلى مكاتب الإدارة. وقفنا خارج مكتب مساعد المدير الأستاذ إسحق، مطأطئين رؤوسنا، حتى جاء صوته أخيراً من داخل مكتبه، أدخل أنت وهو حتى أرى، أدخل.
دخلنا المكتب، وفجأة وقف الأستاذ إسحق وطرق بالعصا التي كان ما زال يحملها بقوة على مكتبه لتصدر صوتاً قوياً مدوياً عبر الممر الطويل وهو يقول، أنت يا بشار ويا أحمد ويا قصي، أنتم! تهربون من على السور كالطلاب الكسالى وأصحاب المشاكل؟ ثم جلس مجدداً وقال: لم أصدق ما شاهدته عيناي بالأمس وأنتم تقفزون من على السور الواحد تلو الآخر، والله لو أتاني بأسمائكم العريف السريّ لما صدقته، لكن أنا بنفسي شاهدت فعلتكم المشينة. إسمع أنت وهو، إن أردتم الذهاب للبيت في المرة القادمة قبل انتهاء الدوام، ما عليكم إلا أن تتركوا لي ورقة هنا على مكتبي بأسمائكم حتى لو لم أكن موجوداً فيه، ثم غادروا من باب المدرسة، لا تهربوا من على السور كالسارقين. مفهوم؟ بالله عليكم أن لا تفعلوا ذلك مرة أخرى، لقد خيبتم أملي، لا تُنزلوا من قدركم الذي هو كبير عندي بهذه الصورة.
وقفنا ثلاثتنا لا ندري ماذا نقول للأستاذ إسحق. شعرنا بالخجل، وتمنينا لو انشقت الأرض وابتلعتنا، شعرتُ وقتها وكأن الزمن توقف، ولا يريد أن يمضي، وأجد نفسي أخيراً وقد خرجتُ من المكتب، وأن يكون قد انتهى هذا الموقف الغريب والصعب، ثم كَسَرت صمتنا وذهولنا وخجلنا كلماتٍ من الأستاذ إسحق قالها، هيا عودوا إلى الصف، وإن سألكم أحد ما الذي كنتُ أريده منكم أبلغوه بأنني كلفتكم بمهمة ما. هيا اذهبوا.
اليوم بعد نحو ثلاثين عاماً على الحادثة، أدركتُ أخيراً كم كان الأستاذ إسحق حزيناً حين شاهد ثلاثتنا ونحن ننجرّ لفعل هو كان شائعاً أصلاً في المدرسة، لكنه من بعيد، ومن دون أن نعلم كان يعتقد بأنه ربما نكون طلبة صالحين ولنا مستقبل، فخافَ على مستقبلنا هذا رغم أننا لم نكن كذلك في خضم ذلك الفشل الكبير.
لم أخبركم بأنني عدتُ بعد نحو خمسة عشر عاماً إلى مدرستي كي أرى الأستاذ إسحق، وأشكره على ذاك اليوم المفصلي في حياتي، وكم أحببتُ أن أخبره أيضاً بأن تصرفه ذاك كان بمثابة المحرك الصغير الذي زُرِع داخلي وظل يغذي عزيمتي وإرادتي بطاقته الصغيرة المستمرة حتى أكملت تعليمي الجامعي. ولكن بعد عودتي لم أجد الأستاذ إسحق ولم أجد المدير كذلك، ولم أجد معظم الأساتذة السابقين، فقد تغير كامل الطاقم تقريباً، أخبرني أحدهم بأنه أصبح مديراً لمدرسة ثانوية في بلدة بشمال البادية الوسطى.
جلستُ مع المدير وأخبرته القصة، وسألني إن كان لا يوجد لدي مانع بأن أقف أمام الطلبة وأتحدث بأي موضوع أرغب به، فاخترتُ أن أتحدث معهم عن مسيرتي البسيطة في هذه المدرسة التي كانت سنتين دراسيتين، وكيف كنا نحاول أن نصنع من أنفسنا شيئاً ذا معنى وسط الفوضى والهروب والمشاجرات والفَلَتان، وكيف كان يُراقبنا أحدهم من بعيد بعين الأب الحنون من دون أن نعلم، وكيف زرع بداخلي هذا المحرك الصغير البسيط، وكيف احتفظت بداخلي بمحركات صغيرة ساعدتني كثيراً على شق طريقي.
BB0E1626-EC3F-46CE-91BA-116FA9609C27
BB0E1626-EC3F-46CE-91BA-116FA9609C27
بشار طافش (الأردن)
بشار طافش (الأردن)