الأرض المسطحة: عقلاء في عالم أحمق

12 مارس 2019
يعتقدون أن العلماء متآمرون ويعملون لصالح الاستخبارات (Getty)
+ الخط -
يُشبه الغباء النكتة السيئة، كلاهما أدلة على اختلاف في فهم العالم، ويتجليان في نقطة تقسم الأفراد فئتين، لكل منهما تصور مختلف عن العقلاني والمضحك. والأهم، أن محاولات الإقناع التي تقوم بها الفئتان (الأغبياء- الأذكياء/ المضحكون -المبتذلون)، لا يمكن لها أن تتطابق، كون هذا الاختلاف أساسه ليس الوعي بالعالم الآن عام 2019 فحسب، بل بتاريخ هذا العالم وكيفية وعينا بحضورنا ضمنه. لكن، ماذا لو كان هذا الاختلاف جوهرياً، لا يرتبط بشكل العالم الرمزيّ أو الاختلاف على معنى نكتة أو رأي سياسي؟ بل يرتبط بالخليقة نفسها وبالكوكب الذي نقطنه، والذي "يؤمن" بعضهم بشدّة بأنه مسطح، وأننا إن وصلنا إلى حافته، فسنقع في سديم ما.

بثت شبكة نتفليكس فيلماً وثائقياً بعنوان "وراء الانحناء" behind the curve. عمل يتتبع بجدّية تامة مجموعة من الناشطين والمؤمنين بأن الأرض مسطحة، لنتعرف إلى حياتهم اليوميّة، ونشاطهم العلنيّ، والعلاقات بينهم وخلافاتهم مع "الآخرين"؛ فهم من يمتلكون الحجة والبرهان على المؤامرة التاريخيّة "ضدنا"، التي تسعى إلى إقناعنا بأن الأرض كرويّة، لأسباب سياسية واقتصاديّة.

تمتلك جمعية الأرض المسطحة، برئاسة مارك سارجينت، دلائل على الشكل الحقيقي للأرض، هي مسطحة ومحاطة بقبة لا يمكن اختراقها، وكما نحن نمتلك كرة أرضية، هم يمتلكون مسطحاً أرضياً. لا يحاول الفيلم أبداً السخرية منهم، بل يحدثنا عن تاريخهم، ونشأة سارجنت، وقناته على يوتيوب التي يبث عليها بصورة دورية أدلته "العلميّة"، ليكشف كلّ "الأكاذيب" التي نسلم بها، ثم نرى كيف تعرّف إلى باتريشا ستير، مقدمة برنامج إذاعي مغمور على يوتيوب تعاون معها لنشر "الوعي" عن حقيقة الأرض المسطحة، وتفاعلهم مع المؤمنين مثلهم، الذين التقوا بهم نهاية في المؤتمر العالميّ الأول للأرض المسطحة في كارولاينا الشماليّة العام الماضي. كل هذا نراه بجديّة تامة، من دون أي تهكم أو عدوانيّة، سوى تلك التي يتعرضون لها من مات بويلان الذي يتهم سارجينت بأنه ليس إلا مديراً تنفيذياً في هوليوود ويعمل مع وكالة الاستخبارات المركزيّة، كما يدّعي بويلان أنه يمتلك "الحقيقة الحقيقيّة"، ويرفض المشاركة بأي نشاط علنيّ من دون مقابل ماديّ.


عشرة أميال
لا داعي لتفنيد حجج المؤمنين بالأرض المسطّحة، إلا أنّ الوثائقي يعرفنا بتراثهم العلميّ الخاص؛ إذ أثبت سارجينت أن الأرض مسطحة من متابعة حركة الطيران، وقام بالتحليل والتفنيد لدحض حجج العلماء، وأكد أنه إن كانت الأرض كروية فلم نستطيع مشاهدة مدينة تبعد عنا عشرة أميال؟ وهكذا ببساطة، هي مسطحة، مباشرة، بالعين المجردة، بل إن واحداً من المؤمنين اخترع دراجة ناريّة مخصصة للسير على الأرض المسطحة، والتي لا بد أن تكون ذات فائدة يوماً ما. وحين نشاهد آراء "العلماء"، نراهم يضحكون، بل لا يقدمون براهين مضادة، بل يصفون الأمر بـ"العلم الزائف".

يحيلنا الفيلم في هذه المواجهة بين الفريقين، إلى الاختلاف بين العلم والانطباع بالعلم؛ فالأخير، ينشأ من الاطلاع الشخصي، والذي كلما ازداد غرور المرء، واعتقاده أنه يمتلك معلومات عن موضوع ما؛ تيقّن أنه "حقيقي" و"علميّ"، من دون أي أسس منهجيّة؛ إذ يقدم سارجينت حججه متجاهلاً التراث العلمي، مُعتمداً على الثقافة الشعبيّة والاستهلاكيّة. أدلته أساسها الآراء وتأويلات منحرفة لصورة العالم، وكلما أمعن في شرح "علومه"، تتجلى ملامح نظرية المؤامرة في ما يقول، ويتحول العلم التطبيقيّ إلى شكل من أشكال الهيمنة من أجل الحفاظ على الكذبة الكبيرة التي هي كروية الأرض.

المثير للاهتمام أن اللا-علم جماهيري، سهل التحصيل، والأهم أنه مقنع، حججه مفهومة للجميع، يمتلك خصائص الإعلان، يصدمك من دون أي دليل. مجرد ادعاءات وتكوينات لغوية ممتعة، كما يعتمد على الأدوات اليوميّة والمتوافرة، التي يظن المؤمنون بالأرض المسطحة بأن العلماء لم يستخدموها لأنهم متآمرون ويعملون لمصلحة الاستخبارات وهوليوود.

على طريقة ترامب
يتحرك المؤمنون بالأرض المسطحة ضمن مجموعة من نظريات المؤامرة، التي تجد لها جمهوراً بين الفئات التي لا يوجد توصيف "صحيح سياسياً" لإطلاقه عليها، ومع تزايد أعداد "المؤمنين" ولقاءاتهم وظهورهم للعلن، يحيلنا الفيلم إلى الوضع السياسيّ، وكيف تتحول الشعبويّة وأفكارها اللاجديّة والسخيفة إلى ظاهرة تجذب الأنظار، عبر الاعتماد على رسائل مسطحة، يسيرة الفهم، لا تنتمي إلى العلم، بل لمفهوم DIY (أنجزها بنفسك). هذا ما يدفعنا إلى المقارنة مع دونالد ترامب، الذي يقترح حلولاً بسيطة لكل المشكلات. مثلاً، لإيقاف المهاجرين، سنبني جداراً! حل بسيط وتخيّله ممكن. هنا، نفهم ما يحاول الفيلم الإشارة إليه، ولو بصورة غير مباشرة؛ فتجمع الناس وظهورهم حق مضمون، ويترك أثراً في العالم، لكن ماذا لو تحولت السخافات إلى سلطة شرعيّة، ما هي النتيجة؟

هناك بنية شديدة السخريّة في الفيلم؛ إذ نرى المؤمنين بالأرض المسطحة، وهم يزورون متحف ناسا، ويتهكمون من مركبات الفضاء التي برأيهم ترسل فارغة إلى الفضاء لخداع الناس، فالمتحف و"علومه" دليل على مؤامرة كبرى، وهم، سيكشفون الحقيقة، باستخدام أول مفهوم علميّ متفق عليه وهو "التجربة"، وهنا يبدأ التشويق: هل حقيقة ستثبت هذه المجموعة من اللاعلماء أن الأرض مسطحة؟

ما حصل أن محاولتهم الأولى لإطلاق شعاع ليزر بين عمودين باءت بالفشل، كونهم لا يمتلكون ليزر صناعياً، كما أن حساباتهم لم تكن دقيقة. لكن، وبعد إعادة التجربة مع ضوء طبيعي يطلق بين عمودين، وفي ثوان قبل نهاية الفيلم، يثبتون من دون أن يعلموا أن الأرض كرويةّ، فمصدر الضوء الأول كان أعلى من نقطة النهاية.
دلالات
المساهمون