في عزلة لبنانية يفرضها تفشّي كورونا، وعجز السلطات المحلية عن إدارة أزمة يُسببّها الوباء وتفشّيه؛ وفي أسوأ أزمة اقتصادية ـ اجتماعية يُعانيها لبنانيون كثيرون رغم صمت غالبيتهم الساحقة عن تلك المعاناة، ورغم رضوخ تلك الغالبية لسطوة قبيلة أو طائفة أو مذهب؛ يلجأ البعض إلى منصّات ومواقع وشاشات، يُفترض بها أنْ تمنحه شيئاً من متع بصرية، لن يحصل عليها دائماً، لأسبابٍ إنتاجية غالباً. منصّات ومواقع وشاشات تُحيل الراغب فيها إلى عناوين ومواضيع وحكايات، يقلّ فيها الكوميديّ السليم، فالعنف طاغٍ في بلدان ومجتمعات، كما القهر والألم والخراب والانكسار والخيبة. هذا حاصلٌ هنا وهناك، الآن وكلّ آن، فالوباء سببٌ، والنهب اللبنانيّ المنظّم سببٌ أيضاً.
لكنّ بشاعة أقوالٍ لبنانية تزيد بؤس الفرد وشقاء الراهن، لشدّة بهتانها وكذبها وافتراءاتها وتشويهها حقائق ووقائع، إنْ يكن مطلقوها سياسيون أو حزبيون أو أمراء طوائف وأسياد قبائل و"أبطال" حروبٍ عبثية في داخلٍ لبناني مهترئ ومعطّل. منصّات ومواقع وشاشات تطرح أسئلة تتكرّر منذ تفشّي كورونا وتبعاته، من دون بلوغ حدٍّ أدنى من إجابات وافية، وهذا أفضل، فالحسم يُعطِّل كلّ نقاش مطلوب لمزيدٍ من التواصل والفهم والوعي والمعرفة والإدراك.
الأمثلة كثيرة. لكنّ أمراً لافتاً للانتباه تُثيره "نتفليكس" منذ أعوامٍ، وشدّة حضوره الآن تدعو إلى تساؤل عنه: إنْ تكن أفلامٌ روائية عدّة، خاصّة بتلك المنصّة الأميركية (إنتاجاً بالدرجة الأولى)، معقودة على تشويق وجنسٍ وتفاصيل عاديّة لا جديد فيها ولا مُفيد، سينمائياً وجمالياً ودرامياً؛ فإنّ للوثائقيّ المُنتج بفضلها أولوية جماليّة، تُبهر العين والعقل والانفعال معاً، لمواضيعها المهمّة، ولأنماط اشتغالاتها الفنية والتقنية، ولتمكّنها من إعادة صوغ المشهد/ الحكاية/ سيرة الشخصية بتخييل سينمائيّ مناسِب للمادة الأصليّة. توثيق يلتزم "قواعد التلفزة" (إنْ يصحّ التعبير) في إنجاز الوثائقيّ، لكنّه ـ في الوقت نفسه ـ منفتحٌ على السينمائيّ والسرديّ، ومرتكزٌ أحياناً على شخصيّة أخرى، غير تلك الأساسية في القصّة والفيلم، لسرد وقائع عبر بحثٍ توثيقيّ تاريخيّ غير مقيّد بشيء، إلى حدّ بعيد.
الشخصية الأساسيّة حاضرةٌ أساساً، وإنْ يمرّ وقتٌ (طويل أو قصير) على وفاتها، أو على الأحداث المختارة لسرد تفاصيلها. فالشخصية المرافقة للسرد والتنقيب ترتبط، أحياناً، بالشخصية الأساسيّة عاطفياً أو عقائدياً أو أخلاقياً، فتتوغّل في الماضي والأرشيف والتفاصيل المخبّأة هنا وهناك، وتذهب إلى وثائق وصُور وتسجيلات، وتستعين بأفرادٍ أحياء لهم ارتباطٌ ما بالقضية/ الشخصية، لصوغ مشهدٍ بصريّ ينتقي من السينما ما يدعم وثائقيّته، ويجعل الوثائقيّ حيّزاً بصرياً لفهمٍ ومعرفة واطّلاعٍ، أو لمزيدٍ من الفهم والمعرفة والاطّلاع.
الأمثلة الوثائقية متنوّعة، كتلك المتعلّقة بالروائيّ المُنتج بأموال "نتفليكس"، أو الذي تشتري المنصّة حقوق عرضه على شاشتها. للوثائقيّ أولوية، متأتية غالباً من التطوّر الفكري والثقافي والفني والإنتاجي والتقني الذي يعرفه الوثائقيّ منذ أعوامٍ. تمكُّنُ المهتمّ من الحصول على ما يبتغيه من معلومات أرشيفية بسهولة أكبر من السابق، عاملٌ أساسيّ في توفير متطلّبات تجديدية في إنجاز وثائقيّات متحرّرة من المفهوم الكلاسيكي التقليدي للتسجيليّ القديم.
استعادة وثائقيات تأكيدٌ على هذا: "من قتل مالكولم أكس؟" (2020) لراشيل دْردْزِن وفِل برتلسن ("العربي الجديد"، 17 يونيو/ حزيران 2020)، و"القاتل في الداخل: عقل آرون إرنانديز" لجينو ماكدِرْمت ("العربي الجديد"، 27 يناير/ كانون الثاني 2020)، و"مصنع أميركي" (2019) لجوليا رايكرت وستيفن بغْنار، و"مدينة الخوف: نيويورك ضد المافيا" (2020) لسام هوبكنسن (موسم واحد لغاية الآن، في 3 حلقات، يُعرض على شاشة "نتفليكس" منذ 22 يوليو/ تموز 2020)، الذي يروي تفاصيل سيطرة العائلات المافياوية الـ5 على نيويورك، في سبعينيات القرن الـ20 وثمانينياته تحديداً: غامبينو وكولومبو وبونانّو ولوكيزي وجينوفيزي. تفاصيل وصُور ولقاءات مع مافياويين وعملاء فديراليين وباحثين، تستعيد مرحلة ثريّة للغاية بالنسبة إلى عائلاتٍ، تعجز مؤسّسات أمنية عدّة عن مواجهتها، قبل سقوطها المدوّي لاحقاً.
في السلسلة الوثائقية التلفزيونية القصيرة هذه، تختفي الشخصية المحورية، لغلبة أفرادٍ معنييّن بالمسألة مباشرة، فهم أحياء، وهم الأقدر على تبيان وقائع مرحلة مليئة بالعنف والأرباح المالية الكبيرة (تتراوح أرباح العائلات المافياوية تلك، في الفترة المذكورة أعلاه، بين 60 و100 مليار دولار أميركي سنوياً). عملاء فيدراليون يروون حقائق، وإنْ يكن بعضها سلبياً لهم، إذْ يعترفون أنّ عجزاً يُصابون به إزاء مطارداتهم العائلات، وإزاء إمكانية ربط "الجنود" بـ"عرّابيها" ورؤوسائها، قبل تمكّنهم من اختراقها، والبدء بتفكيكها، أو تخفيف حدّة سطوتها. صُور وتسجيلات ومقاربات بصرية تمنح السلسلة الوثائقية جمالية التوليف الذي يُعيد ابتكار المشهد وفقاً لواقعيّته.
كلّ وثائقيّ، و"مدينة الخوف" أجدد تلك الوثائقيات، يستحقّ معاينة نقدية مستقلّة، لما فيه من معطيات توثيقية واشتغالات بصرية مهمّة. هذا يختلف كلّياً عن غالبية الأفلام الروائية، العادية أو الأقلّ من العادية أحياناً، التي تُصدرها "نتفليكس" بين حينٍ وآخر؛ من دون تناسي ندرة الأفلام الروائية المهمّة والمثيرة لسجالات نقدية سوية.